آلان جرينسبان يمنع هبوطًا عشوائيًّا في وول ستريت
انهيار سنة ١٩٨٧ يفضح عيوبًا كبرى في الرؤية المالية العقلانية للمخاطر، لكن عملية إنقاذ على يد الاحتياطي الفيدرالي تحول دون مراجعة تامة.
***
رأى هين ليلاند — على الأرجح منذ لحظة أن خطر بباله التأمين على المحافظ في مختلاه في بيته في بيركلي — أن هناك شَركًا. كانت معادلات تسعير الخيارات التي بنى عليها استراتيجيته تعتمد على كون الجهة المؤمِّنة على المحفظة بمنزلة متلقٍّ للأسعار، بمعنى أن «قوى السوق السائدة» هي التي حددت الأسعار. كان يُفترض أن أفعال أي مشارك فردي في السوق لا تأثير لها على الإطلاق.
أدرك ليلاند أنه لو نجحت فكرته نجاحًا كافيًا، فإن الأفعال التي تقوم بها الجهات المؤمِّنة على المحافظ التي تحاول تقليص خسائر عملائها أثناء حدوث تراجع في السوق سيدفع الأسعار إلى مزيد من الانخفاض. يقول ليلاند متذكرًا: «لكني بأمانة قلت في نفسي: «كم سيستغرق هذا وبأي حجم ينبغي أن نصبح قبل أن تؤثر مداولاتنا على السوق ككل؟» ويتبين أنها كانت سبع سنوات فحسب.»
بدأت «ليلاند أوبريان روبنشتاين» (إل أُوه آر) تبيع التأمين على المحافظ سنة ١٩٨٠، وبدأت أعمالها تنطلق بعد أن دشنت بورصة شيكاجو التجارية التعامل في العقود المستقبلية لمؤشر ستاندرد آند بورز سنة ١٩٨٢. بدلًا من التدخل في أرصدة أسهم العملاء، تمكَّنت إل أُوه آر من تحقيق الأثر نفسه تقريبًا بشراء العقود المستقبلية لمؤشر السوق وبيعها؛ مما جعل منتجاتها المعروضة جذابة لصناديق المعاشات التقاعدية التي تضع أموالها لدى مديرين متعددين، وصارت صناديق المعاشات التقاعدية أهم عملاء للشركة. بحلول أكتوبر ١٩٨٧، كانت إل أُوه آر تدير مباشرة ٥ مليارات دولار، ورخَّصت برنامج التعامل الحاسوبي الخاص بها لمديري الأموال الذين يسيطرون على ٤٥ مليار دولار أخرى. وكان المنافسون — وأغلبهم شركات في وول ستريت مثل جولدمان ساكس ومورجان ستانلي — يؤمِّنون على أصول تتراوح قيمتها بين ٤٠ و٥٠ مليار دولار أخرى.
وهكذا فعندما أمرتهم معادلات شركات التأمين على المحافظ كلها بالبيع صباح ١٩ أكتوبر ١٩٨٧، أثَّر ذلك البيع على السوق ككل، فنتج عن ذلك أسوأ يوم منفرد في تاريخ سوق الأسهم الأمريكية؛ حيث هبط مؤشر داو جونز بمقدار ٥٠٨ نقاط، أو ٢٣ في المائة، ومؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ بنسبة ٢٠ في المائة. بالتأكيد لم يكن ليلاند وشريكاه — جون أوبريان ومارك روبنشتاين — مسئولين وحدهم عن انهيار سنة ١٩٨٧، لكن حتى احتمال كونهم لعبوا دورًا كبيرًا كان دلالة على مدى الشوط البعيد الذي قطعته المالية الأكاديمية وأيضًا على مدى محدودية نماذجها النظرية المتطورة ظاهريًّا. ثلاثة من خبراء المالية كان لديهم «ذلك» النوع من القدرة، ولفعل «أي شيء» استخدموها؟
جرَّأ الانهيار نقاد فرضية كفاءة السوق وأجبر أنصارها على التحفز للدفاع، لكنه لم يقترب بحال من حسم ذلك الجدل. أما ما أثبته على نحو قاطع فهو أن تعريف المخاطر المقبول بين أساتذة المالية — وعلى نحو متزايد في وول ستريت — كان غير وافٍ. في هذه الرؤية العالمية، كانت المخاطرة تُعتبر ظاهرة طبيعية؛ رسمًا بيانيًّا بالنقاط المبعثرة للمحصلات المحتملة التي يمكن إبقاؤها ضمن حدود ومعالجتها رياضيًّا. كان يُفترض عادة — رغبة في التيسير — أن الحدودَ هي حدودُ منحنى الجرس الذي كانت خصائصه عظيمة النفع قد مهدت الطريق لنظرية المحفظة الحديثة، ولتقييم أداء مديري الأموال المعدل حسب المخاطر، ولنماذج تسعير الخيارات التي تقف وراء العمل الذي يجري في ليلاند أوبريان روبنشتاين.
