الفصل الثالث
(قطعة من الصحراء تبدو في يسارها طائفة من مضارب بني عامر ممتدة إلى ما
وراء اليسار على سفح جبل التوباد — خباء مضروب إلى يمين هذه الطائفة من المضارب كأنه
نهاية
خيام الحي — على اليمين أشجار بانٍ يقف في ظلها ابن عوف وحاشيته وقيس وزياد)
ابن عوف
:
تراءى الحيُّ للركْبِ
وأشرَفْنا على الشِّعْبِ
أفِقْ قيسُ أما في رؤ
ية الخيْمات ما يُصبي؟
ألا تهتفُ بالشكوى
إلى ليلى وبالعتْب
قيس
:
ديارَ الحي من ليلى
سلامٌ من شَجٍ صَبِّ
على الحي على الدار
على ليلى على الحب
عدا الركبُ على طيبٍ
كريح المندَل الرَّطب
فيا ليلى عسى اليوم
أبلُّ الشوقَ بالقرب
عسى الخِطْبةُ لا تنزلُ
في ناديكِ كَالخَطب
عساهم لا يقولون
فتى مشترَكُ اللب
ولا يذهبُ إحساني
ولا يبقى سوى ذنبي
يقولون بها غنَّي
لقد غنَّيتُ من كربي
سلي تُربَك كم مَرَّغت
خدَّيَّ على التُّرب
وكم جُدتُ عَلى الرمل
ولم أبخَلْ على العشب
بدمعٍ مثل دمعِ الثُّكلِ
مغروفٍ من القلب
(يتطلع ابن عوف إلى ناحية الحي)
ابن عوف
:
الحيُّ في السلاح سَدَّ الوادي
وأنت قيسُ بعد حينٍ غاد
على خصوم لُدُدٍ شِداد
فَالْقَ الرجال صاحيَ الفؤاد
لا تَلْقهم مُضَيَّعَ الرشاد
قيس
(متطلعًا كذلك)
:
أتُبصِرُ يابنَ عوفٍ حيَّ ليلى
تَدجَّج في السلاح ولا تراها؟
فما لي لا أُحَقِّقُ غيرَ ليلى
وإن كثُر السوادُ لدى حماها
لقد ألقَى هوى ليلى حجابًا
على عيني فلستُ أرى سواها
وبغَّضتِ النصيحَ إليَّ ليلى
وسدَّ مسامعي عنه هواها
(يسمع من بعيد ومن ناحية الحي لجب وقعقعة سلاح ويقترب الصوت
ويتعالى شيئًا فشيئًا)
أرى حيَّ ليلى في السلاح ولا أرى
سلاحًا كهجر العامريَّة ماضيَا
دمي اليومَ مهدورٌ لليلى وأهلِها
فِداء لليلى مُهدَرَاتٌ دمائيَا
ليَ اللهُ! ماذا منك يا ليل طَاف بي
وما ذلك الساقي وماذا سقانيا؟
دعوني وما عِندي لليلى أقولُه
لليلى وأستنشي الذي عندها لِيَا
أهيمُ فأستعدي نهاري على الجوى
وأقبعُ ليلى أستجيرُ القوافيا
(فما أُشرِفُ الأيْفَاعَ إلا صبابةً
ولا أُنشدُ الأشعارَ إلا تداويا)
إذا الناسُ شَطرَ البيت ولَّوْا وجوههم
تملستُ ركنيْ بيتها في صلاتيا
(أصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتُها
أثِنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أم ثمانيا)
توارتْ وراء الجَمْع ليلى فخانها
فمٌ كابتسام الصبح يأبَى التواريا
وطِيبٌ به خُصَّتْ حوى الطيبَ كلَّه
فهبْه الأقاحي أو فهبْه الفواغيا
فأحسسْتُ من فرْعي لساقيَّ هَزَّةً
كأن عيانًا منكِ لاقى عيانيا
دعونا وما يبقى إذا ما فنيتُمو
فوالله ما شيءٌ خلا الحبَّ باقيَا
مشى الحبُّ في ليلى وفيَّ من الصِّبا
ودبَّ الهوى في شاءِ ليلى وشائيا
وإني وليلى للأواخر في غدٍ
لشُغْلٌ كما كنا شغلنا الأواليا
(يبدو على وجهه الاصفرار والجهد ثم يترنح فيتلقاه زياد — تسمع أصوات
الحي من قريب)
ابن عوف
:
زيادُ أَدركْه أَدرِكْ
إني أرى الداءَ عادَهْ
لقد تضاءَل قيسٌ
واصفرَّ مثلَ الجرادهْ!
