إرفينج فيشر يفقد حقيبته ثم ثروته
أول محاولة جادة لفرض العقلانية والعلم على السوق تأتي في العقود الأولى من القرن العشرين، ولا تحقق نجاحًا بالقدر الكافي.
***
«نحن في عام ١٩٠٥. ثمة رجل أنيق المظهر في أواخر الثلاثينيات من عمره يتحدث باهتمام شديد عبر هاتف عُملة في محطة جراند سنترال في نيويورك، وبين ساقيه توجد حقيبة جلدية. يترك الرجل بابي كابينة الهاتف مفتوحين، فيخطف لص الحقيبة ويفر. من واقع ما نعرفه عن صاحبها نقول إنها فائقة الجودة، ولن يصعب العثور على مشترٍ يرغب في شرائها.
أما محتويات الحقيبة فشأن آخر. فبداخلها مخطوطة شبه مكتملة تجمع بين الاقتصاد ونظرية الاحتمالات وممارسة الأعمال الواقعية على نحو لم يره أحد من قبل. إنها في جزء منها بحث في الاقتصاد وفي جزء آخر منها كتاب أولي يتناول ما ينبغي أن يكون عليه الاستثمار العقلاني العلمي في سوق الأسهم. إنها إطلالة على مستقبل وول ستريت البعيد.»
•••
لكن الأزمنة كانت في تغيُّر. كان حصول «عامة المضاربين» على معلومات جيدة عن الأسهم والسندات يزداد سهولة، وكانت الشركات قد أصبحت أكبر حجمًا وأكثر حرصًا على مظهرها المحترم من أن يسيطر عليها مجرد بعض الأخلَّاء. كانت الزوايا المظلمة في وول ستريت قد بدأت تُضاء. ولعل عالَم الاستثمار «كان» مهيَّأً لنهج علمي الطابع بدرجة أكبر.
لم تُرَ المخطوطة المسروقة مرة أخرى قط، لكن مؤلفها إرفينج فيشر — أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل — كان من عادته التغلب على الانتكاسات التي قد تدفع فردًا أقل منه (أو أكثر منه واقعية) إلى اليأس. ففيما كان يتهيأ للانطلاق قاصدًا الجامعة سنة ١٨٨٤، مات أبوه بمرض السل، تاركًا الطالب الجامعي يعول أمه وإخوته الصغار. وبالتزامن مع بداية انطلاقه في حياته المهنية في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، خرَّ هو نفسه صريع مرض السل الذي أقعده لسنوات. وفي ١٩٠٤، وبعد أن استردَّ أخيرًا عافيته وعاود العمل، رأى بعينيه النار وهي تأتي على المنزل الذي كان يعيش فيه هو وزوجته وطفلاه والواقع شمال حرم جامعة ييل مباشرة.
لم يتَّضح أثر الكتاب على وول ستريت على الفور؛ إذ لم يهرول سماسرة الأسهم والمضاربون لشرائه، ولا يوجد ما يدل على أن المستثمرين بدءوا يُجْرُون حسابات للاحتمالات قبل شرائهم الأسهم حسبما أوصى فيشر. لكن فيشر كان على الأقل مثابرًا بقدر افتقاره إلى مهارات البقاء في بيئة المدن. وبدأت أفكاره تؤتي ثمارها بعض الشيء خلال حياته، ثم حققت المزيد من الانتشار بعد وفاته سنة ١٩٤٧.
تزيِّن الكتب التي تنحدر انحدارًا مباشرًا أو غير مباشر من عمل فيشر، مكاتبَ مديري صناديق التحوط واستشاريي المعاشات والمستشارين الماليين والمستثمرين الهواة. فالجانب الكمِّيُّ متزايد الغلبة من جوانب العالم المالي — أرض العجائب والغرائب بما تضمُّ من برمجيات تحديد المحفظة الاستثمارية المُثلى، والارتباط المعزَّز بمؤشر، ومخصصي الأصول، ومبادلات الالتزام مقابل ضمان، ومقاييس بيتا، ومقاييس ألفا، وتقييمات «مستنبطة من النماذج» — هو مجال كان للأستاذ فيشر — من ناحية فكره — بمنزلة بيته. ربما لا يكون فيشر «أبا» وول ستريت الحديث، لكنه يقينًا أحد آبائه.
