التوجُّه الحيوي للحياة
النظرية [نظرية الانتقاء الطبيعي] نفسها بسيطة بشكلٍ يفوق الوصف، والحقائقُ التي ترتكز عليها — رغم كونها عديدة بشكلٍ مفرِط على الصعيد الفردي، ومتوازية في النطاق مع العالم العضوي بأكمله — فإنها تندرج تحت فئاتٍ قليلة بسيطة وسهلة الفهم.
تقضي الضرورة في الطبيعة أن تكون أعضاء بعض الحيوانات معدَّة بشكلٍ ملائم لما يحقِّق عافيةَ أجسادها بالكامل. على سبيل المثال، تكون الأسنان الأمامية حادةً وملائمة لقطع الطعام وتكون الضروس مسطَّحة وملائمة لمضغه … بالتالي، لا توجد هذه الأعضاء من أجل هذه الاستخدامات. بل بالأحرى تنجو هذه الحيوانات حين تكون هذه الأعضاء موجودة. والسبب هو … أن هذه الأعضاء تُصبح ملائمة لبقاء الحيوان بالصدفة.
أُثير كامل انتباهي للمرة الأولى، عند مقارنة … طيور السمنة المحاكي، حين اكتشفت، وهو ما أدهشني، أن كل جميع الطيور القادمة من جزيرة تشارلز تنتمي إلى نوع واحد (فلوريانا المحاكي)؛ وكل الطيور من جزيرة ألبيامارل تنتمي إلى نوع جالاباجوس المحاكي؛ وكل الطيور من جزيرتَي جيمس وتشاثام … تنتمي إلى نوع سان كريستوبال المحاكي.
فلماذا كانت الجُزر القريبة تملك أنواعها المميزة الخاصة بها؟
بالطبع، كانت الإجابة جاهزةً لدى أتباع نظرية الخلق: وهي أن الإله اختار خلْق العالم بهذا الشكل. لكن بحلول القرن التاسع عشر، كان عدم الرضا لدى الكثير من علماء الأحياء يزداد من التفسيرات التي تحتجُّ بالذات الإلهية. وقبل ما يقرب من قرنين من الزمان، كان نيوتن قد دفع بأن «كصانع الساعات، اضطُر الرب إلى التدخُّل في الكون والعبث بآليته من وقتٍ لآخر ليحرص على أنه يعمل على نحوٍ ملائم». مع ذلك، أليس العبث بكل طائر سمنة أو حسُّون يقطن كلَّ جزيرة صغيرة في أرخبيل هو بالتأكيد عمل ينم عن الهوس؟
كان تشارلز داروين يتأمَّل في لغز أصل الأنواع منذ عودته من رحلته على متن السفينة «بيجل». حتى إنه خطَّ مسوَّدة لنظريته قبلها بست عشرة سنة. لكن داروين لم ينشر أيًّا من أفكاره؛ حيث شعر بأنه في حاجة أولًا إلى الحصول على المزيد من الأدلة. مِن ثَمَّ، وفي العقدين التاليَين لذلك، شغَل نفسه بدراسة الدود أو مخلوقات الشاطئ كالبرنقيل، أو فحص العينات التي حصل عليها من شبكته الواسعة من علماء الطبيعة الميدانيِّين. «جامعو العينات الطبيعية» هؤلاء كما كانت تشيع تسميتُهم طافوا بالغابات والأدغال والمستنقعات والسهول العشبية والصحارى في العالم ليبحثوا عن أغرب الحيوانات والنباتات وأندرها ويحفظوها، ثم يعبِّئوها ويبيعوها إلى المتاحف وعلماء الطبيعة الأثرياء.