وليس قيسٌ بمُلقٍ
إلا إليك قِيادَهْ
الآن أسعى لقيسٍ
سعيًا أخافُ فسادَهْ
فمِلْ بنا وبقيسٍ
حتى يُصيبَ رشادَهْ
(يحملون قيسًا ويختفون به وراء شجر البان، وتظهر طلائع الحي من
اليسار وعلى رأسها المهدي ومنازل، وكلهم شاكي السلاح)
المهدي
:
يا قومُ إن البغْيَ شرٌّ مركَبُهْ
والخيرُ في جانب من يُجَنِّبُهْ
هذا ابنُ عوفٍ قد أطلَّ موكِبُهْ
وإن قيسًا في الرِّكاب يصحَبُهْ
جاء يرومُ صِهْرَكم ويَخْطُبُهْ
وقد علِمْتُمْ كيف ساء مذهبُهْ
وكيف طال بابنتي تَشَبُّبُهْ
صوت
:
كِلْهُ إلى سيوفنا تؤدِّبُهْ
لقد وجدناه وكنا نَرقُبُهْ
المهدي
:
لا، دمُ قيسٍ دمُنا لا نَقرَبُهْ
يكفيه مِنَّا أننا نُخَيِّبُهْ
ونَصرِفُ الأميرَ عمَّا يطلبُهْ
صوت آخر
:
شيخَ الحمى لا تضعُفِ
ولا تردَّدْ وقف
ذُدْ عن عقيلة الحمى
وامنع حياضَ الشرَفِ
لا تُصْغِ للشافع في
قيس ولا المستعطِفِ
ليس ابنُ عوْفٍ في الذي
سعى له بالمنصِف
أبِالأمير بعد ما
أجار قيسًا تحتفي؟
لَا تخشَ بأسَه ومن
رجاله لا تخف
نحن كعثمانَ وليلى بيننا كالمُصحَف
(يظهر ابن عوف وحاشيته من وراء الشجر ومعهم زياد)
ابن عوف
:
قل لهم يُلقُوا السلاحا
ليس ذا مَوْطِنَ خوف
صوت من الحى
:
يابنَ عوفٍ يا أميرْ
ليس ذا شأنَ الوُلاةِ
كيف تَحمي وتُجيرْ
مُستبيحَ الْحُرُماتِ؟
ابن عوف
:
عامِرُ يا أجاوِدَ البِطاحِ
وأسمَحَ الناس بُطونَ راحِ
ما لي وللسيوف والرماحِ؟
ضيفٌ أنا وما من السّماح
رَدك وجهَ الضيف بالسلاح
ما جئتُكم يا قومُ للكفاح
بل جئتُ للتوفيق والإِصلاحِ
(تحدث ضجة في جانب الحي وتصايح وتهامس ثم يلقي كثير منهم السلاح
ويغمد السيوف)
صوت من الحي
:
يا أبا ليلى بليلى
جُدْ لقيسٍ بالحياةِ
إنه شاعرُ نجدٍ
ونَجِيُّ الظَبيَاتِ
صوت آخر
:
قيسٌ أخٌ وابنُ عمِّ
وليس أهلًا لذَمِّ
نجمٌ أضاء بنجد
سما على كل نجم
هبوه جُنَّ بليلى
ليس الغرامُ بجُرم
منازل
(حيث يستقبل الجمعين خطيبًا)
:
إن قيسًا معشرَ الحي أخٌ
وابنُ عمٍّ أفمنه تبرءونْ؟
منازل
:
أصغوا لي إذنْ
ثم ظنوا كيف شئتم بي الظنونْ
إن قيسًا شاعرُ البيد الذي
لا يُجارَى أفأنتم مُنْكِرونْ؟
منازل
:
أصغوا لي إذنْ
ثم ظنوا كيف شئتم بي الظنونْ
إن قيسًا سيِّدٌ من عامرٍ
وابنُ سادات، أفيه تمترون؟
منازل
:
أصغوا لي إذنْ
ثم ظنوا كيف شئتم بي الظنونْ
إن قيسًا قد بنى المجدَ لكم
ولنجدٍ أبقيسٍ تكفرون؟
منازل
:
أصغوا لي إذنْ
ثم ظنوا كيف شئتم بي الظنونْ
