عن العلماء والمهرطِقين
وجدت الكثيرَ من الأشياء العظيمة التي كانت تُعَد هرطقية ومغلوطة وسخيفة ومضحكة وخيالية وغير معقولة وجارحة، ومناقضة وكذلك مضادة بوضوح للعقيدة القويمة والأخلاق الحميدة والمنطق السليم وخبرات بعينها والمحبة الأخوية. وخلصت إلى وجوب إدراج بعضها هنا.
هروب
في ليلة السادس والعشرين من شهر مايو لعام ١٣٢٨، انسلَّ ثلاثة من الرهبان — وكانوا حليقي الرأس يرتدون رداء رهبان الفرنسيسكان الرمادي — خارجين من مدينة أفينيون البابوية واتجهوا جنوبًا نحو ميناء مدينة إيج-مورت الصليبي المطلِّ على جانب النهر؛ تلك المدينة التي تبعُد حوالي ستين ميلًا شمال غرب مارسيليا. كان أول هؤلاء هو ميكيله من تشيزينا وهو الكاهن العام لرهبنة الفرنسيسكان والقيَّم على ختمِها. أما الثاني، فكان كبير محامِي الفرنسيسكان ويُدعى بوناجراتيا من برجامو. كان كلاهما معروفًا جيدًا لدى الباباوات والأمراء؛ إذ سافرا كثيرًا بين البلاطات الأوروبية كممثِّلَين لرهبنتهما. أما الهارب الثالث الذي كان عمرُه يقارب الأربعين وذا بنية هزيلة، فكان هو العالِم الإنجليزي ويليام الأوكامي. وعلى الرغم من أنه كان أصغرَ من أخويه الفرنسيسكانيين بأكثر من عَقد من الزمن، فإن أفكاره الخَطِرة كانت قد جرَّت إليه بالفعل سوء السمعة وجعلته يُتهم بالهرطقة. كان ثلاثتهم يفِرون من القضاء البابوي بعد أن اتهموا البابا بكونه مهرطقًا. ولو أُلقي القبضُ عليهم، لكانوا سيواجهون العزلَ الكنسي أو السَّجن أو حتى موتًا بطيئًا قاسيًا على محرقةِ جثث مشتعلة.
في تلك الأثناء، وبالعودة إلى أفينيون، عُرِف هروبُ هؤلاء الرهبان الثلاثة وأُرسِلت مجموعة من الجنود البابويين لإلقاء القبض عليهم. وصلت فرقةُ الاعتقال — تحت قيادة لورد أرابلي و«بصحبته مجموعةٌ كبيرة من الجنود البابويين والملكيين» — في سكون الليل في حين كان رهبان الفرنسيسكان على متن قادس جينتل الذي كان لا يزال راسيًا في الميناء غيرَ قادر على الإبحار. طالب اللورد بأن يسلِّم قبطانُ السفينة الهاربين. بدا جينتل في البداية متعاونًا، ودعا لورد أرابلي للصعود على متن السفينة. ألقى الموفدُ البابوي القبض رسميًّا على رهبان الفرنسيسكان وهدَّد بتوقيع «أقصى العقوبات» إن رفض جينتل تسليمَهم. وانتهى الرجلان إلى اتفاقٍ يستسلم الرهبان بموجبه إلى السلطات البابوية. لكن وبعد أن ترجَّل لورد أرابلي عن متن القادس، «نشر القبطان أشرعتَه وأبحر سرًّا مبتعِدًا» تحت جُنْح الظلام.
