التفوق على السوق مع وارين بافيت وإد ثورب
كون المستثمرين المحترفين في مجموعهم لا يستطيعون التفوق على السوق على نحو يعوَّل عليه لا يعني أن بعض المستثمرين لا يستطيعون ذلك.
***
في مايو ١٩٨٤، عقدت كلية كولومبيا لإدارة الأعمال مؤتمرًا؛ إحياءً لذكرى مرور خمسين سنة على نشر كتاب «تحليل الأوراق المالية»، الذي وُلد من رحم دروس بنجامين جراهام الليلية في أواخر عشرينيات القرن العشرين، وأحدث تحولًا في وول ستريت. دعا المنظمون متحدثَين لمناقشة ما عَمِله جراهام وشريكه في تأليف الكتاب، ديفيد دود. كان أحدهما وارين بافيت، وهو تلميذ سابق لجراهام بدأ يفوق أستاذه تألُّقًا، وكان الآخر أستاذ المالية مايكل جنسن، الذي أعلن قبل ذلك ببضع سنوات أنه «لا توجد في علم الاقتصاد فرضية أخرى تؤيدها أدلة تجريبية أقوى مما تؤيد فرضية كفاءة السوق.»
كان جنسن على دراية بأن جمهور كولومبيا يعج بأتباع جراهام، فاستهل حديثه بتعليق مازح عن شعوره كديك رومي اتُّخذ هدفًا في مسابقة رماية. وبعد ذلك لم يمسك عن الكلام، فأوضح في البداية أن سنوات من البحوث الأكاديمية أثبتت أن تحليل البيانات المتاحة علانية عن الأوراق المالية يكاد يكون بلا جدوى، على الأقل كوسيلة للتفوق على السوق. واستباقًا لِمَن قد يعترضون قائلين إن بعض ممارسي فن جراهام حققوا نجاحًا مبهرًا، نبذ ذلك باعتباره حظًّا.
كان بافيت جاهزًا لهذه المجادلة. في رد أعيد طبعه في مجلة خريجي كلية إدارة الأعمال بعد ذلك ببضعة أشهر، وتنوقل وأعيدت طباعته واقتبس مرات لا حصر لها منذ ذلك الحين؛ وصف بافيت أيضًا مسابقةً لرمي العملات المعدنية. الأمة كلها ستشارك في هذه المسابقة، مع مراهنة كل واحدٍ بدولار على الرمية الأولى وارتفاع الرهانات مع مرات الفوز بعد ذلك. بعد مائتي جولة من الرمي، سيبقى نحو ٢١٥ مليونيرًا. قال بافيت إن كثيرًا من هؤلاء الأشخاص سيصبحون مقتنعين بعبقريتهم. بعضهم سيؤلف كتبًا حول أسرار النجاح في رمي العملة، وآخرون سوف «يبدءون في التنقل جوًّا في كل أنحاء البلد فيحضرون ندوات حول كفاءة رمي العملات ويتصدون للأساتذة المتشككين بقولهم: «لو لم يكن هذا ممكنًا، فلماذا يوجد منا ٢١٥؟»»
إذا وجدت أن ٤٠ جاءوا من حديقة حيوان معينة في أوماها، يمكنك التيقن نوعًا ما من أنك اكتشفت شيئًا؛ لذا فسوف تذهب على الأرجح إلى راعي إنسان الغاب في حديقة الحيوان وتسأله عن طعام إنسان الغاب الذي يطعمه إياه، وعما إذا كان يؤدي تمارين معينة، وما الكتب التي يقرؤها، وما إلى ذلك.
لو كان الحضور في كولومبيا هم من تولوا تخصيص النقاط في المناظرة، لكان الفائز بافيت بلا جدال. كان الجمهور منحازًا، لكن جنسن أيضًا كان مبهورًا. قال جنسن: «أحد الأشياء التي خرجت بها من ذلك اللقاء أن وارين بافيت واحد من أذكى من قابلت على الإطلاق وأكثرهم حكمة. لقد استطاع أن يلعب على أرضي دون ارتكاب أخطاء … ليس من قبيل المصادفة أنه صاحب مليارات.»