إن قيسًا كاملٌ في عقله
أوآنستم على قيسَ الجنون؟
منازل
:
أصغوا لي إذنْ
ثم ظنوا كيف شئتم بي الظنونْ
أنا لم أعدِلْ بقيسٍ شاعرًا
لا ولا أنتم بقيسٍ تعدلون
منازل
:
أصغوا لي إذنْ
ثم ظنوا كيف شئتم بي الظنون
أنا في وُدي وإعجابي به
لا يدانيني الرواةُ المعجَبون
شعرُه يبقى ويفنى غيرُه
ليس كلُّ الشعر تَرويه القرون
شعرُ قيس عبقريٌّ خالدٌ
ليته لم يتخلَّلْه المجُون
ولو ان المتجني شاعرٌ
غيرُ قيسٍ أوشك الخطب يهون
رُبَّ شعرٍ قال في ليلى، به
هتف البدْوُ وضجَّ الحاضرون
إنني أخشى عليكم عارَه
رُبَّ عارٍ ليس تمحوه السِّنونْ
ضجرتْ ليلى وضجَّت أمُّها
وأبوها وتأذَّى الأقربون
وغَدا كلُّ فتى من عامِرٍ
حين يلقى الناسَ، مَحْنِيَّ الجبين
منازل
:
إذن ما بالُكم
لم تثوروا، ما لكم لا تغضبون؟
هو ذا قيسٌ مع الوالي أتى
يطأُ الحيَّ وأنتم تنظرون
وأبو ليلى امرُؤٌ أدرِي له
رِقَّةَ القلب وأخْشى أن يلين
بعدَ حينٍ يعبَثُ القومُ بكم
ومن الحيِّ بليلى يخرجون
آن يا قومُ لكم أن تعلموا
أن قيسًا هتك الخدرَ المصون
قيسُ لم يترك لليلى حُرمَةً
ما الذي أنتم بقيسٍ فاعلون
صوت آخر
:
إن بالسَّوْط يُرَبَّى الماجنون
آخر
:
ولنقفْ
دون ليلى وحماها كالحصون
منازل
:
حلَّل السلطان بالأمس لكم
دمَ قيسٍ ما الذي تنتظرون؟
صوت
:
حلَّل السلطان بالأمس لنا
دمَه
(ضجيج واندفاع)
صوت
:
مُنازِ يابنَ العم ما هذا الخبرْ؟
رفعتَ قيسًا فجعلتَه القمرْ
والآن أغريتَ بقتله الزُّمَرْ
كفعل جزار اليهود بالبقر
برَّأها من العيوب وعَقَرْ!
(يصعد بشر منبرًا للخطابة فيجتمع حوله جماعة من الناس)
قائل
:
إرجعوا يا قومُ هذا منبرٌ
وخطيب
آخر
:
هل
يحسن الخُطبة بشرٌ ويُبين
(يحاول منازل أن ينسل من الجماهير)
بشر
:
قف منازِ اسمعْ سمعتَ الرعد من
جانبيْ صاعقةٍ فيها المَنون
وسمعتَ الذئب في جَوْز الفَلا
وسمعتَ الليثَ في جَوف العرين
أخطيبٌ أنت أم خطبٌ وإن
لم تَهُن والْخطبُ أحيانًا يَهُون
منازل
:
ما لك يا بشرُ ولي؟
إن حربَ الأهل والصحب جُنون
بشر
:
لِمْ إذن حاربتَ قيسًا لم تصُن
حرمةَ ابنِ العم أو حقَّ الخَدينْ؟
بشر
:
خلِّ الحق ما
أنت واللهِ على الحق أمِين
إنِّما أنت لقيسٍ حاسدٌ
منطوي الصدر على الحقد المَهين
كلما حدَّثتَ عنه عامرًا
قرأتْ في وجهك الداءَ الدفين
ترسِلُ الزفرةَ تتلو أختَها
وتَفُشُّ الصدرَ من حين لحين
يا منازِ يابن عمِّي أصغ لي
أنت دونٌ أنت دون أنت دون!