ومع هذا، قلما ينعته أحد بذلك. أساتذة الاقتصاد يحترمون في فيشر إنجازاته النظرية، أما خارج هذا العلم، فالسبب الوحيد لشهرته الدائمة هو النصيحة المرعبة التي قدمها في العشرينيات بشأن سوق الأسهم. اقرأ أي تأريخ للسنوات التي سبقت الانهيار الكبير في أكتوبر ١٩٢٩، وستجد الأستاذ الشهير فيشر يقوم بدور الجوقة البلهاء؛ حيث يطلُّ برأسه كل بضع صفحات ليؤكد أن أسعار الأسهم بلغت «هضبة مستقرة الارتفاع». لم يكن يقول أشياء ظاهرها الصدق فحسب؛ حيث بدَّد ثروته (التي اكتسبها بالزواج ثم زادها بنجاحه التجاري) في السوق المتدهورة في أواخر ١٩٢٩ وأوائل الثلاثينيات.
شخصيتا فيشر التاريخيتان (بهلوان الانهيار الكبير ومهندس الحداثة المالية) ليستا غريبتين إحداهما عن الأخرى خلافًا لما قد يبدو لأول وهلة. ففي السنوات الأولى من القرن العشرين رسم فيشر مسارًا للسلوك العلمي العقلاني للاعبين في سوق الأسهم. وفي أواخر العشرينيات — وبعد أن أعماه جزئيًّا نجاحه المالي المذهل — صار مقتنعًا بأن جماهير المضاربين والمستثمرين في أمريكا (ناهيك عن مسئولي مصارفها المركزية) يتبعون في حقيقة الأمر نصائحه، ومن ثم ستكون الأمور على ما يرام.
كان إرفينج فيشر قد انصاع لخرافة السوق العقلانية، تلك الخرافة عظيمة التأثير التي تفسر — جُل الوقت — الواقع تفسيرًا شبه تام، لكنها مع ذلك خرافة. إنها مبالغة في التبسيط من شأنها — إذا قُبلت قبولًا حرفيًّا تمامًا — أن تؤدي إلى شتى أنواع الاضطراب. لم يكن فيشر إلا أول شخص في طابور من العلماء البارزين الذي رأوا منطقًا ونظامًا علميًّا في السوق، وجعلوا من أنفسهم أضحوكة على أساس هذه القناعة. لكن معظم الآخرين جاءوا بعد ذلك بزمن طويل، أما إرفينج فيشر فكان سابقًا لزمانه.
•••
غير أنه لم يكن وحده في أفكاره المتقدمة حول الأسواق المالية. ففي باريس، درس طالب الرياضيات لوي باشوليي تقلُّبات الأسعار في بورصة باريس بهمَّة مماثلة، فكانت النتيجة أطروحة دكتوراه ستساعد — عند الكشف عنها بعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان على فراغه منها سنة ١٩٠٠ — على إعادة تدشين دراسة الأسواق المالية.
سُمِّيت أعظم أداة لبناء المعرفة على مثل هذا الجهل باسم التوزيع الجاوسي (نسبة إلى الفلكي والرياضي الألماني كارل فريدريش جاوس)، أو التوزيع الطبيعي، أو ببساطة منحنى الجرس. فمصفوفة الأعداد الجاوسية يمكن وصفها وصفًا ملائمًا بذكر المتوسط الحسابي (بمعنى قمة الجرس) وما صار يعرف في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر باسم الانحراف المعياري (عرض الجرس). كان منحنى الجرس — مثلما بدأ علماء ذلك الزمان يكتشفون — يطل برأسه مرارًا وتكرارًا في قياسات الظواهر الطبيعية، وكانت الرغبة في تطبيقه على النشاط البشري بالنسبة للبعض لا تقاوم.
كان عمله مبتكرًا إلى حد أنه عندما استخدم ألبرت أينشتاين، بعد ذلك بخمس سنوات، أدوات رياضية مماثلة لوصف الحركة العشوائية للجسيمات الدقيقة العالقة في مائع أو غاز (تسمى «الحركة البراونية» نسبة إلى عالم النبات الذي كان أول من نوَّه إليها)، ساعد على وضع أسس الفيزياء النووية. لكن في حين أن الفيزيائيين كانوا — بالبناء على عمل أينشتاين — يصنعون قنابل ذرية بحلول أربعينيات القرن العشرين، فإن التطبيق العملي لأفكار باشوليي لم يبرز حتى سبعينيات ذلك القرن.
فبانورج — إحدى شخصيات روايات جارجانتوا وبانتاجرويل الساخرة للكاتب رابيليه — يدفع قطيعًا من الغنم إلى القفز من على متن سفينة بإلقائه كبشها القائد في البحر. وفي تمحيصه لبورصة باريس، لم يتفادَ باشوليي الخراف المتدافعة إلا بالحد من تطبيق معادلاته. كتب بوانكاريه في تقريره حول تقييم الأطروحة: «ربما يخشى المرء أن يكون المؤلف قد بالغ في إمكانية تطبيق نظرية الاحتمالات مثلما حدث كثيرًا. لحسن الحظ أن الحال ليس كذلك.»