أكان ينبغي أن يكون ذلك بوحًا عظيمًا؟ لا شك أنه كان من الصعب أن يفرِّق المرء بين المحظوظ والبارع في وول ستريت. كان صحيحًا أيضًا — كما أثبتت بحوث جنسن في ستينيات القرن العشرين — أن معظم مديري الصناديق الاستثمارية المشتركة أخفقوا في التفوق على السوق بعد المصروفات. لكن القفز من هذه الحقائق لزعم أن «كل» المستثمرين الناجحين هم مجرد مستفيدين من مصادفة كان أمرًا — اقتباسًا لإدانة روبرت شيلر لقفزة أخرى مماثلة من جانب أنصار كفاءة السوق — «لافتًا للنظر في خطئه المنطقي بداهةً.»
لقد كان خطأً ربما كان من الممكن فهمه في سياق ستينيات القرن العشرين، وقت أن كان معظم نجوم الاستثمار الكبار لا يزيدون إلا قليلًا عن كونهم راكبين لموجة سوق متجهة إلى الصعود. بعضهم كان أبرع في ركوب الموج من بعضهم الآخر — يتبادر إلى الأذهان نيد جونسون، مدير فيديليتي — لكن عندما كانت الموجة تتكسر، كانوا جميعًا يتكسرون أيضًا. كان أمرًا سهلًا — وفي معظم الأحوال دقيقًا — أن تنبذ ادعاء هؤلاء الأشخاص التألق الاستثماري بأنه أوهام. لكن بحلول أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدأ يتضح أن هناك أشخاصًا يعرفون كيف يربحون المال أيًّا كان ما تفعله السوق. لم يكن هناك كثيرون منهم، وكان من الصعب العثور عليهم، بل وإذا عثرت عليهم فربما لا يقبلون أموالك، لكنهم كانوا موجودين، والاثنان اللذان كان من الصعب كأشد ما يكون نبذهما كأحمقين محظوظين هما على الأرجح وارين بافيت، وأستاذ للرياضيات في كاليفورنيا تحول إلى مدير صندوق تحوط اسمه إد ثورب.
•••
كان نجاح بافيت قد بدأ يثير حيرة أساتذة المالية قبل لقائه جنسن سنة ١٩٨٤ بزمن طويل. فمنذ تجاهله نصيحة بنجامين جراهام سنة ١٩٥١ بتجنُّب سوق الأسهم (على الأقل حتى الانهيار التالي)، صنع بافيت سجلًّا استثماريًّا مذهلًا. لقد رُويت قصته بالتفصيل في مواضع أخرى، لكن وصفًا موجزًا لصعوده يكشف بعض العناصر بالغة الأهمية.
ومثلما فعل جراهام — معلم بافيت — عندما استقلَّ بنفسه في عشرينيات القرن العشرين، نظَّم الأخير مشروعه الاستثماري كشركة تضامنية. كان مستثمروه شركاء موصين يضعون في جيوبهم المكاسب كلها حتى ٦ في المائة سنويًّا، ثم يحصلون على ٧٥ في المائة من المكاسب السنوية بعد ذلك، مع حصول بافيت على البقية، فإذا خسرت الشركة مالًا، لم يكن يتقاضى أجرًا. لم يخبر مستثمريه بشيء عن الأسهم التي كان يشتريها ويبيعها، ولم يسمح لهم بتحريك أموالهم دخولًا وخروجًا إلا مرة واحدة في السنة، في ٣١ ديسمبر.