والخطاب الذي وصل إلى عتبة منزل داروين في عام ١٨٥٨ كان مختلفًا عن سابقه في أنه كان يحتوي على مسوَّدة مخطوطة. حين شرع داروين في قراءتها كان كأنما ضربته صاعقة. بدأت المسوَّدة بذكر «مقال حول مبدأ السكان» لمالتوس، والذي ظهر في عام ١٧٩٨، وأشار إلى أن أعداد النسل تفوق بصورة نمطيَّة المواردَ المتاحة. وأكمل والاس مسوَّدته يدفع بأن «حياة الحيوانات البريَّة تمثِّل نضالًا من أجل الوجود» بحيث إن قلة قليلة فقط ممن يولدون هم مَن يتمكَّنون من النجاة للتكاثر. وأكمل يحاجج أن «مَن يموتون هم الأضعف من دون شك … في حين أن مَن يطول بقاؤهم لا يمكن إلا أن يكونوا هم الأفضل من حيث الصحة والقوة». وتطرَّق والاس إلى كيف أن مربِّي الحيوانات الأليفة قد أنفذوا نوعًا من أنواع الانتقاء الاصطناعي للصفات المرغوب فيها كسهولة الانقياد أو كثرة اللحم، فحوَّلوا الذئاب إلى كلابٍ أليفة أو الخنازير البرية إلى خنازيرَ أليفة. في نهاية المسوَّدة، دفع والاس بأن «النضال من أجل الوجود» يعمل بالمثل في التباين الطبيعي للأنواع البريَّة بحيث «ينبغي دائمًا على الضعيف والأقل تنظيمًا أن يفنى». كما حاجج بأن حدوثَ هذه العملية على مدى وقت طويل أدَّى إلى تغيُّر تطوري ونشوء أنواع جديدة يتكيف كلٌّ منها مع بيئته المحيطة.
كان والاس قد حلَّ هكذا لغزَ أصل الأنواع. واختتم خطابه يطلب من داروين أن يمرِّر ورقته البحثية إلى أبرز الجيولوجيِّين في إنجلترا وصديقِ داروين المقرَّب تشارلز لايل، وذلك إن وجد فيها أيَّ فائدة.
لقد تحقَّقت كلماتك إلى حد كبير بأنني سوف أُسبَق … لم أرَ من قبلُ قط مصادفة أكثر إدهاشًا. لو كان والاس قد حصل على مسوَّدة مخطوطتي التي كتبتها عام ١٨٤٢، لما أمكن له أن يخرج بملخَّصٍ أفضل من هذا! حتى مصطلحاته تُعَد الآن عناوين لفصولي … لذا فإن أصالة عملي كلها، أيًّا كان قدره، ستتحطَّم.
وأكمل داروين يقول: «آمُل أن تستحسن ملخَّص والاس، حتى أخبره بما ستقوله». كما وعد بأن يكتب إلى والاس وأن يمرِّر ورقته البحثية إلى مجلة علمية.
الفراشات والخنافس
وُلِد ألفريد راسل والاس عام ١٨٢٣، وكان لديه تسعة إخوة. انحدرت أمه، ماري آن، من أسرةٍ ميسورة الحال في هارتفورد. لكن وطبقًا لما ورد عن راسل، فإن والده «عاش من دون عمل لفترة» قبل أن يقدِم على سلسلة من مشاريع الأعمال الوبيلة التي ضيَّعت معظمَ ثروة الأسرة. وبحلول العام ١٨١٦، كانت الأسرة منحدرةَ الحال مجبرة على الانتقال من بيتهم الكبير في لندن إلى مسكنٍ متواضع أكثرَ في مونمثشاير على الحدود الويلزية؛ حيث وُلِد ألفريد.
وحين بلغ ألفريد الخامسة، تحسَّنت ظروف العائلة بعد أن ورثوا قريبًا لهم على نحوٍ مكَّن الأسرة من أن تنتقل إلى هارتفورد وهي البلدة الأم للأم. إلا أن أحد المشاريع الوبيلة الأخرى تسبَّبت في تداعي ثروة الأسرة مرةً ثانية، فتحتَّم على أسرة والاس أن تحاول الاستفادة من موردها المتنامي الوحيد وهو أطفالها. فبمجرَّد أن بلغ كل واحد من إخوة ألفريد الكبار سنَّ الرشد، اشتغل صبيًّا لدى مسَّاح، ثم لدى نجار ثم لدى صانع حقائب كبيرة. وقد أُجبرت الأسرة على الانتقال عبْر سلسلة من المنازل الأصغر حتى انتقلوا في النهايةِ إلى منزلٍ أصغر من أن يستوعب الأطفال جميعهم. وبدافع من اليأس، أُرسِل ألفريد ليتلقى تعليمَه في مدرسة خاصة كان يعلِّم فيها التلاميذَ الأصغر ليدفع مقابل مصاريف تعليمه.