لا بد أن رؤيةَ الجنود البابويين الغاضبين وهم يغيبون وسط الظُّلمة قد أسرَّت رهبانَ الفرنسيسكان المرتعبين. إلا أن فرحَهم هذا لم يدُم طويلًا لأنهم وبعد أن كانوا قد «قطعوا مسافةَ ثلاثين فرسخًا أسفل النهر» (في تلك الآونة كان الميناء يبعُد عن البحر بأميال كثيرة) «تسبَّب التدبير الإلهي في هبوب رياحٍ معاكسة» جعلتهم يعودون عكس التيار، ما أجبر جينتل مرةً ثانية على البحث عن ملاذٍ في متناول الفِرقة البابوية. واستُؤنفت المفاوضاتُ من أجل تسليم رهبان الفرنسيسكان الذين ظلَّوا على متن القادس عدةَ أيام «في هلع شديد». لكن يبدو أن القبطان المراوغ كان يحاول كسْب بعض الوقت؛ لأنه انطلق بقادسه في النهرِ مرة أخرى حين غيَّرت الرياح اتجاهها، وقد وصل هذه المرة إلى عُرض البحر حيث لقيه «قادسٌ حربي سافوني كبير يقوده شخصٌ يُدعى «لي بيليز»» والذي كان قد تحالف مع إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة المنتخَب حديثًا لويس البافاري. رتَّب جينتل نقْلَ الهاربين إلى السفينة الأكبر، وفي يوم الجمعة الموافق ٣ من شهر يونيو أبحر القادسُ الحربي ورُكابه الفرنسيسكان بعيدًا عن متناول البابا المستشيط غضبًا. نجا ويليام، لكن، وعلى قدرِ علمنا، لم يَعُد أبدًا إلى فرنسا أو إلى موطنه إنجلترا.
إذن لماذا كانت أفكارُ ويليام خَطِرةً للحدِّ الذي دفع البابا إلى تكبُّد كلِّ هذا العَناء في محاولة القبض عليه؟ لكي نفهم هذا، نحن بحاجةٍ لأن ندلِف إلى داخل العقلية البالية لعالم العصور الوسطى.
•••
وُلِد ويليام حوالي عام ١٢٨٨ في أوكام، وهي قريةٌ صغيرة بمقاطعة سوري على بُعد مسيرة يوم ركوبًا تقريبًا جنوب غرب لندن. وليس هناك رواياتٌ معاصرة لتلك الفترة عن تلك القرية عدا إدخال القرية في «كتاب وينتشستر» الذي كُتِب عام ١٠٨٦؛ أي بعد عشرين عامًا على غزو النورمان لإنجلترا وقبل مائتي عام من ولادة ويليام. قد يبدو هذا زمنًا طويلًا، لكن بعد وقوع الفوضى بعد الغزو مباشرة، كانت وتيرة التغيُّر في إنجلترا في العصور الوسطى أبطأ بكثير مما هي عليه اليوم، وعلى حد علمنا، ظلَّت أوكام الضَّيعة أو القرية المتواضعة نفسها كما وصفها الاستيطان باسم بوكهام تحت مسمَّاها الأنجلو ساكسوني. كانت القرية توفِّر مرعًى لستٍّ وعشرين بقرة، وغابة تنتج جوز البلوط الكافي لإطعام نحو أربعين خنزيرًا، وحقولًا كافية لدعم حوالي عشرين أسرة وطاحونة. لربما كانت أقدمُ ملامح سرد «كتاب وينتشستر» هي كيفية وصف الكتاب لقاطني القرية من البشر؛ حيث ذكر أنهم كانوا «اثنين وثلاثين من الفلاحين نصف الأحرار وأربعة أُجَراء … وثلاثة عبيد». هذه هي كل الفئات العاملة الذين كانوا يعملون لصالح سيِّدهم من دون أجر، وكانوا يُباعون ويُشترَون مع الضَّيعة الإقطاعية. ولم يكن هناك ذِكر لأحد باسمه عدا رجل واحد حر كان اسمه الأنجلو ساكسوني هو جاندريد. كانت قيمة الضَّيعة الإقطاعية كلِّها تساوي خمسة عشر جنيهًا، وهذا تقريبًا يساوي ثمانية أضعاف ما يمكن أن يجنيه العامل في العام الواحد.
الحقيقة الراسخة الأولى التي نعرفها عن ويليام أنه وُهِب إلى رهبنة الفرنسيسكان، وعلى الأرجح أن عمره حينها كان يقارب الحادية عشرة. كان هذا الأمرُ شائعًا نسبيًّا في أوساط العائلات النبيلة، إلا أن عدة وقائع تعارض كون ويليام نبيلَ الأصل. أولى تلك الوقائع هي غياب أيِّ ذكرٍ لعائلته، مما يشير إلى أنها كانت أسرةً متواضعة. وثانيها هي عدم إدراج أيِّ نبلاء في إدخال أوكام المذكور في «كتاب وينتشستر» ولا في الروايات التي تلت ذلك. كما أن الأديرة كانت تقوم بدور الملاجئ غير الرسمية للأطفال غير المرغوب فيهم الذين يُترَكون على أعتابها؛ لذا فإن البداية المرجَّحة أكثر لحياة ويليام هي إما أنه كان طفلًا يتيمًا، أو غير شرعي أو مهجورًا.