كانت هذه كلها خصائص ما يطلق عليه الآن صندوق التحوط، وإن كان معظم صناديق تحوط اليوم تتقاضى رسمًا سنويًّا بنسبة ١ في المائة (أو ٢ في المائة أو أكثر) على الأصول بالإضافة إلى حصة الأرباح. جاءت التسمية من ألفريد ونسلو جونز، الذي صاغ مصطلح «صندوق محوَّط» لوصف الطريقة التي كان يستثمر بها؛ ذلك أنه كان يشتري بعض الأسهم على الهامش (أي بأموال مقترضة) فيما يبيع أخرى في الوقت نفسه على المكشوف. كان جونز زميل دراسة بجامعة هارفرد لجون بير وليامز الذي دشن — بعد فترات قضاها كبحَّار ودبلوماسي وطالب دراسات عليا في علم الاجتماع وكاتب بمجلة «فورتشن» — شركة تضامنية استثمارية مع أربعة أصدقاء وبرأس مال بلغ ١٠٠ ألف دولار سنة ١٩٤٩. بدأ جونز يقبل استثمارات خارجية سنة ١٩٥٢ وفق ترتيب يشبه ترتيب بافيت لكن لا يطابقه؛ ذلك أنه كان يحتفظ بعشرين في المائة من الأرباح الصافية. ويطلق عليه الآن «أبو صندوق التحوط». لم يكن هيكل الشركة التضامنية الذي استخدمه ولا استراتيجية تحويط رهاناته بمبيعات على المكشوف جديدين في الواقع، لكن نجاحه أدى في ستينيات القرن العشرين إلى تأسيس العديد من المشروعات المحاكية التي سمت نفسها صناديق تحوُّط (وقد أَسِف جونز على تحويل الاسم من محوَّط إلى تحوُّط). وهو يستحق فعلًا بعض الفضل.
كانت الحوافز والإمكانيات التي واجهها جونز وبافيت مختلفة اختلافًا ملحوظًا عما كانت تواجه مدير صندوق استثماري مشترك. فلم تكن هيئة الأوراق المالية تسمح (وما زالت لا تسمح) لمديري الصناديق الاستثمارية المشتركة بالمشاركة في أرباح الاستثمار، وكان مديرو الصناديق يتقاضون بدلًا من ذلك نسبة مئوية سنوية من العملاء من أصولهم الخاضعة للإدارة، وهو ترتيب كان يكافئ جمع الأصول أكثر من كل ما سواه. يقينًا لم يكن ثمة بأس في التفوق على السوق، لكن الهدف النهائي كان جمع المزيد من الأموال لإدارتها. كان بمقدور مستثمري الصناديق الاستثمارية المشتركة أيضًا إضافة الأموال أو سحبها في أي وقت، وكان يتم الإفصاح بانتظام عن محافظ الصناديق الاستثمارية، وكانت هناك قيود صارمة على ماهية نوع الأوراق المالية بالضبط التي يستطيع المدير شراءها (كان البيع على المكشوف غير وارد). ساعدت هذه القواعد — التي خُففت قليلًا منذ ذلك الحين — على بث الثقة لدى المستثمرين التي جعلت الصناديق الاستثمارية المشتركة الوعاء الاستثماري السائد في البلاد، لكنها لم تساعد المديرين على التفوق على السوق. فعندما تكون الأسهم رخيصة، يميل المستثمرون إلى الفرار، وعندما تكون غالية، يصبون أموالًا جديدة.
لم يكن وارين بافيت بمنأًى عن هذه الضغوط. فلو مرَّ به عام سيئ، لم يكن هناك ما يحول دون لواذ مستثمريه بالفرار في ٣١ ديسمبر. ظل ينذرهم سنة بعد سنة أن أداءه «الشاذ» لا يمكن أن يستمر، وأن سنة عجفاء سرعان ما ستأتي. لكنها لم تأت قط. اتخذ بافيت متوسط داو جونز الصناعي علامته التي يهتدي بها، وتفوق على هذا المتوسط طوال سنوات وجود شركته. حتى في السنوات التي انخفض فيها داو، تمكنت شركة بافيت رغم ذلك من تحقيق مكاسب بنسبة ١٠ في المائة فأكثر. كانت واحدة من دورات الاستثمار العظيمة في كل الأزمنة.