آخر
:
ومن كتَّفَ النذلَ أو كبَّله
آخر
:
كلا البطلَيْنِ
يقولُ الوعيدَ ولن يفعلَهْ
آخر
:
تنحَّوْا وخلُّوا سبيليْهما
ولا تخشوُا الوقعةَ المقبلهْ
بشر
:
أننزو على الحي نَزْوَ الديوك
ونقفِزُ كالأكبُش المرسلهْ
وتَفلَقُ رأسي كرُمانة
وأفلَقُ رأسَكَ كالحنظلهْ
فماذا يردُّ عليك العويلُ
وما ذا انتفاعيَ بالولولهْ؟
زياد
:
منازلُ كنت كثير الكلام
ووالله ما قلتَ إلا الكذبْ
صوت
:
أتزعمُه كاذبًا يا زيادُ
وقد ذاد عن حُرمات العربْ؟
زياد
:
رويدَك لا تنخدِع يا فتى
ولا تأخذ الأمرَ دونَ السببْ
فلم يبغِ إلا خداعَ الجموع
وجلْبَ الظنون وخلْقَ الرِّيَبْ
وأثَّر فيكم وفي آخرين
وأفرغ فيكم سُمومَ الرُّقُبْ
صوت
:
منازلُ دافعَ عن سُنَّةٍ
مُعَظَّمَةٍ من قديم الحِقَب
زياد
:
تأمل منازلُ سُخْطَ الجموع
وجهلَك ماذا عليهم جلَبْ!
أجل قد غضبتَ ولكنما
لنفسك ليس لليلى الغضب
تحضُّ على قَتل قيسَ الرجالَ
لتحظى بليلى إذا ما ذهب
زياد
:
سلوه ألمْ يَكُ يَغشَى النَّدِيَّ
ويطلبُ ليلى أشدَّ الطلب؟
زياد
:
منازلُ قل لهمو كم ضرعت لليلى وكم أعرضتْ لم تُجِبْ
آخر
:
قد جاز إلَّا عليَّ كِذْبُكْ!
ثالث
:
ما أنتَ إلا جوٍ شقيٌّ
تحبُّ ليلى ولا تُحِبُّكْ!
(تحدث ضجة حول منازل ويقف ثلاثة رجال في ركن قصي من أركان المسرح
يتحدثون)
الأول
:
قد اختلف الحيُّ في أمر قيسٍ
وليلى فكلٌّ له مذهبُ
وأنت إلى أيِّ رأي تميلُ
وأي الفريقين تستصْوِبُ
الثاني
:
إذا صدقت نظرتي في الأمور
ولي نظرةٌ قلَّما تكذِبُ
منازلُ غادٍ على خيبةٍ
وقيسُ على فضله أخْيَبُ
وقد يُخفقان ويلقى النجاحَ
غريبٌ له فيكمو مأرب
الثالث
:
رأيناه في الحي يمشي الحياءَ
وقيل أتى عامرًا يخطُبُ
الأول
:
وليلى ابنةُ الشيخ ما رأيُها
أما من حسابٍ لها يُحسب؟
الثاني
:
أراها وإن لم تَخطَّ الشبابَ
عجوزًا على الرأي لا تُغلَب
تصونُ القديمَ وترعى الرميمَ
وتُعطي التقاليدَ ما توجب
وبالجاهلية إعجابُها
إذا قل بالسلف المعجَبُ
ومن سُنَّة البيد نفضُ الأكفِّ
من العاشقين إذا شبَّبوا
فلا تعجبوا إن جرى حادثٌ
يُحدث عنه ويُستغرب
وإن رضِيَتْ وردَ بعلًا لها
وقيسُ الأحبُّ لها الأقرب
فيا طالما التمست مهربًا
وأرضُ ثقيفٍ هي المهرب
منازل
:
بني عامرٍ لا تُضِيعوا الحُلومَ
فإِن الأناة بكم أجملُ
هبوا ليَ آذانكم إنني
أجدُّ وصاحبُكم يَهزِلُ
خطبتُ وأخطبُ ليلى غدًا
وما ليَ يا قومُ لا أفعلُ
وقد تُعرِضُ اليومَ ليلى فلا
أضيقُ، عسى في غدٍ تُقْبِلُ
فما قيسُ أجدرُ مني بها
ولا هو خيرٌ ولا أفضل
زياد
:
إليك منازلُ! لا تتَّزِنْ
بقيسٍ قد اختلف المنزلُ!