كانت نيوجيت منطقةً في الركن الجنوبي الشرقي لمدينة لندن القديمة والتي كانت متاخمةً لواحدة من سبع بوابات في جدار المدينة. تبعُد منطقة نيوجيت مسيرةَ ركوب يوم شَمالي أوكام أو جيلفيد؛ أو على الأرجح أكثر، على بُعد عدة أيام منهما بالسفر سيرًا. وكان ذلك الدير، وهو الأقدم والأكبر في إنجلترا، يأوي أكثرَ من مائة راهب، كما كان قريبًا من سوق لحوم نيوجيت المزدحم. يمكننا أن نتخيَّل الراهبَ المبتدئ وهو يشق طريقه خلال الأزقة والممرات الضيقة الزلقة النتنة والتي تعجُّ بالضجيج والهِياج وتحمل أسماءً مثل بلادر ستريت أو ذا شامبلز (الذي هو شكلٌ مختصر ﻟ «فليش آمبلز») متفاديًا الرجالَ والصبية الذين يحملون أجسادَ البقر والخنازير والخراف التي يقطر منها الدم، والذين يبخِّرون كذلك دِلاء الدَّم المتخثِّر ليصنعوا بودينج الدم الذي يُباع في زُقاق بودينج لين المجاور. على الأرجح أنه كان يشعر بارتياحٍ كبير وهو يمرُّ من خلال الأبواب الخشبية ليدلِف إلى العزلة والهدوء النسبيَّين داخل الدير.
كانت مدرسة جرايفريارز شيئًا يقع بين المدرسة والجامعة؛ حيث يدرُس الراهب ذو الميول الأكاديمية مدةَ ثلاث سنوات ليحصل على درجة البكالوريوس، أو مدةَ ست سنوات ليحصل على درجة الماجستير قبل أن يكمِل دراسته للحصول على درجةِ الدكتوراه في علم اللاهوت؛ وذلك إن كان ماهرًا بما يكفي. هنا اتسعت آفاقُ ما تلقَّاه ويليام من تعليم لتشمل الفنون الثلاثة الأولية من الفنون الحرة السبعة لجامعات العصور الوسطى، وهي النحو والمنطق والبلاغة، وذلك قبل أن يتقدَّم إلى دراسة الفنون الأربعة الأخرى التي اشتملت على الموسيقى، إضافةً إلى موادَّ تشكِّل اليوم جزءًا من أي منهجٍ دراسي علمي؛ ألا وهي الحساب والهندسة والفلك.
لكن حين جلس ويليام في حجرةِ الدراسة ذات الجدران الحجرية إلى جوار زملائه من الطلاب الحليقِي الرأس الذين يرتدون الرداءَ الرمادي ليستمع إلى محاضراتِ أساتذته في المنطق أو الحساب أو الهندسة أو الفلك، لا شك أن التجربة كانت مختلفةً عليه تمامًا عن تجربةِ أي طالب آخر من طلاب العصر الحديث. فبشكل مبدئي، كانت معظم النصوص الرئيسية عمرها مئات، بل حتى آلاف، السنين.
الكون المكتظ أمام الشفرة
بدا أن غيمةً غلَّفتنا؛ غيمةً مشرِقة كثيفة، سطحها صلب، كانت تتألَّق كتألق الماسة في ضوء الشمس المنعكس. غصنا بداخل اللؤلؤة السرمدية، كما يغوص شعاع الشمس في صفحة المياه، التي تبقى مع ذلك دون انحسار … لم أكن أعلم إن كنتُ جسدًا أم روحًا مجرَّدة … وكما لا تتبيَّن عيوننا بسهولةٍ الدُّرةَ التي يتزين بها الجبينُ الناصع البياض، هكذا رأيت الكثيرَ من الوجوه التي كانت تتوق الآن للحديث.