•••
حرص بافيت على ضمان ألا يكون في أفكاره العبقرية وأخطائه المتفرقة كأغلبية رفاقه المستثمرين. كان ذلك معنى أن يكون المرء مستثمر قيمة، وأعني أنه يلتمس قيمة لا يراها الآخرون. لم يكن مديرو صناديق المعاشات التقاعدية الحريصون على الاحتفاظ بوظائفهم وتجنُّب التعرض للمقاضاة يجدون مشكلة كبيرة في ارتكاب نفس الأخطاء التي يرتكبها أقرانهم. ما كانوا يريدون تحاشيه هو الخسائر الكبيرة المحرجة «الفريدة» من نوعها، وكانوا مستعدين للتخلي عن مكاسب محتملة في سبيل ذلك. ومن هنا جاء إغراء التأمين على المحافظ.
بحلول صيف سنة ١٩٨٧، كان ذلك الإغراء شديدًا لدرجة أن هين ليلاند بدأ يقلق من كوْن إل أوه آر وشركات التأمين على المحافظ الأخرى تشكل خطرًا على السوق، فاقترح على أوبريان وروبنشتاين أن يوقفا بيع وثائق التأمين. يروي ليلاند قائلًا: «كان لدى جون أوبريان سبب وجيه تمامًا لئلا نفعل ذلك. قال لنا: «لو رفضناهم، فكل ما سيفعلون هو الذهاب إلى مورجان ستانلي بجوارنا».» بدلًا من ذلك بدأ الثلاثي يبحثون عن سبل يقولون بها للعالم إن تعاملاتهم — حسب تعبير ليلاند — «خالية من المعلومات»، فتبيَّن أن هذا بالغ الصعوبة. فالأسواق المالية الحديثة منظمة بحيث تبقى هويات المستثمرين ونواياهم سرية. كانت قواعد البورصة تحظر على سماسرة إل أوه آر أن يكشفوا عن هوية مَن يتعاملون نيابةً عنهم، وأخفقت تمامًا محاولة مدعومة من إل أوه آر لتغيير هذا الوضع.
ترتَّب على هذا التراجع — أيًّا كانت أسبابه — أن اصطفَّت شركات التأمين على المحافظ صباح الاثنين الموافق ١٩ أكتوبر، لبيع عقود ستاندرد آند بورز ٥٠٠ المستقبلية في بورصة شيكاجو التجارية لإعادة التوازن إلى محافظ عملائها. لم يكن ثمة سبيل أمامها تشير به إلى أن تصرفها هذا ليس نتيجة تقييم مدروس بعناية، بل نتيجة رد فعل لاإرادي محض. كان لدى المتعاملين في العقود المستقبلية في شيكاجو تلميح بالتأكيد، لكن يبدو أن تلك الرسالة ضاعت في طريقها إلى نيويورك.
كانت المراجحة المرتبطة بمؤشرٍ التي ابتكرها إد ثورب قبل ذلك بخمس سنين شأنًا يوميًّا بحلول هذا الوقت. وكلما فقد سعر عقود ستاندرد آند بورز ٥٠٠ المستقبلية في شيكاجو اتساقه مع أسعار الأسهم الفعلية المتداولة في نيويورك، كان واحد من كثيرين من كبار السماسرة ومديري الأموال يشتري واحدًا ويبيع الآخر لتحقيق ربح سريع وسهل، مُعيدًا في غضون ذلك الأسعارَ إلى اتساقها. في يوم الاثنين ذاك، دفع البيع الجماعي من قبل شركات التأمين على المحافظ في شيكاجو أسعار العقود المستقبلية، تحت المستوى الذي كانت تمليه أسعار الأسهم بكثير، فانطلق المراجحون المرتبطون بمؤشر يعملون.