•••
كان بمقدور إرفينج فيشر الذهاب إلى حيث لم يذهب باشوليي؛ لأنه كان يتمتع بما هو أكثر من مجرد الرياضيات ونظرية الاحتمالات؛ فقد كان «اقتصاديًّا». وكان بمقدوره أن يذهب إلى حيث لم يذهب الاقتصاديون الآخرون؛ لأنه — خلافًا لكل معاصريه إلا قليلًا — كان «رياضيًّا». كان بمقدوره أن يحقق شيئًا ملموسًا بأفكاره الثاقبة؛ لأنه كان ثريًّا مقيمًا في بلد كانت الأسواق المالية فيه — في العقود الأولى من القرن العشرين — بادئة للتو في النمو لتصير أسواقًا ضخمة ستسيِّر الاقتصاد طوال بقية القرن وما بعده.
بعد نيله الدكتوراه سنة ١٨٩٣، تزوج فيشر إحدى بنات أثرى أسرة في موطنه رود آيلاند، وتكفَّل أبوها رجل الصناعة (مؤسس شركة صارت إحدى لبنات شركة ألايد كيميكال) بتكاليف رحلة عبر أوروبا مدتها سنة للعروسين فيما كان يشيد لهما قصرًا يقع مباشرة شمال حرم جامعة ييل التي كان فيشر قد تلقى منها بالفعل عرضًا لتدريس الرياضيات والاقتصاد. التقى فيشر في مغامرته الأوروبية معظم الآباء المؤسسين للاقتصاد النيوكلاسيكي، وحضر بعض محاضرات بوانكاريه حول الاحتمالات في باريس. ولدى عودته استغلَّ معرفته الاقتصادية في إحدى مسائل السياسة العامة لأول مرة.
•••
كانت الأحداث التي تلت نشر فيشر حجة قاعدة الذهب برهانًا نموذجيًّا على حدود بعد النظر؛ حيث وضعت اكتشافات الذهب في ألاسكا وجنوب أفريقيا — مقرونة بتطوير عملية جديدة لاستخلاص الذهب من الركاز — العالَم على مسار تضخمي دام عقودًا ولم يكن قد تنبأ به أحد. وقد أقنعت الطريقة التي تعامل بها الناس مع الأسعار الصاعدة — أو بالأحرى أخفقوا في التعامل معها — فيشر بأن براين كان مصيبًا سنة ١٨٩٦.
في خضم هذه المراجعة، وسنة ١٨٩٨، ألمت بفيشر أزمة شخصية مريعة؛ حيث تبين أنه في بدايات الإصابة بمرض السل، وهو المرض ذاته الذي أودى بحياة أبيه قبل أربعة عشر عامًا. لم يتعافَ الأستاذ الشاب إلا بعد ثلاث سنوات قضاها في العيادات في جنوب كاليفورنيا وشمال ولاية نيويورك وكولورادو سبرينجز وثلاث سنوات أخرى قضاها عاملًا بنصف طاقته بعد عودته إلى نيو هيفن. خرج من هذه التجربة ولديه هاجس بالصحة الجيدة وحماسة بالغة لتحسين العالم قبل موته، فصار من كبار المنادين بحظر المشروبات الكحولية، وشارك في تأليف واحد من أكثر الكتب المدرسية رواجًا عن النظافة الصحية، ومن مريدي الدكتور كيلوج ابن مدينة باتل كريك، وأحد المؤيدين الأُول لعصبة الأمم، وأحد كبار أنصار علم تحسين النسل.
صارت هذه القضية الأخيرة منذ ذلك الحين اتهامًا ظالمًا، لكن القصد كان تحسين العالم، ويمكن قول الشيء نفسه عن اقتصاد فيشر فيما بعد تعافيه من السل. تحول فيشر إلى ما كان معلمه ويليام جراهام سمنر يسخر منه واصفًا إياه بأنه «طبيب اجتماعي»، لكنه لم يبتعد قط عن حدود النظرية النيوكلاسيكية. قاده عمله في مجال السياسة النقدية إلى قضاء عقود من الزمن في توعية الأمريكيين بالتضخم والانكماش وتشجيع السياسات الحكومية للإبقاء على استقرار الأسعار، واتسمت تجربته مع سوق الأسهم بروح مماثلة.