ولا يستوي الشاعرُ العبقري
ومن هو مِن باقلٍ أبقل
منازل
:
وما أنت؟ بيِّنْ لنا يا زياد
زياد
(ممسكًا بذراع منازل)
:
ستعلم منِّي ما تجهل
هلُمَّ مُنازِ، هلمَّ الصراعْ!
وودِّعْ ضلوعَكَ وانْعَ الذراعْ
زياد
:
سألتَ ما أنت؟ فأصغِ، راعِ
إني أنا ممزِّقُ الأضلاع!
(ثم يجره من ذراعه ويمضي به إلى خارج المسرح)
(يخلو المسرح الآن إلا من المهدي وابن عوف ونصيب ثم تسمع صرخة من
وراء الشجر)
مهدي
:
قيسُ لا بأسَ عليك
كبِّروا في أذُنيْهِ
ابن عوف
(لنفسه)
:
سُدًى كبِّروا ما أُذْنُ قيسٍ مفيقةٌ
وإن سكبوا فيها أذانَ بِلال
ولكن على ليلى يُفيقُ وشبهها
إذا ما بدتْ ليلى بشكلِ غزال
ويصحو على ليلى إذا رُدِّدَ اسمُها
وراءَ بُيوتٍ أو وراءَ رِحال
المهدي
:
دَمُ الوُدِّ والقُربَى وإن كان ظالمًا
عزيزٌ علينا أن نراه يسيل
وإني لإنسانٌ وإني لوالدٌ
ولي مذهَبٌ في الوالدين جميل
فرفقًا بقيس يا أميرُ ونَحِّه
بعيدًا لعل الشرَّ عنه يزولُ
ابن عوف
:
أناةً أبا ليلى وحِلمًا ولا يَكنْ
عليك لطغيان الظنون سبيل
رددتم ركابي واتهمتم زيارتي
وأجلبَ فِتيانٌ وضجَّ كهول
تأملْ تجدْ جَمْعًا مَغِيظًا وكثرةً
تصولُ وما تدري علامَ تصول!
رءوسٌ تنَزَّى الشرُّ فيها وراءَها
نفوسُ ذئابٍ ما لهن عقول
تطلَّبُ أن يُلقى إليها بجُثَّةٍ
على غير جوع أو يُساقَ قتيل
نواظرُ ما يأتي به اليومُ من دَمٍ
وإن لم يُساورْها صدًى وغليل
نزلتُ فلم أُكرَمْ فهل أنت مُتبعي
وقومُك نارَ الطَّرد حين أميل؟
أبَيْتُم عليَّ القولَ قبل استماعه
فلم تُنصفوا والمنصِفون قليل
فهل لي أبا ليلى بناديكَ وقفةٌ
فإن الذي قد جئتُ فيه جليل
وما أنا مَرْءُ السوء أو رجُلُ الأذى
ولكنْ سفيرٌ خيِّرٌ ورسول
ولم أتخذْ جاهَ الأمور ذريعةً
ألا إنما جاهُ الأمور يزول
المهدي
:
بقيتم بخير يا وُلاةَ أميةٍ
ولا زال يقوى ركنُكم ويطول
(مشيرًا إلى باب الخباء)
هنا مجلسُ نأوي إليه لعلني
أقولُ صوابًا أو عساك تقول
وثَمَّ ترى ليلى وتسمعُ قولَها
وليلى لها رأيٌ يُساقُ جميل
فسلْها عسى أن نهتدي ما جوابُها
إباء وردٌّ أو رضى وقبول
(يهم ابن عوف بخلع نعليه)
المهدي
:
أتخلَعُ نعليك لا يابنَ عوف
نَشَدتُك بالله لا تفعل
أتمشي إلى منزلي حافيًا
فديتُك، من أنا؟ ما منزلي؟
ابن عوف
:
خلعتُهما وانتعلْتُ الترابَ
إلى خَيْمة السيِّدِ المفضِلِ
نصيب
(متدخلًا)
:
دعْه يا مهديُّ يفعل
إنما يَرمِي لمعنى
كالحسيْنِ بنِ عليٍّ
هو بالعشاقِ يُعنَى
الحسينُ انتعل التربَ
إلى والد لُبنَى
فرآه حافيًا في ساحة الدار فجُنَّا
قال لا أملِك يابن
المصطفى بنتًا ولا ابنا
أنت في الدار أميرٌ
فبما شئتَ فمُرنا
(لنفسه)
يا دهر دُرْ بما تشا
ويا حوادثُ اهزِلي!