يحكي أوبريان قائلًا: «إذا كنا بصدد بيع عقد مستقبلي، كان موظف العقود المستقبلية في ميريل لينش يشتريه، وعلى الفور ترسل ميريل لينش عشرة وكلاء إلى عشرة مراكز في بورصة نيويورك وكل واحد منهم يبيع خمسة أسهم، وكانت مورجان وجولدمان تفعلان الشيء نفسه، وهكذا بدأ العاملون في بورصة نيويورك يرون فجأة أكبر خمسة سماسرة يهرولون في أنحاء المقصورة يبيعون عشرات الملايين من الأسهم. فانتاب القلق الناس على الجانب الآخر … كان هناك مستوى كبير من الارتباك لدرجة أنهم توقَّفوا بوجه عام عن تقديم عروض شراء.»
•••
لم تتناول هذه التفسيرات رغم ذلك الأسباب التي جعلت الانهيار يحدث في الوقت الذي حدث فيه، وهي يقينًا لم تقنع أحدًا من جمهور السوق الكفء. لكن خسارة السوق خُمس قيمتها في يوم واحد كانت أمرًا لا يمكن إنكاره، و«تلك» كانت مشكلة.
•••
أدرك بعض المتعاملين في الخيارات هذا الأمر سريعًا. فبعد ١٩ أكتوبر، أظهرت أسعار الخيارات ما صار يسمى «ابتسامة التقلب». فبقلب معادلة بلاك-سكولز، يستطيع المرء حساب التقلب الضمني لأي سهم من واقع سعر خياراته. تسمح خيارات البيع للمرء ببيع سهم بسعر محدد سلفًا. وبعد انهيار سنة ١٩٨٧، كانت خيارات البيع التي هي خارج النقد تمامًا (كان السهم عند ٤٠ دولارًا مثلًا، وكان خيار البيع يسمح للمرء ببيعه مقابل ١٠ دولارات) تُتداول بأسعار توحي — بحسب بلاك-سكولز — بانهيار مماثل كل بضع سنوات قليلة. كان المستثمرون يرغبون في التأمين ضد الأسوأ، وكانوا على استعداد لأن يدفعوا مقابل ذلك. لكن الخيارات الأخرى على الأسهم ذاتها ظلت تُتداول بأسعار توحي بتقلب أقل تطرفًا. تلك كانت الابتسامة، وكانت منبسطة في المنتصف وصاعدة عند الحافة. كانت معادلة بلاك-سكولز تفترض أن التقلب سيكون مستمرًّا ومتسقًا وموزعًا توزيعًا طبيعيًّا، وبالتأكيد لم يكن الحال كذلك، وكان البحث عن نماذج أفضل للتقلب على أشُده آنذاك.
أحد المنطلقات كان الإطار الإحصائي الذي جمَّعه بينوا ماندلبرو قبل ذلك بخمس وعشرين سنة. لم يكن ماندلبرو قد تنبَّأ بالاثنين الأسود، لم يكن قد كتب أي شيء عن المالية منذ سنوات. لكن أي شخص سبق أن درس كتاباته عن السوق التي تعود إلى ستينيات القرن العشرين كان أقل اندهاشًا بكثير إزاء الأحداث في وول ستريت بمقارنته بمن اقتصروا في قراءاتهم على الكتب الدراسية الاعتيادية في مجال المالية. كان ماندلبرو بحلول ذلك الوقت أيضًا قد بدأ يكتسب شهرة بفضل كتابه المعنون «الهندسة الكسورية للطبيعة» الذي نشر سنة ١٩٨٢. وفي سنة الانهيار، قدَّمه كتاب «الفوضى» الرائج للصحفي جيمس جليك إلى جمهور أعرض من القراء.