في البداية ظل بافيت على وفائه لتعاليم بن جراهام، فكانت معظم نجاحاته المبكرة «أعقاب سيجار» من النوع الكلاسيكي الذي قال به جراهام؛ أي شركات كانت القيمة السوقية لأسهمها أقل مما يمكنك الحصول عليه ببيع آلاتها وعقاراتها ومستلزماتها المكتبية. ومع ارتفاع أسعار الأسهم وازدياد صعوبة العثور على تلك الجواهر فاقدة البريق، تكيَّف بافيت مع الأوضاع. وبتشجيع من صديق جديد تعرَّف إليه في حفل في أوماها — وهو تشارلي مانجر، المحامي بلوس أنجلوس — بدأ يميل عن جراهام باتجاه جون بير وليامز. كان ما يهم هو القدرة على توليد أرباح بمرور الوقت، وأدرك بافيت أن هذه القدرة على الربح لا تولدها الأصول الواردة في الميزانية العمومية فحسب، بل الأصول غير الملموسة كالعلامات التجارية.
في أواخر ستينيات القرن العشرين، حتى بافيت في ثوبه الجديد لم يستطع تبرير أسعار أسهم الأسماء التجارية، فأغلق شركته في سنة ١٩٦٩ معلنًا أن السوق أصبحت «لعبة لا أفهمها»، وصفَّى كل أصولها عدا اثنين، أحدهما مصنع منسوجات تحول إلى شركة قابضة متنوعة تسمى بيركشاير هاثاواي. الصناديق الاستثمارية المشتركة الناجحة بوجه عام لا تخرج من اللعبة هكذا؛ فحوافزها ترتبط بجمع الأصول، والسوق المتجهة إلى الصعود هي أفضل وقت لفعل ذلك. كان بافيت يربح المال بتحقيقه ربحًا لشركائه، ولم يعد يدرك كيف يمكنه فعل ذلك، فانسحب.
•••
كان مستثمرو بافيت بحاجة إلى أماكن جديدة يضعون فيها نقودهم. كان أحدهم — وهو طبيب الأمراض العصبية رالف والدو جيرارد — عميد كلية الدراسات العليا في حرم جامعة كاليفورنيا الجديد في إرفين، وكان بجامعة كاليفورنيا في إرفين أيضًا أستاذ رياضيات مهتم بإدارة الأموال، وبذلك تشابكت قصته اللافتة للنظر بقصة بافيت.
قرر ثورب استعمال مهاراته في المواضع التي تكون فيها فرص النجاح والمكافآت المحتملة أكبر، فكرَّس صيف سنة ١٩٦٤ للقراءة كثيرًا عن سوق الأسهم. ومثلما فعل بول سامويلسون بالضبط قبل ذلك بخمس عشرة سنة، انتهى إلى أن الأوراق المالية ذات الإمكانية الأكبر بالنسبة لعقل تحليلي كعقله لم تكن الأسهم بل الضمانات؛ خيارات تمنحها شركة ما لشراء أسهمها بسعر محدد.
تعرف ثورب في العام التالي — عندما انتقل إلى جامعة كاليفورنيا في إرفين — إلى اقتصادي، وهو شين كاسوف، الذي كان قد ابتكر حيلة لكسب المال من الضمانات. كان كاسوف قد لاحظ أن الضمانات خارج النقد — أي غير المربحة (كضمان لدفع ٢٠ دولارًا للسهم مقابل سهم يُتداول حاليًّا بسعر ٥ دولارات) — تميل إلى التداول بسعر مستقر لشهور أو سنوات، لتنهار قبل انقضائها. ببيع مثل هذه الضمانات على المكشوف وشراء السهم المرتبط بها لحماية نفسه في حالة ما إذا ارتفع سعر السهم فجأة، حقق كاسوف أرباحًا منتظمة بأدنى المخاطر على ما يبدو.