ويا وظيفةُ اعزُبي
ويا جرايةُ ارحلي
يبغي ابنُ عوفٍ أن يكو
نَ كالحسيْنِ بنِ علي!
(يدخلان وينادي المهدي)
هو الضيفُ يا ليلَ هاتي الرُّطبْ
وهاتي الشِّواءَ وهاتي الحَلبْ
وهاتي من الشهد ما يُشتَهى
ومن سَمنَة الحيِّ ما يُطَّلَبْ
فما هو ضيفٌ ككلّ الضيو
ف ولكن أميرٌ كريمُ الحسَبْ
ابن عوف
:
لا بل قفي
فما بي ظَماءٌ ولا بي سَغَبْ
وأعلَمُ أن القِرى دِينُكم
وأن أباكِ جوادُ العربْ
ولكن طعاميَ
ابن عوف
:
طعامُ الرسول بلوغُ الأرَبْ
المهدي
:
(تظهر ليلى من وراء الستر)
تقدَّمي ورحِّبي
حلَّ ابنُ عوفٍ دارَنا
ليلى
:
أكرمْ به وأحببِ!
قد زارنا الغيثُ فأهلًا بالغمام الصَّيِّب
ابن عوف
:
أهلًا بليلى بالجمالِ
بالحِجى بالأدبِ
عشتِ وقيسًا فلقد
نوَّهتما بالعرب
ليلى
(بين الخجل والغضب)
:
أتَقْرِنُ قيسًا بنا يا أميرُ؟
ابن عوف
:
ولِمْ لا وقد جئتُ من أجْلِهِ
ومَنْ أنا حتى أضُمَّ القلوبَ
وأعطفَ شكلًا على شكلِهِ
لقد جمعَ الحبُّ رُوحيْكما
وما زالَ يجمعُ في حبلِه
ليلى
(في استحياء)
:
أجلُ يا أميرُ عرَفتُ الهوى
ابن عوف
:
(يلتفت إلى المهدي)
أبا العامريَّةِ قلب الفتاةِ
يقول وينطِقُ عن نُبْله
فأصغِ له وترفَّقْ به
ولا يسْعَ ظُلمُك في قتله
المهدي
:
أأظلم ليلى؟ معاذَ الحنان!