لكن هذا ظل ممارسة تمارسها الأقلية. أثبتت مالية منحنى الجرس، بتصويرها المتقن — والمضلِّل في ذات الوقت — لأسواق تتحرك بخطوات صغيرة لا قفزات كبيرة، قدرة ملحوظة على التكيف في أعقاب الحرج البالغ الذي تعرضت له سنة ١٩٨٧. وسرعان ما صار الانهيار يبدو أشبه بحالة شاذة لا كارثة كبيرة بفضل التعافي السريع للأسواق المالية. كان مريحًا أيضًا أن تكون هناك أجوبة بسيطة مقننة لأسئلة من قبيل: كيف أقيس أداء مدير الأموال؟ وكيف أخصِّص محفظتي الاستثمارية؟ وكيف أسعِّر خيارًا؟
لم يكن هذا النفور من الكفر بالنظريات حتى بعد أن تقوَّض معظم دعائمها — كحال أشياء كثيرة جدًّا بشأن مالية السوق العقلانية — سلوكًا أحمق بالكلية. فكما يقول أستاذ المالية ومدير الأموال ستيف روس: «تُعنى المالية النيوكلاسيكية ببناء الجسور وإنشاء السكك الحديدية.» كان مقصده أن ثورتي القرن العشرين النسبوية والكمية أثبتتا أن كثيرًا من الفيزياء النيوتنية خطأ، لكن المهندسين ما زالوا يصممون المباني والجسور متبعين قوانين نيوتن والأغلبية الساحقة منها لا تنهار.
بعد ذلك بسبع سنوات، فاز روبرت ميرتون ومايرون سكولز بنوبل. كان فيشر بلاك قد مات في سنة ١٩٩٥، ولولا ذلك لشاطرهما يقينًا الجائزة. كان نموذج تسعير الخيارات الذي أنشأه ثلاثتهما قد «تمخَّض عن أنواع جديدة من الأدوات المالية ويسَّر إدارة أكثر كفاءة للمخاطر في المجتمع»، كما أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عند منح جائزتها لسنة ١٩٩٧. وفي خطاب القبول الذي ألقاه سكولز في ديسمبر، جادل بأن المشتقات «تحسِّن الكفاءة الاقتصادية»؛ نظرًا لأنها «توفر حلولًا أقل تكلفة لمشكلات التعاقدات المالية.»
•••
في حين أن التأمين على المحافظ بالمعنى الدقيق للكلمة خسر سمعته إلى حد كبير سنة ١٩٨٧، فإن سوق التأمين على تقلبات السوق لم تختف قط. فقبل مضي وقت طويل، كانت البنوك الكبرى والبنوك الاستثمارية تستخدم نماذج تسعير الخيارات لتصميم وتسعير العقود الخاصة المعروفة باسم المشتقات المتداولة خارج المقصورة التي مكَّنت العملاء من التحوط ضد المخاطر المالية (أو المراهنة عليها). والآن تغطي هذه الأدوات من بين ما تغطي تحركات سوق الأسهم والتخلفات عن سداد القروض، لكن في السنوات الأولى بعد الانهيار كانت الفئتان الرئيسيتان مشتقات أسعار الفائدة ومشتقات العملة.
كان ستيف روس قد تنبَّأ بهذه النتيجة السارة قبل ذلك بعقدين من الزمان، وذلك عندما جادل بأنه كلما وُجدت أوراق مالية مختلفة تمثِّل مختلف حالات العالم المحتمَلة، صِرْنا أقرب إلى حالة التوازن الاقتصادي التام التي تصورها أستاذه كنيث أرو في خمسينيات القرن العشرين. كان المرء يرى ظلال هاري ماركويتز أيضًا في هذه الحجة. أعطِ الناس مزيدًا من الطرق للاستثمار والتحَوُّط من المستقبل، وسيُمكنهم تقليل خطورة محافظهم.