لكن حين بلغ ألفريد الرابعة عشرة، فرض تدهورُ أوضاع الأسرة المادية إيقافَ تعليمه الرسمي. فأُرسِل ليسكن رفقة أخيه الأكبر جون، الذي كان حينها يعمل مساعدًا في شركة للبناء في لندن، وقد عمِل فيها ألفريد صبيًّا يقوم بأعمالٍ صغيرة مختلفة، وكان يربح لقاء ذلك ستة بنسات في اليوم. لحسن الحظِّ قدَّمت لندن لألفريد الكثيرَ من الفرص المجانية التي مكَّنته من قطع شوط أكبرَ في تعلميه الذاتي. لقد زار المكتبةَ البريطانية، وحدائق الحيوان، بالإضافة إلى قاعة العلوم (التي هي الآن كلية بيركبيك) التي على طريق توتنهام كورت، والتي هي واحدة من بين سبعمائة معهد أُسِّست على يد محسنين أثرياء لنشر العلم بين أوساط العاملين من الناس. هناك سمِع ألفريد لأول مرة بالاشتراكي الويلزي والشريك المؤسِّس للحركة التعاونية ريتشارد أوين، ثم التقى به بعد ذلك، وقد لعِبت الاشتراكية المثالية لدى أوين وشكُّه تجاه الأديان القائمة دورًا كبيرًا في تشكيل أفكار ألفريد. إذ كتب لاحقًا يقول: «الدين النافع الوحيد هو الذي يدعو لخدمة الإنسانية، والذي عقيدته الوحيدة هي المؤاخاة بين البشر».
في العام ١٨٣٧، بدأ ألفريد تدريبًا كمسَّاحٍ، وأمضى السنوات الست التالية يسافر في أنحاء البلاد، وكان عادةً ما يتعرض للشكاوى المتعلِّقة بقانون التسييج العام. أدَّى ذلك القانون إلى إفقار الكثير من الفلاحين والمزارعين، وذلك من خلال تسييج الأراضي المشاع التي كانت فيما مضى مملوكةً لهم وتُستخدم في الرعي. واعتبر ألفريد أن في هذا «سرقة مقنَّنة للفقراء». لكن عمله كان يشتمل على التجوُّل كثيرًا في الريف؛ الأمر الذي ساعد في تأجيج اهتمام ألفريد الطويل بعلوم الحيوان والطيور وعلم النباتات وعلم الحشرات، بخاصة الخنافس.
حين توفِّي والده عام ١٨٤٣، اضطُر ألفريد ابن العشرين ربيعًا أن يتخلى عن تدريبه كمسَّاح ليضطلع بأي عمل خاص بالبناء يجده. وبعد أن أمضى شهورًا طويلة عاملًا مؤقَّتًا، وجد في نهاية المطاف وظيفةً تناسب اهتماماته أكثرَ وهي مدرِّس في مدينة ليستر. في وقت فراغه كان يزور المكتبة المحليَّة للمدينة؛ حيث قرأ كتاب «سرد شخصي» لألكسندر فون هومبولت، وكتاب تشارلز داروين «رحلة البيجل» وعمل «مقال حول مبدأ السكان» لتوماس مالتوس. كما التقى هناك بصديق حياته هنري والتر بيتس (١٨٢٥–١٨٩٢) وهو شاب علَّم نفسه بنفسه، والذي اكتسب أيضًا اهتمامًا بالخنافس. كان ألفريد وهنري يقومان برحلاتٍ قصيرة منتظمة إلى ريف ليسترشاير ثم يعودان بشِباك صيد مليئة بالخنافس والفراشات وحشرات أخرى. بعدها كان الرجلان يضعان بحرص كلَّ عيِّنة على لوح خشبي مثبَّت إلى الحائط بداخل سقيفة حديقة بيتس. وكان التحدي التالي لهما هو تمييز كل عينة باسم نوعها. وكان الرجلان يلاحظان على وجه الدقة الصفاتِ المميزة لكل عينة كلون الأجنحة والعلامات والحجم، والأهم أنهما تعلَّما كيف يفرِّقان بين التباين الطبيعي لهذه الصفات في النوع الواحد والتباينِ الذي يفصل الأنواع بعضها عن بعض. كانت هذه الممارسةُ هي ما ألهبت حماسةَ ألفريد تجاه السؤال البارز في علم الأحياء في القرن التاسع عشر وهو: كيف تنشأ الأنواع؟
العصيُّ والأحجار وأصل الأنواع
كان معظم الفيكتوريين الذين فكَّروا في هذا السؤال يظنون أن كلَّ الأنواع على الأرض خُلِقت في أسبوع واحد قبل نحو ستة آلاف عام. لذا طبقًا للشخص الفيكتوري العادي، لم يكن التنوُّع في النباتات والحيوانات يمثِّل لغزًا. فكمثل حركة الأجرام السماوية في زمن ويليام الأوكامي، كان العالَم الطبيعي يُفسَّر بوجود ربٍّ خلق الماشية والوحوش والزواحف «كلًّا حسب نوعها» من أجل أن «يتسلط» الإنسانُ عليها. فالربُّ في نهاية المطاف هو الكينونة الوحيدة القوية بما يكفي لتملأ العالَم بمثل هذا العدد والتنوُّع الهائلين من النباتات والحيوانات والزواحف.