لو كان صحيحًا أن كل مضارب على حدة اتخذ قراره على نحو مستقل عن الآخرين كلهم بشأن مسار الأحداث المستقبلي، فإن أخطاء بعض الناس ستعادلها على الأرجح أخطاء الآخرين. لكن أخطاء العامة تسير في واقع الأمر في اتجاه واحد، فهم كالخراف يتبعون قائدًا واحدًا.
آه، تلك الخراف مرة أخرى. لكن فيشر، وهو المعنيُّ دائمًا بتحسين المجتمع، كان يأمل أن يجعل المستثمرين أقل شبهًا بالخراف بجعلهم يستخدمون علم الاقتصاد ونظرية الاحتمالات؛ حيث كتب يقول إن قيمة أي استثمار هي الدخل الذي سيدرُّه. فالمال في المستقبل لا يتساوى تمامًا مع المال في يومنا هذا، والناس معدمو الصبر، ويجب تعويضهم عن الفرصة الضائعة لعدم استثمارهم في نشاط منتِج آخر. إذن فالقيمة الحالية هي تدفق الدخل المتوقع مخصومًا بمقدار تفضيل الناس الحصول على المال الآن لا فيما بعد، والمعروفة أيضًا «بالفائدة».
لم يكن لهذا التمييز أي معنى اقتصادي بالنسبة لفيشر. فحقيقة أن فائدة السندات مضمونة في حين أن أرباح الأسهم ليست مضمونة كانت مجرد اختلاف في الدرجة. ولا ننسى أن جهات إصدار السندات كان من الممكن أن تفلس، كما كان من الممكن أن يقلِّص التضخم قيمة السندات حتى «الأكثر موثوقية» منها. نعم، كانت هناك درجة أكبر من اللايقين في تقييم الأسهم منها في السندات. لكن ماذا في ذلك؟ وفي حين أن باشوليي كان قد ميز بين الاحتمال الثابت لألعاب الحظ (الذي يمكن تمثيله رياضيًّا) والاحتمال «الشخصي» ذي الصلة بتوقع المستقبل (الذي قال إنه لا يمكن تمثيله رياضيًّا)، رأى فيشر الاختلاف كاختلاف في الدرجة. وقال إنه حتى الاحتمال «الموضوعي» لرمي النرد والعملة المعدنية ليس شيئًا مضمونًا؛ حيث يمكنك أن ترمي عملة معدنية مليون مرة ومن الممكن — وإن كان هذا بعيد الاحتمال بشدة — أن تكون النتيجة «وجهًا» كل مرة.
اقترح فيشر أن يحصي المستثمرون الأرباح التي يتوقعون أن يدرَّها سهم ما في المستقبل، ثم يضعون ذلك الدخل التقديري في معادلة من النوع المستخدم لتقييم السندات. كان يمكن عندئذ تعديل هذه «القيمة عديمة المخاطر» بجمع تقديرٍ لاحتمال كون أرباح الأسهم أكبر من المتوقع وطرح احتمال كونها أقل. عندئذ يمكن ضرب هذه القيمة في «مقدار الحيطة» (اقترح فيشر تسعة أعشار دون مزيد من التوضيح) للتوصل إلى سعر.
في وقت من الأوقات، لم يكن رجال الأعمال يستخدمون جداول السندات، ولم يكونوا يحسبون قوائم التكاليف، بل وكان التعاقد على التأمين على الحياة يتم في لا مبالاة ساخرة بأية جداول وفيات. ومثلما استُبدل بهذه الطرق غير الدقيقة عمل يقوم به خبراء محاسبون وإكتواريون، ينبغي الاستعاضة عن التخمين المحض حول أوضاع الدخل المستقبلي باستخدام التطبيقات الإحصائية الحديثة للاحتمالات.
كان فيشر يقول إن اللايقين لا يمكن استبعاده، لكن يمكن تذليله بالبيانات الكافية وطريقة التفكير السليمة. وبحلول عام ١٩٠٦، كانت البيانات تُنتَج بوفرة، أما طريقة التفكير فقد استغرقت وقتًا أطول قليلًا.