أولًا: نمذجة المخاطر المالية صعبة، ولا تستطيع النماذج الإحصائية أبدًا أن تصور كل الأشياء التي يمكن أن تخفق (أو تصيب) تصويرًا تامًّا. كان الأمر مثلما قال الفيزيائي ورائد السير العشوائي إم إف إم أوسبورن لطلابه في جامعة كاليفورنيا في بيركلي قديمًا سنة ١٩٧٢ من أن منحنى الجرس يعمل على نحو جيد فيما يخص أحداث السوق اليومية. وعندما لا يعمل على نحو جيد، يجب على المرء أن ينظر خارج النماذج الإحصائية وإصدار أحكام اجتهادية مستنيرة بشأن ما يحرك السوق وماهية المخاطر. كان يهيمن على أعمال المشتقات والقطاعات المالية الأخرى التي كانت في تنامٍ في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين؛ محللون كمِّيون شباب يعرفون كيف يشغِّلون النماذج الإحصائية، لكنهم كانوا يفتقرون إلى الخبرة السوقية المطلوبة لإصدار أحكام اجتهادية مستنيرة. وفي غضون ذلك، لم يكن مَن لديهم الخبرة والحكمة والسلطة لإصدار أحكام اجتهادية مستنيرة — وأعني الرؤساء — يفهمون النماذج الإحصائية.
من «الجائز» أنه مع ارتقاء مزيد من المحللين الكميين في مناصب السلطة الرفيعة (كان فيكرام بانديت — الحاصل على الدكتوراه في المالية من جامعة كولومبيا سنة ١٩٨٦، والذي أصبح الرئيس التنفيذي لمجموعة سيتي جروب سنة ٢٠٠٧ — أول محلل كمي يدير أحد المصارف الكبرى)، ستصبح هذه المشكلة تحديدًا أقل وضوحًا. لكن العقبة الثانية التي تقف أمام خلوِّ الحياة من المخاطر بفضل المشتقات أصعب كثيرًا في الالتفاف حولها. إنها المفارقة التي قتلت التأمين على المحافظ، وأعني عندما يشترك عدد كافٍ من الناس في وسيلة معينة لترويض المخاطر المالية، فذلك في حد ذاته يجلب مخاطر جديدة.
في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وفيما كافحت المصارف وعملاؤها لفهم المخاطر التي تشكِّلها تعاملاتهم في المشتقات، لجأ معظمهم إلى نهج يسمى «القيمة المعرضة للمخاطر». كان هذا الاسم جديدًا — صِيغَ في جيه بي مورجان في ثمانينيات القرن العشرين — لكنه كان يصف ما سماه هاري ماركويتز سنة ١٩٥٩ «شبه التباين». كان يقصد بذلك مخاطر الهبوط، وهي مقياس كمِّي للمقدار الذي يمكن أن تهبطه محفظة ما في يوم سيئ. كان من الممكن تقدير قيمة معرضة للمخاطر تأخذ في اعتبارها بعضًا من السلوك الغريب الذي تتعدد فيه احتمالات حدوث انحرافات ضخمة من جانب الأسواق المالية الفعلية، لكن ذلك كان يتطلَّب تخمينًا واجتهادًا بالرأي. ولإقناع رئيس تنفيذي حذر بإعطاء الضوء الأخضر لصفقة مشتقات أو إقناع جهاز لتنظيم المصارف بأن احتياطيات رأس المال كافية لتغطية الخسائر المحتملة، كان المرء يحتاج إلى نموذج مقنن للقيمة المعرضة للمخاطر مثل نسخة «ريسك متريكس» التي روجتها جيه بي مورجان.
حتى النموذج الجيد «للقيمة المعرضة للمخاطر» لم يكن يتمخَّض إلا عن صورة جزئية للمخاطر الحقيقية التي تواجه مصرفًا أو شركة أو مستثمرًا، وكان هناك من اعتبروا هذا أمرًا مخيفًا. يقول نسيم نيقولا طالب — الذي تعامل في المشتقات، والذي برز كواحد من أشد النقاد صراحة لنهج القيمة المعرضة للمخاطر في منتصف تسعينيات القرن العشرين بعد أن جنى ثروة طائلة في انهيار سنة ١٩٨٧ — إن «قياس الأحداث غير القابلة للقياس يمكنه أحيانًا أن يزيد الأمور سوءًا؛ فأية عملية قياس تقلل مستوى قلقك يمكنها أن تضللك لينتابك إحساس كاذب بالأمن.» لكن بالِغ في التعامل مع هذه الحجة ولن يكون هناك طائل من محاولة قياس المخاطر المالية على الإطلاق. فلا بد من وجود موقف وسط بين القياس الكمي والاجتهاد بالرأي، حتى وإن كنا قلما نبْلُغه في العالم الواقعي.