هذا لا يعني أن هذا النقد أزعج ثورب؛ حيث قال: «كان الكتاب ما توقعت أن يكونه؛ أي سبيلًا إلى الثراء.» وكان عميد جامعة كاليفورنيا في إرفين جيرارد ثريًّا (يرجع بعض الفضل في ذلك إلى استثماره لدى وارين بافيت) بما يكفي لتنطبق عليه المواصفات. قرأ جيرارد «تفوَّقْ على السوق» ورتب للقاء بين بافيت (الذي كان يقضي عطلته على الساحل بالقرب من إرفين) وثورب. انسجم رجلا المال معًا، وأخبر بافيت جيرارد بأن أمواله ستكون بمأمن مع أستاذ الرياضيات. بل وكان ثورب أكثر إعجابًا ببافيت؛ إذ يزعم أنه قال لزوجته: «إنه ذكي حقًّا. سيكون أثرى رجل في الولايات المتحدة ذات يوم.»
أراد ريجان الانضمام إلى صفوف أصحاب العائد الجيد هؤلاء، وبعد تمحيص عدد من مديري الأموال المحتملين، استقر على ثورب سنة ١٩٦٩. بدأت الشركة التضامنية التي أسساها — سُمِّيت في البداية «كونفيرتبل هيدج أسوشييتس» ثم غُيِّر اسمها فيما بعد إلى «برنستون-نيوبورت بارتنرز» (كان ريجان والمتعاملون ومندوبو المبيعات في برنستون بولاية نيوجيرسي بينما كان ثورب وفريقه الصغير من خبراء الأرقام في نيوبورت بيتش) — عملها في شراء خيارات وبيعها باستخدام المعادلة التي ستسمى فيما بعد نموذج بلاك-سكولز.
كانت القطع الأخيرة من أحجية تسعير الخيارات قد تبادرت إلى ذهن ثورب بُعيد نشر كتاب «تفوَّقْ على السوق». لم يعتمد على نظريات المراجحة ولا تسعير الأصول، بل على أبسط الافتراضات، والتجربة والخطأ، واحتفظ بمعادلته سرًّا. صارت شركة برنستون-نيوبورت الرائد في الاستثمار المؤتمت، وهو النموذج الذي سيحذو حذوه ما لا يُحصى من عمليات إدارة الأموال الكمية الغامضة في المستقبل. كما كانت الشركة ناجحة أيضًا، فمع تعثر السوق وإغلاق صناديق التحوط واحدًا تلو الآخر أبوابها، حققت برنستون-نيوبورت مكاسب إيجابية بنسبة ١٠ في المائة فأكثر سنويًّا.
بعد سنوات عديدة من هذا، تلقى ثورب شيئًا بالبريد أدرك منه أن معادلته السرية توشك أن تصبح علنية. كان ذلك الشيء نسخة أولية من مقالة بلاك-سكولز أرسلها إليه فيشر بلاك الذي اعترف في خطاب تقديمي بأنه من «أشد المعجبين» بعمل ثورب. بعد شيء من الحيرة في البداية، أدرك ثورب أن معادلة بلاك-سكولز ومعادلته سيان. وقبل أن يمضي وقت طويل، كان مال الخيارات السهل قد تلاشى تقريبًا. لكن ثورب أظهر قدرة عجيبة على إيجاد مصادر جديدة للربح، والتخلي عنها قبل أن تتوقف جدواها.