•••
مع بروز عمالقة صناعيين جدد مثل ستاندرد أويل، ويو إس ستيل، وجنرال إلكتريك في العقود التي سبقت مطلع القرن وتلته، دفعها توقها إلى نيل الاحترام والحصول على رأس المال إلى الإفصاح عن مزيد ومزيد من البيانات عن شئونها المالية، فنشأت مراكز بيانات، مثل موديز، وفيتش، وستاندرد ستاتيستيكس، لتجميع هذه المعلومات ونشرها. ووُلدت صحيفة «وول ستريت جورنال» سنة ١٨٨٣، وسرعان ما بدأ بعد ذلك مؤسسها المشارك تشارلز داو في تجميع متوسطات أسعار الأسهم، التي سمحت للمستثمرين لأول مرة بمناقشة كيفية أداء «السوق». ووُلدت مهنة «إحصائي» سوق الأسهم الذي يعمل في معالجة البيانات، ويعتبر السلف القادر على معالجة الحسابات الرقمية المعقدة، الذي تحدَّر منه محلل الأوراق المالية المعاصر.
لم يكن قادة ثورة المعلومات هذه مهتمين باستكشاف حدود اللايقين والاحتمالات كما نصح فيشر، بل كانوا يأملون أن تعطيهم قدرتهم على معالجة العمليات الحسابية المعقدة شيئًا أكثر قيمة؛ وهو تمكينهم من رؤية المستقبل والتنبؤ بدورات السوق.
كان يبدو أن معظم الناس يدركون وجود دورات. تطورت أسواق الأوراق المالية كما نفهمها اليوم (بورصات «في أماكن مغلقة» عاملة باستمرار) في أواخر القرن الثامن عشر مع شروع الحكومات الأوروبية في بيع السندات على نحو منتظم، وذلك لتمويل الحروب بالدرجة الأولى. حدثت قبل ذلك حالات من الهوس والهلع في السوق؛ منها هوس الخزامى في هولندا في ثلاثينيات القرن السابع عشر، وفقاعة شركة المسيسيبي في فرنسا في مستهل القرن الثامن عشر، وفقاعة شركة ساوث سي في إنجلترا. ولم يحدث أن بدأ المراقبون يرون اطِّرادًا معينًا فيها إلا في القرن التاسع عشر، وبدا هذا الاطراد أشبه بآلية الساعة. ففي إنجلترا كانت هناك حالات هلع في الأسواق في ١٨٠٤-١٨٠٥، و١٨١٥، و١٨٢٥، و١٨٣٦، و١٨٤٧، و١٨٥٧.
جاء تفسير مبكر شهير لهذه الدورات من الاقتصادي الرياضي ويليام ستانلي جيفونز الذي اقترح في سبعينيات القرن التاسع عشر أن المسئول عن هذا هو تزايد البقع الشمسية وتناقصها، وهما يحدثان في دورات مدة الواحدة منها إحدى عشرة سنة. وعلى هذا الأساس، تنبأ جيفونز بأن انهيارًا سيحدث سنة ١٨٧٩. وعندما حدث انهيار في أكتوبر ١٨٧٨ حسِب أنه كان قريبًا بدرجة كافية مما تنبَّأ به. لكن بعد موت جيفونز سنة ١٨٨٢، وقعت سلسلة من الانكماشات في السوق البريطانية دون أن تتبع جدوله الزمني. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، تجنب معظم الاقتصاديين الأكاديميين التنبؤات الصارمة بتقلُّبات الأعمال التجارية.
لكن المشاركين في السوق ازدادوا اهتمامًا بالتنبؤ بهذه الدورات. وبحلول أوائل القرن العشرين، كانت قد ظهرت مدرستان فكريتان رئيسيتان، اقترحت إحداهما إمكانية التنبؤ بمستقبل السوق من خلال دراسة دقيقة للبيانات الاقتصادية الأساسية، ورأت الأخرى أن كل ما يلزمنا من بشارات ونذر يمكن العثور عليه في تحركات أسعار الأسهم ذاتها.
في الولايات المتحدة، كان العضو الأبرز في المدرسة الأولى هو روجر بابسون، خريج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سنة ١٨٩٨، وخريج مصحة السل بكولورادو سبرينجز مثله مثل إرفينج فيشر. كان بابسون بائع سندات فاشلًا في بوسطن قبل معركته مع مرض السل. وبعد ذلك رأى أنه ربما يكون أحسن حظًّا في بيع معلومات حول السندات بدلًا من السندات ذاتها، فبدأ بالكشف عن حقائق حول عروض بيع السندات غير المعروفة وعرضها على السماسرة. ثم طبع أخبارًا عن الشركات على بطاقات فهرسة يمكن للمشتركين حفظها في ملفات لتسهيل الوصول إليها. وتطورت هذه الخدمة بعد أن باعها بابسون سنة ١٩٠٦ لتصبح ستاندرد ستاتيستيكس (التي تحولت إلى ستاندرد آند بورز بعد عملية اندماج فيما بعد). ثمة مشروع آخر من مشاريع بابسون صار فيما بعد مكتب التسعير الوطني، وهو خدمة إدراج للأسهم المتداولة خارج المقصورة كانت بشير بورصة ناسداك.