•••
كان صندوق التحوط هذا قد خرج من عباءة مكتب تعاملات المُلَّاك في سالومون براذرز، واستقطب روبرت ميرتون ومايرون سكولز كشريكين. اتبع الصندوق نهج الرائد الكمِّي إد ثورب القائل: اعثر على ورقتين ماليتين ينبغي أن تكونا سائرتين في الاتجاه نفسه لكنهما ليستا كذلك، وراهن على أنهما ستتقاربان. كان من الأشياء المفضلة منذ زمن لدى رئيس لونج تيرم كابيتال ماندجمينت جون ميريويذر تداوُل أذون وسندات الخزانة من الإصدار القديم. كانت أذون وسندات الخزانة أجل ثلاثين سنة الجديدة تباع غالبًا بأسعار أعلى كثيرًا من الأوراق المالية المطابقة لها المصدرة قبل ذلك بستة أشهر. وعندما كان يحدث ذلك، كان لونج تيرم كابيتال ماندجمينت يبيع أذون وسندات الخزانة الجديدة على المكشوف ويشتري أذون وسندات الخزانة «من الإصدار القديم»، وكان يحقق عادة ربحًا سهلًا.
كانت الخسائر التي تكبَّدها لونج تيرم كابيتال ماندجمينت كبيرة، لكن ليست بالحجم الذي يكفي لتهديد بقائه. كان الشركاء فيه قد تصوَّرُوا أنه بعد مثل هذه الخسارة سيكون بمقدورهم إعادة موازنة محفظتهم والعودة إلى العمل؛ ربما سيكونون أقل ثراءً ولكنهم سيواصلون أعمالهم على أية حال. لكن مع اتباع الصناديق الأخرى استراتيجيات مماثلة لإعادة الموازنة في الوقت نفسه، انخفضت أسعار محفظة لونج تيرم كابيتال ماندجمينت فوق انخفاضها. زد على ذلك أن الأطراف المقابلة الوحيدة التي كان بمقدور لونج تيرم كابيتال ماندجمينت أن يحول إليها أرصدته من المشتقات هي مصرفيوه وسماسرته المحترسون. بدءوا جميعًا يقلِّصون تعرُّضهم للصندوق، فتلاشت إمكانية حصول لونج تيرم كابيتال ماندجمينت على الرفع المالي، وتلاشى معها نموذج أعمال الصندوق.
•••
لا تُعنى المخاطر المالية بالأرقام والرسوم البيانية بالنقاط المبعثرة والقوى السائدة فحسب. فأفعال الأفراد تهم. وقد شق إد ثورب طريقه عبر حقل الألغام السوقي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين على الوجه الأكمل تقريبًا — فبرنستون نيوبورت بارتنرز حققت أرباحًا سنة ١٩٨٧ — ليأخذه في النهاية رودي جولياني — رئيس نيابة المقاطعة الجنوبية بنيويورك — على حين غرة. فعندما استهدف جولياني مايكل ميلكن لملاحقته قضائيًّا، وقع شركاء ثورب في برنستون في الشرك الذي نصبه؛ حيث اتُّهموا بتغطية مراكز مكشوفة غير معلنة في أوراق مالية لصالح شركة دريكسل بيرنهام لامبرت التي يعمل بها ميلكن. وقد اضطر ثورب — على الرغم من عدم اتهامه شخصيًّا بأية مخالفة — إلى إغلاق صندوق تحوُّطه.