وبمراعاة هذا التوضيح، فإن المعرفةَ العلمية الأولى (بالمعنى الحديث للكلمة) التي درسها ويليام في جرايفريارز من المفترض أن تكون شروحاتٍ متعدِّدة لعلماء يونانيين أمثال إقليدس (في الرياضيات) أو أرسطو (في كل شيء آخر تقريبًا) من القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد، وكذلك علماء الرومان مثل بويثيوس من القرنين الخامس والسادس الميلاديَّين. في تلك الآونة، كان أرسطو يمثِّل المرجعيةَ الرئيسية، وعلى الأرجح أن ويليام درس أعماله «الطبيعة»، و«تاريخ الحيوانات» و«السماء والعالم» و«عن الكون والفساد» و«الأرصاد الجوية، الكتابين الأول والرابع». ومن بين الشروحات الأخرى، كان هناك كتابُ «كرة العالم» الذي كُتب عام ١٢٣٠ تقريبًا على يدِ يوهان دي ساكروبوسكو، الذي قدَّم موجزًا سهلَ القراءة عما وُجد في أعمال أرسطو ولاحقًا في أعمال الفلاسفة اليونانيِّين مثل بطليموس عن علم الفلك. وقد أثَّر كتاب ساكروبوسكو بشكلٍ عميق في فنون وآداب العصور الوسطى، بما في ذلك ربما أعظم قصائد تلك الفترة وهي «الكوميديا الإلهية» لدانتي.
من الواضح أن الفردوس بالنسبة إلى دانتي مكانٌ مادي؛ لكن هل السبب في ذلك يعود إلى العلم أم إلى اللاهوت؟ الإجابة هي: كلاهما. إذ توجَد الأرواح والملائكة في الفردوس بكثرة، وتوجَد كذلك أسئلةٌ يمكن أن نصفها اليوم بأنها علمية. على سبيل المثال، يشرع كلٌّ من دانتي وبياتريتشي أثناء جولتهما في محادثةٍ طويلة عن الأسباب الممكنة للبقع المظلمة على القمر. كان هذا الموضوع محلَّ جدال شديد بين العلماء في العصور القديمة والوسطى؛ لأن القمر — كونه أحد قاطني السماء — كان يُتوقَّع ألا تشوبه شائبة. ادعى البعض أن تلك البقع هي وصمات الخطايا البشرية؛ في حين تُناقش بياتريتشي احتماليةً أخرى وترفضها، وهي أن القمر قد يحتوي على مناطقَ شفافة. إذن فالعلم واللاهوت كانا يشكِّلان المعرفة الخاصة بالكون في العصور الوسطى.
ويستكمل دانتي ارتقاءه، فينتقل عبر دوائر الكواكب الخمسة قبل زيارة الدائرة السماوية التي تحمل النجوم الثابتة في مدارها اليومي. وقد كان هناك الكثيرُ من المناقشات حول طبيعة النجوم؛ ما إن كانت على سبيل المثال أجسامًا كروية مرتبطة بدائرتها، أو ربما فجوات في الدائرة السماوية يسطع من خلالها النور الإلهي. وفيما بعد تلك الدائرة السماوية توجد السماء العليا أو «المحرِّك الأول»، وتشرح بياتريتشي أن الغرض منها هو فقط توفيرُ الدفع اللازم للدوائر الداخلية التي تحمل النجوم والأجرام. وفيما بعدها يوجد مستقر الرب والقديسين.