قد يبدو هذا أيضًا مألوفًا. بُعيد حصوله على البكالوريوس سنة ١٩١٤ ببضعة أشهر، أوصى بنجامين جراهام بأن يستفيد عملاء شركة السمسرة التي يعمل بها من تصفية جوجنهايم إكسبلوريشن كومباني بشراء أسهم جوجنهايم وبيع أسهم شركاتها التابعة المسعرة بأعلى من قيمتها بيعًا على المكشوف. فعل ثورب الشيء نفسه في «إيه تي آند تي». كانت حواسيبه ومعادلاته الرياضية شيئًا جديدًا، لكن طريقته كانت أيضًا طريقة المراجِح العريقة.
•••
قبل هذا بكثير، كان وارين بافيت قد استعاد شهيته للاستثمار. فعندما بدأ أول مرة يشتري أسهم بيركشاير هاثاواي سنة ١٩٦٢، رأى شركة المنسوجات سهمًا رخيصًا. لكن قبل مضي وقت طويل على الاستحواذ عليها سنة ١٩٦٥، بدأ يعاملها كمصدر يدر نقدية يستثمرها في موضع آخر، وسرعان ما أضاف مصادر نقد أخرى (صحف، شركات تأمين، بنك) إلى المزيج. وبعد أن أغلق بافيت الشركة التضامنية سنة ١٩٦٩، أعطته التدفقات النقدية الآتية من مشروعات بيركشاير حرية يحسد عليها.
كان بافيت يسيطر على شركة لديها نقديتها، مع محفظة استثمار تأمينية تزيد عن ١٠٠ مليون دولار، بالإضافة إلى عدة ملايين سنويًّا كأرباح تأمينية ومصرفية و٢٠ مليون دولار جمعتها بيركشاير بإصدار سندات سنة ١٩٧٣. اشترى واشترى ولم يضطر إلى استئذان أحد، ما عدا تشارلي منجر الذي بدأ يستثمر مع بافيت في مشروع جانبي في أوائل سبعينيات القرن العشرين، وصار نائب رئيس مجلس إدارة بيركشاير سنة ١٩٧٨. كان واثقًا في تقييماته، وكان في وضع مثالي يجعله يتجاهل انعدام الثقة الذي أظهره سائر السوق.
بحلول أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان سهم بيركشاير قد استهل صعوده الملحميَّ. كان يباع بأقل من ١٠٠٠ دولار بقليل للسهم عندما وقع نظر إد ثورب على مقالة عن بافيت. حتى ذلك الحين لم يكن قد أدرك أنه من الممكن أن يستثمر بجانب الرجل الذي ساعده على الانطلاق، فبدأ آنذاك يشتري أسهم بيركاشير. يقول ثورب: «اشتريت واشتريت واشتريت. كنت أرى أنها طريقة جيدة لتنويع ما كنت أفعله ببرنستون-نيوبورت بارتنرز.»
فماذا «كان» سر نجاح وارين بافيت الاستثماري؟ جزء منه يكمن في مقدرته — التي تُعزى إلى كلٍّ من مزاجه وبنية بيركشاير هاثاواي — على تجاهل أحوال السوق والاحتفاظ بتركيزه على آرائه واجتهاداته بشأن ماهية المشروعات التي تستحق. كان هناك مقياس مهم بالنسبة له هو «أرباح المالك». كانت تلك هي النقدية المتبقية كل سنة بعد المصروفات والاستثمارات الرأسمالية، وهو ما سماه جويل ستيرن — الاستشاري خريج جامعة شيكاجو — «التدفق النقدي الحر». ولكي يحكم بافيت على ما إذا كانت «أرباح المالك» هذه كافية أم لا، تصوَّرها كنسبة مئوية من رأس المال المستثمَر، وعندئذٍ كان يمكن مقارنة هذا العائد على رأس المال بعائد الشركات الأخرى العاملة في المجال نفسه، أو السوق ككل. كان بافيت — خلافًا لمعلمه جراهام — مترددًا حيال أرباح الأسهم، فقد كانت تخضع للضريبة بمعدل أعلى من المكاسب الرأسمالية؛ مما يجعلها طريقة غير كافية لتوزيع النقدية الفائضة على المساهمين.