لكن تأثير جولياني تضاءل بجانب تأثير أهم عامل خطر فردي في العصور الحديثة، وهو رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي؛ ففي ٢٠ أكتوبر ١٩٨٧ — اليوم التالي للاثنين الأسود — توقفت تروس المالية العالمية عن الحركة. كانت أسواق الأسهم تحتاج إلى ائتمان كي تعمل، فإخصائيو بورصة نيويورك وصناع السوق في ناسداك دائمًا يقتنون أسهمًا دون أن يكون هناك مشترٍ ينتظرها؛ وذلك بغرض الإبقاء على استمرار التعاملات، وهم يفعلون ذلك بمال مقترض. لكن في صباح اليوم العشرين، بدأت المصارف القلقة تهدد بقطع التمويل عن السماسرة. ولو أنها فعلت، لاستحالت التعاملات ولأغلقت الأسواق أبوابها، ولربما أدى التفاعل المتسلسل التالي إلى تقويض المصارف أيضًا. حرص آلان جرينسبان — رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي المعيَّن حديثًا — على ألا يحدث ذلك.
بعد ذلك بسبع سنوات، وفي سنة ١٩٩٤، أثبت مجلس الاحتياطي الفيدرالي بقيادة جرينسبان أنه هو نفسه يمثِّل عامل خطر من نوع مختلف؛ حيث كان يهز الأسواق بزيادة في سعر الفائدة؛ بهدف كبح جماح التضخم، فأخفق عديد من صناديق التحوط الكبيرة في أعقاب ذلك التحرك الذي يصعب تمثيله بنموذج. سنة ١٩٩٨، عاد مجلس الاحتياطي الفيدرالي ليلعب دور مخفِّفِ المخاطر. وبما أن انهيار لونج تيرم كابيتال ماندجمينت هدد بإطلاق تفاعل متسلسل من إخفاقات صناديق التحوط والمصارف حول العالم، جمع رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك ويليام ماكدونو مقرضي صناديق التحوط في غرفة وخوَّفهم كي يؤجلوا المطالبة باستعادة أموالهم؛ وذلك للسماح بالتفكيك المنظم للصندوق. لم يكن ذلك إنقاذًا — كما زعم نقاد كثيرون في ذلك الحين — بقدر ما كان تعليقًا وجيزًا للنشاط. لكنه كان مناورة لم يكن الترتيب لها على الأرجح ممكنًا إلا بمعرفة المصرف المركزي. صب الاحتياطي الفيدرالي أيضًا نقدية في النظام المالي العالمي، فضاقت الفوارق، ولم تتحقق قط المخاوف من كون البرازيل مقبلة على مصير روسيا وستتخلَّف عن الدفع. انتهى الحال بالتقديرات الخاطئة لصندوق لونج تيرم كابيتال ماندجمينت أن تسببت في حالة رعب لكنها لم تتسبب في كارثة بأية حال.
طرح هذا سؤالين مثيرين للاهتمام. كانت الكارثتان شبه المحققتين سنتي ١٩٨٧ و١٩٩٨ قد جعلتا نماذج المخاطر الكمية التي خرجت من رحم مالية السوق العقلانية تبدو سيئة. فهل كانت ستبدو أسوأ بكثير وكثير لو لم ينقذ الاحتياطي الفيدرالي الأسواق؟ من ناحية أخرى، إذا كان بالإمكان التعويل على إنقاذ الاحتياطي الفيدرالي للأسواق المالية في العالم كلما أنذرت بالتوقف عن العمل، فماذا كانت المشكلة؟
على نحو مماثل، حَمَل انهيار لونج تيرم كابيتال ماندجمينت سنة ١٩٩٨ بروكسلي بورن — رئيسة هيئة التعامل في عقود السلع المستقبلية التي تنظم بورصات المشتقات كبورصة شيكاجو التجارية — على الدفع في اتجاه الرقابة على سوق المشتقات المتداولة خارج المقصورة الآخذة في الازدهار. رفض جرينسبان مطلبها كما رفضه رفاقها المسئولون عن الأجهزة التنظيمية المالية في إدارة كلينتون، وفي أواخر سنة ٢٠٠٠ سن الكونجرس تشريعًا وقَّع عليه الرئيس كلينتون يحظر تنظيم المشتقات المتداولة خارج المقصورة. كانت الحجة أن السوق تعمل، فلماذا نقف في طريقها؟