وينبغي لي أن أشير إلى أن كتاب ساكروبوسكو عن الفلك لا يشتمل على الملائكة ولا يذكر أيَّ شيء لاهوتي صريح آخر، حيث كان يستند في أساسه إلى علم الفلك الأرسطي الذي يكاد يكون علمانيًّا بكامله. إلا أن غالبية مَن درسوا أرسطو في عالم العصور الوسطى كانوا لاهوتيين يبحثون عن طرائقَ لدمج أفكاره في علم الفلك في رؤيتهم عن السماء في العقيدة المسيحية، وهذا بحسب ما يتجلَّى من أعمالهم. ومِن ثَمَّ فإن قصيدة دانتي تقدِّم لمحةً عن السماء التي درسها ويليام، وفي الوقت نفسه، ما ظن الرجال والنساء المتعلمون من ذلك العصر أنهم ينظرون إليه حين ينظرون إلى السماء أثناء الليل. إن الإنسان الذي عاش في العصور الوسطى كان يرى جدران السماء تزيِّنها الشمس والقمر والنجوم، وهذا بعيدٌ كل البعد عن مفهومنا الحالي لسماء الليل التي تملؤها كرات الصخور والغازات المشتعلة وتفصل بينها فراغات شاسعة. وإن تمكَّن إنسان العصور الوسطى من الارتقاء في السماء كما فعل دانتي وأزال قبَّتها المرصَّعة بالنجوم، فإنه كان يتوقَّع أن يرى وجه الرب إلى جانب الملائكة والقديسين.
لذا كان الكون في العصور الوسطى مزيجًا غريبًا بين علم الفلك اليوناني واللاهوت المسيحي. وقد تجمَّعت مكوناته اللاهوتية معًا من الكتاب المقدس اليهودي وكتابات اللاهوتيين المسيحيين. ولكي نكتشف أصولَ أجزائه العلمية، فإننا في حاجةٍ لأن نتَّجه شرقًا من نيوجيت ونعود بالزمن إلى بلاد الرافدين القديمة.
الأجرام السماوية
انظر إلى سماء الليل في ليلةٍ صافية وسترى حوالي ألفي نجم. وقد ترى القمر أيضًا وما يربو إلى خمسة كواكب ظاهرة. من السهل ملاحظة القمر. لكنْ أيٌّ من بين النجوم التي يبلغ عددها ألفين أو ما إلى ذلك، يُعدُّ كوكبًا؟
يبدو هذا الكون الذي تحرِّك نجومَه الآلهةُ غريبًا علينا اليوم، لكن في غياب أيِّ شكل من أشكال الفهم للجاذبية، كانت الآلهةُ تقوم بهذه المهمة في السماء. وكما سنكتشف، فإن العلم لا يتعلَّق بإيجاد أيِّ نوع من أنواع الحقائق المطلَقة، بل بوضع فرضيات أو نماذج نستخدمها في عمل تنبؤات مفيدة. كان نموذجُ السماء الذي تحرِّك نجومَه الآلهةُ لدى البابليين يعمل بكفاءة بالقدرِ الكافي بالنسبة إلى هدفه الأساسي، وهو تزويدهم بتقويم يستخدمه علماء الفلك والمنجِّمون لديهم للتنبؤ بأفضلِ الأوقات للزراعة أو الحصاد أو الزواج أو قيام الحروب.
الدوائر السماوية
سقطت بابل في قبضة الإمبراطورية الفارسية الأخمينية في عام ٥٣٩ قبل الميلاد، إلا أن علم الفلك فيها نجا وعبَر بحر إيجة وانتقل إلى يدِ علماء الفلك اليونانيِّين القدماء. وهناك، حلَّت المعبودات اليونانية مثل أفروديت أو آريز محلَّ مجموعةِ المعبودات البابلية. لكن اليونانيِّين الذين كانوا يتحلون بعقلياتٍ فلسفيةٍ أكثرَ مثل أنكسيمانس (٥٨٥–٥٢٨ قبل الميلاد) من مايليتس (وهي مدينة يونانية على شاطئ الأناضول) جعلوا الآلهة غير ضرورية — على الأقل في السماء — إذ استبدلوا بقوةِ دفعِها الخارقةِ سلسلةً متحدة المركز من الدوائر أو المجالات الميكانيكية التي تدفع بدورانها القمر والشمس والكواكب والنجوم حول الأرض وعبْر السماء. ولحل المشكلة الجلية التي تتمثَّل في أن أحدًا لا يستطيع رؤيةَ تلك الدوائر، تبنَّى أنكسيمانس المنهجَ الذي أربك العلمَ ما قبل الحديث: فابتكر كِيانًا ليسدَّ بها الفجوة التفسيرية. فاقترح أن الدوائر السماوية مصنوعةٌ من عنصرٍ سماوي شفاف تمامًا كالبلور يُعرف باسم الأثير، أو العنصر الخامس، أو الجوهر.