يتصادف أن هذا هو تعريف خط الاتجاه، الذي لا يمكن رسمه بيقين إلا بعد الواقعة. كان بابسون يذكر حقيقة بديهية ليس غير، لكنه على الرغم من ذلك أقنع نفسه وآخرين كثيرين بأنه باستخدام بيانات أفضل وأفضل، يستطيع فريقه المتميز من الإحصائيين إعطاء تقريب أفضل وأفضل للاتجاه مسبقًا. قال بابسون في عشاء نظمته الجمعية الإحصائية الأمريكية في نيويورك في أبريل ١٩٢٥ إن من «الحماقة» أن يحاول المرء التنبؤ بالتقلبات قصيرة الأمد في سوق الأسهم، لكن «معظم الخدمات الاقتصادية لديها سجل نظيف في التقلبات طويلة الأمد.» وجادل بأن المرء يمكنه — بالنظر بدقة كافية إلى المعلومات المتاحة حول الإنتاج الصناعي والمحاصيل والتشييد واستخدام السكك الحديدية وما أشبه ذلك — أن يتنبأ بالاتجاه الذي يمضي فيه الاقتصاد ومن ثَمَّ سوق الأسهم.
كان هناك متحدث آخر في حفل العشاء تلك الليلة رأى الأشياء رؤية شديدة الاختلاف، وهو ويليام بيتر هاملتون — مدير تحرير صحيفة «وول ستريت جورنال» — الذي كان يعتقد أن سوق الأسهم تتنبأ بالاقتصاد وليس العكس. كان هاملتون قد كتب قبل ذلك بثلاث سنوات يقول: «تمثل السوق كل شيء يعرفه الجميع ويأملونه ويصدقونه ويتوقعونه.» وقد أخبر الجمهور في نيويورك بأن السوق «تنبأت» بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قبل الهدنة بأحد عشر شهرًا. لم يكن هذا الزعم مختلفًا تمامًا عما كان إرفينج فيشر قد كتبه سنة ١٨٩٦. فالمستثمرون لديهم بُعد نظر.
لكن هاملتون كان يعتقد أيضًا — مثلما صار فيشر يعتقد — أن المستثمرين يمكنهم أن يسلكوا أيضًا سلوك الخراف، ويعتقد أن تحركاتهم الأشبه بتحركات القطيع يمكن التنبؤ بها جزئيًّا على الأقل. وقد نسب الفضل في رؤيته للسوق إلى الرجل الذي شغَّله في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وهو المؤسس المشارك تشارلز داو. أنشأ داو متوسطه اليومي الشهير لأسعار اثني عشر سهمًا قياديًّا سنة ١٨٨٤، وكتب — ابتداءً من سنة ١٨٩٩ وحتى وفاته سنة ١٩٠٢ — سلسلة من المقالات الافتتاحية في صحيفة «وول ستريت جورنال»، أطلع فيها القراء على المعارف التي اكتسبها خلال عقد ونصف العقد من مراقبة متوسطات أسعار الأسهم.
زعم داو أننا إذا رسمنا مخططًا لتحركات المتوسطات على مدى بضع سنوات، يمكننا أن نرى أنماطًا واضحة تبرز أمامنا. وكتب يقول في ١٢ مارس ١٨٩٩: «لسوق الأسهم ثلاثة تحركات؛ لها تقلب يومي … ولها تذبذب أوسع يعمل في أغلب الأحوال خلال فترة طولها نحو ٢٠ إلى ٤٠ يومًا، ثم لها تحركها الرئيسي الذي يمتد على مدى سنوات.» كان السبيل إلى النجاح في وول ستريت من وجهة نظر داو هو الشراء أثناء التحركات الرئيسة الصاعدة (الأسواق المتجهة إلى الصعود) والبيع أثناء التحركات النازلة (الأسواق المتدهورة). كتب داو في ٢٤ أبريل ١٨٩٩ يقول: «عندما يكون لدى العقل الجماهيري ميل محدد — سواء أكان صاعدًا أم نازلًا — فهو لا يُغيَّر بسهولة. ربما يتغير العشرات أو المئات من الأشخاص، لكن السواد الأعظم يمضي في الاتجاه ذاته.»