كان مودلياني وميلر والآلاف من أساتذة المالية الذين حذوا حذوهم يفترضون لأجل البساطة والتقدم العلمي أن السوق العشوائية سوق كاملة، وأن الأسعار تتحدد بفعل مستثمرين فائقي العقلانية مثل بافيت وثورب. إن هذين الرجلين العظيمين نفسيهما تمكَّنا من كسب عيشهما لأن الأسعار «لم تكن» تتحدد على ذلك النحو. فلكي تنجح استثمارات بافيت، كان على السيدة سوق أن تدرك في نهاية المطاف القيمة الحقيقية للأسهم التي اشتراها (ما لم يشترِ شركة برمتها، وفي هذه الحالة كان يمكنه ببساطة أن يعُد النقدية لدى ورودها). ولكي تؤتي حالات التسعير الخاطئ التي كان يثب عليها ثورب أُكلها، كان يتعين أن تتلاشى في نهاية المطاف. كان الفرق بين رؤية بافيت وثورب العالمية والرؤية العالمية لمالية السوق العقلانية بالدرجة الأولى مسألة إطار زمني. كان رجال المالية يرون أن السوق تصوِّب الأمور فورًا. أما رجال المال فكانوا يعتقدون أنها يمكن أن تستغرق فترة من الزمن.
ببطء بدأ رجال المالية الأكاديميون يدركون أنه على الأقل بعض رجال المال هؤلاء ربما يكونون مصيبين. اشترى بول سامويلسون أسهم بيركاشير، ووصف بافيت بأنه «أقرب إلى العبقرية كما نوَّهت». ووصفه بيل شارب بأنه ظاهرة فريدة من نوعها، لا يوجد مثله إلا واحد في كل عشرين ألف مستثمر. كان ذلك تهكمًا أكثر منه ثناءً. فما الذي يمكن للمرء أن يتعلَّمه من مثل هذا الشخص النادر؟ لكن في ثمانينيات القرن العشرين، بدأ بعض رموز السوق العقلانية، إيمانًا منهم بأنهم ظواهر فريدة من نوعها، يحاولون التفوق على السوق بأنفسهم.
•••
كان بول سامويلسون — كما هو الحال غالبًا — في الطليعة. ففي سنة ١٩٦٩، نبَّه تلميذٌ سابق له كان قد كتب أطروحته لنيل الدكتوراه عن «ديناميكيات سوق الكاكاو العالمية» جهة عمله، وهي شركة نستله، إلى أن أسعار الكاكاو توشك أن ترتفع ارتفاعًا حادًّا، وكان على صواب. واستنادًا إلى قوة ذلك النداء، استقطب هلموت فايمر ستة متعاملين، من ضمنهم بول كوتنر — الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — وانطلق يجمع رأس مال ليؤسس لنفسه شركة تعاملات. اشترى سامويلسون حصة بنسبة ٣٫١ في المائة نظير ١٢٥ ألف دولار، كما ساهمت فيها أيضًا شركة نستله وشركة رأسمال مخاطر.
كان أشد إثارة للحيرة الأساتذة الذين ما زالوا يؤكدون في الفصول الدراسية أن السوق كفء، ومع ذلك بدا أنهم يسعون إلى التفوق عليها. جادل بعضهم — من أمثال ريتشارد رول وستيفن روس — بأنهم ما يفعلون إلا بناء محافظ تعمل على اتزان المخاطر بكفاءة. لكن «رول آند روس أسيت ماندجمينت» اتبعت نظرية تسعير المراجحة لروس؛ مما أتاح لها أن تختار بانتقائية شديدة أي المخاطر تعد مهمة للأسهم، وأعني التضخم وأسعار الفائدة وسعر النفط. لم يستطيعا إنكار أن الأمر ينطوي على حكم وتقدير. استلهامًا للنتائج التي توصل إليها رولف بانتز بشأن ظاهرة الأسهم الصغيرة، أسس ركس سنكوافيلد وآخر حاصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة شيكاجو — هو ديفيد بوث — شركة «دايمنشنال فانْد أدفايزرز» لإدارة الصناديق المرتبطة بمؤشر التي تشتمل على أسهم صغيرة الرسملة. عندما نشر يوجين فاما وكنيث فرنتش بحثهما حول تفوق أداء أسهم القيمة، استقطبهما سينكوافيلد وبوث (الذي تبرع سنة ٢٠٠٨ بمبلغ ٣٠٠ مليون دولار لكلية شيكاجو لإدارة الأعمال فأعيدت تسميتها على اسمه تكريمًا له) كمستشارين، ودشنا صندوقًا لأسهم القيمة كان يصعب تمييزه من صناديق أسهم القيمة التي كان يديرها غير المؤمنين بكفاءة السوق.