بالطبع لم يكن هناك أيُّ دليل لا على الدوائر السماوية ولا على الأثير؛ لكن في العالم القديم، كانا يُعَدان وسيلةً اقتصادية لتفسير الحركات السماوية حيث استُبدلتا بمجموعةٍ من الآلهة كِيانين اثنين فقط. لكنَّ هذا الوجودَ المفترَض ألهم المتصوفةَ والفلاسفة والمنجِّمين وعلماء الفلك لابتكار كياناتٍ إضافية عبْر القرون. زعم فيثاغورس (٥٧٠–٤٩٥ قبل الميلاد تقريبًا) — الذي وُلِد على جزيرة ساموس — أن دوران الدوائر أنتج موسيقى سماوية لا تسمعها سوى أذن فائقة الحساسية. وبعد ألف عام من أنكسيمانس، كان الخيميائيون يزعمون أنهم يستخرجون خلاصةً نقية من مركَّباتهم، في حين أن بعد ألفي عام من فيثاغورس، كان الملحِّنون لا يزالون يؤلِّفون «موسيقى الدوائر السماوية». قد تصبح الكيانات غيرَ ضرورية ولا حاجة لها، إلا أنها كثيرًا ما تكون باقيةَ الأثر بصورة بارزة.
لكن وعلى الرغم من أن الدوائر الشفافة كانت تعمل بصورةٍ جيدة مع الشمس أو القمر أو النجوم الثابتة التي تتحرَّك في مساراتٍ دائرية كاملة عبْر السماء كلَّ يوم، فإن استخدامها لتفسير حركة الكواكب السيَّارة كان مستحيلًا. فمساراتها لم تكن غيرَ دائرية فحسب، بل كانت، إضافةً إلى التحرُّك من الشرق إلى الغرب مع النجوم الثابتة، تغيِّر مسارها باستمرار فيما نطلق عليه اليوم الحركةَ الرجعية، كي تتحرَّك من جهة الغرب إلى جهة الشرق. ولم يكن هذا يمثِّل مشكلةً للكواكب البابلية القديمة التي تحرِّكها الآلهةُ المتقلِّبة الهوى، لكن كيف يمكن أن تجعل من شيء يقبَع على سطح كرة دوَّارة أن يتحرَّك؟
ظنَّ أعظم فلاسفة العالم القديم أنه يعرف الإجابة. وُلِد أفلاطون حوالي عام ٤٢٨ قبل الميلاد لأسرة أثينية ثرية. وأصبح تلميذَ سقراط وأسَّس أولَ مدرسة للفلسفة في العالم وهي الأكاديمية الشهيرة في أثينا، وذلك بعد إعدام الفيلسوف الكبير. وفي تلك المدرسةِ ألقى محاضراتٍ عن الفلسفة وكتبَ عنها مطوَّلًا وعن الفنون والسياسة والأخلاق والعلوم، وخاصة الرياضياتِ والفلكَ عند فيثاغورس. وكانت أكثرُ أفكاره تأثيرًا — وهي التي أثَّرت فيما بعدُ بشكلٍ عميق في مسار الثقافة الغربية — هي مفهومه عن المُثل والتقليد الفلسفي المرافق لها والمعروف بالواقعية الفلسفية.