•••
رأى إرفينج فيشر ما تسمى دورة الأعمال التي استحوذت على بابسون وهاملتون باعتبارها مجرد أثر جانبي للصعوبة التي واجهها الناس في استيعاب التغيرات في قيمة الدولار. لقد رأوا انكماشًا أو تضخمًا وحسبوه زيادات أو نقوصات حقيقية في أسعار السلع، وكيَّفوا إنفاقهم واقتراضهم على نحو غير منتظم وغير متسق؛ مما أسفر عن تقلبات اقتصادية صعودًا وهبوطًا.
كان فيشر يأمل أيضًا أن يتصدى للتضخم والانكماش بربط قيمة الدولار بسلة متنوعة من السلع كي لا يكون تحت رحمة أهواء شركات تعدين الذهب. ولم يحدث هذا قط، لكن إنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي سنة ١٩١٣ أتاح قيام علاقة أكثر مرونة بين الدولار والذهب. فقد أنشئ هذا النظام، وهو من النتائج المؤجلة لهلع سنة ١٩٠٧، للحيلولة دون تكرار حالات الهلع هذه بضمان عدم نفاد السيولة النقدية لدى البنوك. كما كان يملك أيضًا سلطة التحكم في كمية النقود المتداولة (بمعنى أنه يُنشئ دولارات جديدة أو يسحبها من التداول) والتأثير على مستوى الأسعار.
كان فيشر مرتابًا في البداية خشية أن تؤدي الضغوط السياسية إلى إمالة نظام الاحتياطي الفيدرالي نحو سياسات المال السهل التضخمية. لكن في عشرينيات القرن العشرين، تبنى المصرف المركزي نهج العملة المستقرة، وهو ما وقع منه موقع الرضا الشديد. كان يمكن لرئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بنجامين سترونج، بمقتضى سيطرته على مكتب تعاملات السوق المفتوحة في نيويورك، أن يزيد كمية النقود المتداولة أو ينقصها كما يشاء. وفي سنة ١٩٢٧، ضخَّت مشتريات السوق المفتوحة المكثفة التي أجراها سترونج نقودًا جديدة للتداول، وحالت دون تفاقم الركود الاقتصادي الخفيف. كان ذلك أول حل جيد وسهل يشهده نظام الاحتياطي الفيدرالي، ويبدو أنه أقنع فيشر بأن ما سماه «تقلب الدولار» صار شيئًا من الماضي.
•••
بحلول النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين، كان فيشر قد حقق أيضًا نجاحًا ماليًّا كبيرًا. كان قد اخترع قبل ذلك بسنوات نظامًا لحفظ البطاقات لمساعدته على تتبُّع أنشطته الكثيرة. كانت بطاقات الحفظ «إندكس فيزيبل» التي اخترعها فيشر، والمقطوعة بحيث يكون السطر الأول من كلٍّ منها باديًا للعيان من أول نظرة (شبيهة بجهاز رولوديكس الذي خرج إلى الوجود بعد ذلك بعقود) تقدمًا كبيرًا في تخزين المعلومات واسترجاعها. وفي سنة ١٩١٣، دشن شركة لتصنيع النظام وتسويقه، وفي سنة ١٩٢٥ باعها لشركة تصنيع التجهيزات المكتبية كارديكس راند، التي اندمجت مع عملاق الآلات الكاتبة رمنجتون لتكوين رمنجتون راند، إحدى شركات التكنولوجيا ذات الأسهم الأكثر رواجًا في عشرينيات القرن العشرين.
خلافًا لمن حذوا حذوه في سنين لاحقة، لم يحاول سميث تمحيص كيف كان أداء «كل» سهم على مر الزمن. فعلى الرغم من التطورات التي قدمها إرفينج فيشر ورمنجتون راند، لم يكن الكمبيوتر قد ظهر بعد. كانت أبحاث سوق الأسهم التاريخية عملًا مجهدًا للغاية؛ لذا اكتفى سميث بأخذ عينات، فجمَّع محافظ تضم كلٌّ منها عشرة أسهم، وقارن أداءها بعينة مماثلة من السندات على مدى فترات من عشرين عامًا عائدًا إلى الوراء حتى ١٨٦٦. ومن أجل الحصول على نتائج تمثيلية لتجربة المستثمر العادي، اختار سميث محافظه باستخدام معايير «عشوائية»؛ كرسملة السوق وحجم التعاملات وعائد أرباح الأسهم.