الحالة الأشد إثارة من كل ما سواها كانت حالة روبرت ميرتون ومايرون سكولز. ففي ثمانينيات القرن العشرين، برز إلى الوجود مكتب تعاملات المُلَّاك في شركة «سالومون براذرز» لوساطة السندات، وحققت نجاحًا باهرًا. كان على رأسها جون ميريويذر، الحاصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة شيكاجو، والذي جمَّع فريقًا من المتعاملين والمحللين الكميين بقيادة واحد من أفضل طلاب الدكتوراه على الإطلاق الذين تتلمذوا على يد ميرتون، وهو إريك روزنفيلد. كان النهج المتبع شبيهًا بنهج إد ثورب، لكن مع السندات بدلًا من الأسهم ومع كثير من المجازفة. أغرى روزنفيلد ميرتون بالانضمام إليهم سنة ١٩٨٨ بصفته «المستشار الخاص لمكتب رئيس مجلس الإدارة». وانضم إليهم سكولز بعد ذلك بسنتين كمستشار وفيما بعد كرئيس مشارك لمشروع المشتقات في سالومون.
كان تبريره أن ذوي المهارات الكمية المتقدمة يمكنهم اكتشاف فرص لا يكتشفها مديرو الأموال التقليديون. ولم يكن الأمر كله خطأً. فبحلول أوائل ثمانينيات القرن العشرين، تخصَّص العديد من شركات التوظيف في إغراء الفيزيائيين والرياضيين والمهندسين الساخطين لشغل وظائف في وول ستريت؛ حيث اضطلع كثير من هؤلاء المحللين الكميين بابتكار مشتقات جديدة أو إدارة المخاطر. كان معظم من استُقطبوا للتفوق على السوق منخرطين في مراجحة على طريقة ثورب؛ أي العثور على ورقتين ماليتين تبدوان مسعرتين تسعيرًا خاطئًا بمقارنة إحداهما بالأخرى، ثم استخدام الكثير من الأموال المقترضة للمراهنة على عودة السعرين إلى الاتساق. وسار آخرون على طريق بار روزنبرج في الاستثمار في القيمة، وذلك باستخدام كمبيوتر للتعرف على المئات من الأسهم الرخيصة بدلًا من العدد التقليدي القليل. كما سمحت الحواسيب بقدراتها المتزايدة لمديري الاستثمار بالتفتيش في مقادير أوفر وأوفر من بيانات الأسعار بحثًا عن أنماط واتجاهات يمكن تمييزها، وهي ممارسة كانت — بحلول نهاية العقد — آخذة في اكتساب احترام أكاديمي. وقد مزج بعض المديرين الكميين بين عناصر من الاتجاهات الثلاثة جميعها.
ما كان يربط كل هذه المشروعات، بخلاف الاستخدام المكثف للحواسيب والمقدار الكبير من السرية، هو اعتقاد أن المخاطر التي تواجهها يمكن إدارتها، وإدارتها كميًّا. وقد تبيَّن أن بعض المخاطر يمكن فعلًا إدارته، وبعضها لا.