تشمل واقعيةُ أفلاطون جميعَ جوانب الخبرة، لكن يمكن فهمُها بسهولةٍ أكبر عن طريق النظر إلى طبيعة الأشياء الرياضية والهندسية مثل الدوائر. طرح أفلاطون السؤالَ التالي: ما هي الدائرة؟ قد تشير إلى نموذجٍ بعينه محفورٍ على الحجر أو مرسومٍ على الرمل، لكن أفلاطون أشار إلى أنك إذا ما أمعنت النظر بما يكفي، فسترى أنه ليس بشيء مثالي، لا هو ولا أي دائرة مادية أخرى. إذ تشتمل جميعُها على التِواءاتٍ أو مكامنِ خلل، وجميعها خاضعة للتغيير والاضمحلال بمرور الوقت. إذن كيف لنا أن نتحدَّث عن الدوائر وهي غير موجودة في الواقع؟
ولا تنحصر المشكلة في الأشياء الهندسية، لكنها موجودةٌ في كل كلمةٍ نعيِّنها لفئةٍ من الأشياء أو المفاهيم، كالصخور والرمل والقطط والسَّمك والحُب والعدالة والقانون والنُّبلاء وما إلى ذلك. وتختلف النماذج أو الصور بعضها عن بعض، ولا يتوافق أيٌّ منها مع القطة أو الصخرة أو السمكة المثالية؛ إلا أننا لا نجد صعوبةً في التعرُّف عليها والتحدُّث عنها. إذن إلى ماذا نقارنها من أجل أن نقرَّ بأنها دوائرُ أو صخورٌ أو سمك أو قطط؟
عمل نموذج إيودوكسوس جيدًا بما يكفي، لكنه كان بحاجةٍ لسبع وعشرين دائرة. وأضاف تلميذُ أفلاطون ذو العقل الميكانيكي، أرسطو، المزيدَ من الدوائر لتقوم بعمل محمل كريات حديث لتمنع نقْل الحركة من إحدى الدوائر إلى الدوائر المجاورة. فقفز عدد الدوائر السماوية إلى ستٍّ وخمسين. لكن ظلت هناك مشكلة. لم يستوعب أيُّ عدد من الدوائر الدوَّارة الجامدة سِمةً أخرى من حركة الكواكب — وهي أن الكواكب تلمع وتخبو بانتظام. ولكي تحافظ الكواكب على هذا الانتظام، فإن عليها أن تتحرَّك قريبًا من الأرض (حتى تلمع) ثم بعيدًا عنها (حتى تخبو). فكيف يمكن للكواكب أن تنفِّذ هذه المناورةَ على سطح دائرة جامدة؟
وحتى مع كل هذا التعقيد، لم يسَعْ نموذجُ بطليموس تفسير حركة الكواكب بالكامل. ولكي يحلَّ هذه المشكلة، قدَّم اثنين من التعقيدات الإضافية. أولًا، حرَّك الأرض (وهي كهف أفلاطون في الشكل) من مركز دوران الدائرة الدقيق إلى نقطةٍ تقع خارج المركز مباشرة، وسُمِّيت «النقطة اللامركزية». كما أسقط بهدوءٍ مبدأ الحركة الموحَّدة الأفلاطوني عن طريق السماح لكل كوكب بأن يبدو أنه يدور بسرعةٍ موحَّدة من نقطة خيالية في الفضاء تسمَّى «نقطة معدَّل المسار».
وصف بطليموس نموذجَه النهائي للكون في عمله «المِجَسْطي» الذي كتبه حوالي عام ١٥٠ ميلاديًّا. كان النموذج في غاية التعقيد، ويشتمل على ما يقارب ثمانين دائرةً وفَلك تدويرٍ ونقاطًا لا مركزيةً ونقاطَ معدَّلِ مسار. كما كان النموذج غيرَ مادي بصورة عميقة؛ حيث كان يشتمل على الكواكب وهي تدور — على عجلاتها الدوَّارة السماوية — عبْر الدوائر التي من المفترض أنها شفافةٌ جامدة. كما كان النموذج أيضًا مركزيَّ الأرض، حيث الأرض — وليست الشمس — هي مرْكزه. إلا أن التنبؤات الفلكية التي تُنبِّئ بها باستخدام نموذج الكون المذكور في «المِجَسْطي» كانت دقيقة إلى حدٍّ بعيد، حيث فسَّرت الكثيرَ من الحركات المرصودة في السماء وكذلك تواريخ الأحداث مثل حالات الخسوف، إلى الدرجة التي أصبحت فيها كلمةُ هذا النموذج هي العليا في الفلك لما يربو على ألف عام. وقد دُرس النموذج على نطاقٍ واسع في العالم العربي وأتت معظمُ أفكار يوهان دي ساكروبوسكو الفلكية — في كتاب «كرة العالم» — الذي درسه ويليام الأوكامي على الأرجح في أكسفورد من الترجمات العربية لعمل «المِجَسْطي».