ليس بمستغرب أن كان فيشر من أشد المتحمِّسين لهذا الكتاب، كان متحمسًا له أشد مما ينبغي. وفيما يبدو أنه (وكثيرون آخرون في أواخر عشرينيات القرن العشرين) نسي أن مجرد تفوق الأسهم على السندات على مر الزمان لا يعني أنها ستتفوق عليها كل سنة. أقنع فيشر نفسه أيضًا بأن الاحتياطي الفيدرالي سيحول دون خروج التراجع الاقتصادي عن السيطرة (ولا ننسى أنه لم يحدث هلع كبير منذ سنة ١٩٠٧)، وأن الجموع المتنامية من مستثمري سوق الأسهم في أمريكا صارت من الرقي بدرجة لم تعد معها تشبه الخراف.
في ديسمبر ١٩٢٨، استعرض فيشر تقييمه للسوق في مقالة مطولة نُشرت في مجلة الأحد الملحقة بصحيفة «نيويورك هيرالد تريبيون» تحت عنوان «هل ستظل الأسهم على ارتفاعها في سنة ١٩٢٩؟» وكانت إجابة فيشر «نعم» جازمة. بدت أجزاء من المقالة أشبه كثيرًا بما سيصبح نصيحة قياسية بعد نصف قرن من ذلك التاريخ؛ حيث نبَّه فيشر إلى ضرورة أن يحْذر المستثمر الفرد من أن «يجعل حكمه المجرد في مواجهة الذكاء الجماعي لجماهير المتعاملين المحترفين»، لكن السلامة كانت في التنويع. وكتب يقول إنه «كلما كانت الاستثمارات أكثر خطرًا إذا أقدم عليها المستثمرون منفردين، كانت أكثر أمانًا إذا أقدم عليها المستثمرون مجتمعين، بغضِّ النظر عن الربحية، شريطة زيادة التنويع بدرجة كافية.» واعترف فيشر بأنه لا هو ولا أي شخص آخر يعرف بأمره «استنبط على نحو محدد» هذا المبدأ (الذي سيتعين عليه الانتظار ريثما يأتي هاري ماركويتز سنة ١٩٥٢).
•••
حظيت نظريات فيشر حول أسباب الكساد الكبير بتصديق قليل في ذلك الزمان، لكنها صارت مقبولة على نطاق واسع بين الاقتصاديين. غير أن سلوكه الاستثماري كان من الأصعب تبريره؛ إذ على الرغم من حديثه عن التنويع، كانت كِفَّة محفظته الخاصة مائلة إلى رمنجتون راند وبعض الشركات المبتدئة. وقد استمسك بحصته في رمنجتون راند فيما انخفض سعر سهمها من ٥٨ دولارًا إلى دولار واحد، متلافيًا الإفلاس بالاقتراض من شقيقة زوجته التي كانت ما زالت ثرية، وهو ما عرَّض سلامتها المالية للخطر الشديد؛ حيث واصلت السوق تدهورها سنتي ١٩٣٠ و١٩٣١ (أعفته من الديون في وصيتها). وقد باع فيشر ييل بيته الكائن في نيو هيفين شريطة أن يبقى فيه هو وزوجته طيلة عمريهما.
خرج روجر بابسون من الانهيار وثروته لم تكد تُمَسُّ مستعيدًا سمعته كخبير في التنبُّؤ. وما زال تراثه حيًّا في بابسون كوليدج — كلية الأعمال التي أسسها خارج بوسطن سنة ١٩١٩. لكن تنبُّؤاته التالية كانت بعيدة كل البعد عن الصحة، ولم تفعل تحذيراته متزايدة الغرابة من الثورة والهجوم النووي على بوسطن الكثير لصالح سمعته. أمضى منظِّر داو، ويليام بيتر هاملتون، معظم سنة ١٩٢٩ محاولًا تهدئة مخاوف المستثمرين والدفاع عن وول ستريت في مواجهة نقَّادها الذين كانت تتعالى أصواتهم يومًا بعد يوم. وبعد الانهيار ببضعة أسابيع أذعن للواقع وأعلن أن سوقًا متدهورة أخرى قد بدأت. ثم مرض فجأة بالالتهاب الرئوي ومات. وأقيل إدجار لورانس سميث من منصبه في الصندوق الاستثماري المشترك سنة ١٩٣١، وأمضى العقود القليلة التالية في وضع نظريات غريبة تربط دورة الأعمال بالطقس.
وهكذا تبقَّى لدينا الصامد دائمًا إرفينج فيشر، الذي رأى في ثلاثينيات القرن العشرين أفكاره العقلانية الرياضية عن الاقتصاد والأسواق تشهد نهضة بطيئة لكن لا تتوقف. ربما ارتكب بعض الأخطاء الفادحة في تطبيق العلم على سوق الأسهم، لكن فكرة «ضرورة» تطبيق العلم على السوق لم تكن آخذة في التلاشي.