متى جار شيخٌ على طفله؟
هو الْحُكْمُ يا ليلَ ما تحكمين
خُذي في الخطاب وفي فصله
ليلى
:
إنَّه
مُنَى القلب أو مُنْتهَى شُغله
ولكن أترضى حجابي يذالُ
وتمشي الظنونُ على سِدْله
ويمشي أبي فيَغضُّ الجبينَ
وينظرُ في الأرض من ذلِّه
يداري لأجلي فضولَ الشيوخ
ويقتلُنِي الغمُّ من أجله
يمينًا لقيتُ الأمرَّيْنِ من
حماقة قيسٍ ومن جهله
فُضحتُ به في شِعابِ الحجازِ
وفي حَزْنِ نجدٍ وفي سهله
فخذْ قيس يا سيدي في حماك
(في حياء وإباء)
وأَلْق الأمانَ على رَحْلِهِ
ولا يَفْتكِرْ ساعةً بالزواجِ
ولو كان مَرْوانُ من رُسْلِهِ
ابن عوف
:
إذن لن تقبلي قيسًا
ولن تَرضَيْ به بعلَا
إذن أخفق مسعايَ
وخاب القصدُ يا ليلى
ليلى
:
على أنك مشكورٌ
ولا أنسى لك الفضلا
وأوصيكَ بقيسَ الخيرَ لا زلتَ له أهلا
لقد يُعوِزُه حامٍ
فكنْه أيها الموْلى
(تلتفت إلى أبيها وكأنما تحاول أن تحبس في عينها دموعًا)
أبي كان وردٌ ههنا منذ ساعةٍ
ففيم أتى؟ ما يبتغي؟
ابن عوف
:
ومن وَردُ يا ليلى وهل تعرفينه؟
ليلى
:
فتى من ثَقيفٍ خالصُ القلبِ طيِّبُ
أتى خاطبًا بعد افتضاحي بغيره
وعاري، أهذا يابن عوفِ يُخَيَّبُ؟
أبي: أين وردُ الآن؟
المهدي
:
عند قرابةٍ
من الحيِّ ضمُّوهُ إليه ورحَّبوا
فإن شئتِ أرسلنا إليه
ليلى
:
ابعَثْ ادْعُهُ
وجِئْنَا بقاضي نَجدٍ اليوم يكتب
ابن عوف
:
تجاوزتِ ليلى غايةَ السُّخْط فاذكري
عواقبَ رأي قد رأيتِ سخيفِ
ليلى
(متهكمة)
:
أكنتُ ابنَ عوفٍ غيرَ أنثى ضعيفةٍ
تناهتْ لرأي في الأمور ضعيف
ابن عوف
:
أرى وقفتي يا ليلَ كانت شريفةً
ولكنْ جزائي كان غيرَ شريفِ
ليلى
:
أنظِّفُ ثوبي يا أميرُ فطالما
ظهرتُ به في الحيِّ غيرَ نظيف
ابن عوف
:
لئن كنتِ يا ليلى بوردٍ قريرةً
فإني على قيسٍ لجِدُّ أسيف
(ثم يخاطب أباها)
أَلان بحفظ الله يا سيد الحمى
لقد طال لُبثي عندكم ووقوفي
ووُفِّقْتِ يا ليلى
ليلى
:
لقد كنتَ سيدي
حليفًا لقيسٍ، هل تكونُ حليفي!
ابن عوف
:
سألتِ مُحالًا إنما جئتُ خاطبًا
لورد القوافي لا لورد ثَقيف!
(يخرج من باب الخباء ويشيعه المهدي إلى ما وراء شجر البان)
ليلى
:
ربَّاهُ ماذا قلتُ! ماذا كان مِن
شأن الأمير الأرْيَحِيِّ وشاني؟
في موقفٍ كان ابنُ عوفٍ مُحسنًا
فيه وكنت قليلةَ الإحسان
فزعمتُ قيسًا نالني بمساءَةٍ
ورمى حجابي أو أذال صِياني
والنفسُ تعلَمُ أن قيسًا قد بنى
مجدي وقيسٌ للمكارم بان
لولا قصائده التي نوَّهن بي
في البيد ما عَلِمَ الزمان مكاني
نجدٌ غدًا يطوَى ويفنَى أهله
وقصيد قيسٍ فيَّ ليس بفان
ما لي غضِبْتُ فضاع أمري من يدي
والأمرُ يخرجُ من يد الغضبان
قالوا انظري ما تحكمين فليتني
أبصرتُ رشدي أو ملكتُ عِناني
ما زلت أهذي بالوساوس ساعةً
حتى قتلت اثنين بالهذيان
وكأنني مأمورةٌ وكأنما
قد كان شيطانٌ يقودُ لساني
قدَّرتُ أشياءً وقدِّر غيرها
حظٌّ يخُطُّ مصايرَ الإنسان