فكيف يمكن لنموذجٍ خاطئ بهذا الشكل أن يتنبأ بكل هذه الأشياء الصحيحة؟ هذا في واقع الأمر سؤالٌ في غاية العمق يمثِّل تحديًا للمفهوم الشائع عن أن مهمة العلم هي النظر لما هو أبعد من محدودية حواسنا وعقولنا غير الموجَّهة لاكتشاف ما يبدو عليه العالَم حقًّا. فإن كانت النماذج العلمية — مثل نموذج بطليموس — المبنيةُ على الكثير من الافتراضات الخاطئة لا تزال تأتي بتنبؤات دقيقة، إذن كيف يمكن لنا أن نحكُم بصواب أو خطأ نظرية أو فرضية بعينها؟ فربما تكون النماذج العلمية لهذا العصر والتي تقدِّم بالمِثل تفسيراتٍ لمعظم البيانات التي نحصل عليها اليوم خاطئة كما هو حال نموذج بطليموس؟ كيف لنا إذن أن نكتشف الحقيقة؟
كما قد تخمِّن، تشتمل الإجابة على هذه المعضلة على شفرة أوكام، لكن تبنِّيه سيستلزم التخلي عمَّا قد يُطلق عليه النظرة الساذجة للعلم كسعي نحو الحقيقة لصالحِ قبولٍ دقيقٍ أكثرَ وربما كان مزعجًا بأن «الحقيقة» ستظل دائمًا بعيدة عن متناولنا. لكن، وعلى الرغم من هذا الأمر، وباستخدام شفرة أوكام، يمكن للعلم مساعدتنا — وهو ما يحدث بالفعل — في فهْم عالمنا بحيث يتسنَّى لنا إرسال صواريخ إلى كواكبَ نائية أو تحرير مليارات الأشخاص من نير الأوبئة أو المجاعات. قد لا يعرف العلم إلى أين هو متَّجه، لكن الرحلة مذهلة.
سقوط السماء
هوامش
-
(١)
اكتُشفت هذه القصةُ قبل بضعة قرون في أرشيف الفاتيكان على يدِ جورج كنيش، الذي تكرَّم بتقديم «ترجمة أولية» للنص اللاتيني. ومُيِّزت الاقتباساتُ التي أُخِذت مباشرةً من ترجمته بوضعها بين علامات تنصيص.
-
(٢)
الراهب هو عضو في إحدى الرهبنات التي تعيش على الصدقات التي تأسَّست في معظمها في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، والتي تتضمَّن الكرمليين والفرنسيسكان والدومينيكان والأوغسطينوسيين. يرتدي الفرنسيسكان المحدثون ملابسَ باللون البني، لكن يُعتقد أن مصطلح الرهبان ذوي الرداء الرمادي مشتقٌّ من عادتهم القديمة (التي اتبعها ويليام وزملاؤه على الأرجح)، والخاصة بارتداء رداءٍ منسوج من صوفٍ غير مصبوغ استحال رماديًّا من كثرة ارتدائه. وكان الرهبان يتميزون عن النُّساك، في بداية الأمر على الأقل، وذلك من خلال تبنيهم أسلوبَ حياةِ ناسكٍ متجوِّل، لكن بحلول القرن الرابع عشر الميلادي كانوا يعيشون في غالب الأحيان في الأديرة.
-
(٣)
في العقيدة الكاثوليكية، المَطْهَر هو المكان الذي ينبغي أن يُكفِّر فيه المذنبون الذين تمكنوا من تفادي دخول الجحيم عن خطاياهم، وذلك بالمرور بفترة من العذاب قبل أن يتسنَّى لهم الصعود إلى الفردوس.
-
(٤)
لم تفرِّق الغالبية العُظمى من القدماء بين الكواكب الخمسة المرئية التي نعرفها اليوم والشمس والقمر؛ إذ كانت جميعها بالنسبة إليهم «كواكب».
-
(٥)
يجب عدم الخلط بين هذا وبين الواقعية بمعنى المعقول والعملي.
-
(٦)
وُلِد أبولونيوس في واقع الأمر في الأناضول.