الحاجة إلى أصلٍ للأنواع ينزِع نحو التفسيرات الخلقية سدَّتها بصورة شهيرة حجَّة صانع الساعات الخاصة برجل الدِّين وعالِم الطبيعة والفيلسوف الإنجليزي ويليام بيلي (١٧٤٣–١٨٠٥). دفع بيلي بأن القوانين الميكانيكية التي قدَّمها نيوتن أو جاليليو أو بويل أو فاراداي لم تكن قادرة على تفسير مستوى التعقيد المنظَّم للعين البشرية على سبيل المثال. ولكي يوضِّح وجهةَ نظره أكثر، تخيَّل بيلي أنه وبينما كان يسير على مرجٍ عثر بالمصادفة على «ساعة على الأرض، وينبغي أن نسأل كيف وصلت الساعة إلى ذلك المكان». وأكمل يشدِّد على أنه «في وقتٍ ما وفي مكانٍ ما، لا بد أن كان ثمَّة صانع أو صنَّاع هم مَن أنتجوها للغرض الذي نجد أنها تلبيه …». استلهمت حجَّة «التصميم الرشيد» الخاصةُ ببيلي ما يُعرَّف في بعض الأحيان ﺑ «إله الفجوات»، وهو تفسير ديني لظاهرةٍ لا يمكن تفسيرها من خلال القوانين الطبيعية المعروفة.
تبنَّى بعضُ العلماء وجهةَ نظر جذرية أكثرَ تجاه ذلك. في كتابه المنشور عام ١٦٦٥ بعنوان «الفحص المجهري»، وصفَ روبرت هوك البنيةَ المجهرية ليس فقط للعينات الحية، بل أيضًا لبعض الأحجار المصوَّرة وذُهِل حين اكتشف أنها ليست شبيهةً فحسب بالعينات الحية وأن وجهَ الشبه هذا واضح للعين المجرَّدة، بل إنها أيضًا تشبه تلك العينات تحت عدسة مجهره. فاقترح أن تلك الأحجار كانت تماثل تمامًا ما تشبهه، وهي الآثار المتحجِّرة لحيوانات ونباتات. ورغم أن أفكاره لاقت قدرًا كبيرًا من التشكيك في بادئ الأمر، فإنها اكتسبت زخمًا بمرور الوقت، خاصة أن الكثير من العينات أظهرت علاماتٍ واضحة على كونها سُحِقت وتقطعت في حالةٍ لم يبدُ أنها متسقة مع وجودهم بفعل ربٍّ حريص على إبهار البشر بقدرته المطْلقة.
وإلى جانب السجالات حول طبيعة الحفريات كانت هناك شكوكٌ حول تلك الركيزة الأساسية الأخرى لنظرية الخلق، وهي ثبات الأنواع. كان الأرستقراطي وعالِم التشريح الفرنسي وكونت بوفون جورج-لوي لوكلير (١٧٠٧–١٧٨٨) قد لاحظ أجزاءً أثارية في بعض الحيوانات، كعظام أصابع جانبية عديمة الفائدة في أقدام الخنزير. فسأل بوفون: لمَ وضع الربُّ في الحيوانات أعضاءً عديمةَ الفائدة؟ ظنَّ بوفون أن من المرجَّح أن الحيوانات ذوات الأطراف الأثارية انحدرت من أنواعٍ قريبة لها هي الآن منقرضة كانت الأعضاء البائدة فيها فيما سبق ذات فائدة.
كان بوفون يشغل منصبَ مدير حديقة جاردن دو روا في باريس، وهناك عيَّن هو عالِم الطبيعة الفرنسي جان-باتيست لامارك (١٧٤٤–١٨٢٩) وكان معلِّمًا له، وقد نشر لامارك في عام ١٨٠٩ — أي قبل خمسين عامًا من وصول خطاب والاس إلى منزل داون — كتابًا بعنوان «فلسفة علم الحيوان»، والذي دفع فيه بأن كل الأنواع تتطوَّر من خلال وراثتها للصفات المكتسبة. وكان مثاله الشهير على ذلك حيوان الظبي الذي كان يمدُّ عنقه ليصل إلى أعلى الأوراق على الشجر ثم مرَّر هو تلك السمةَ المكتسَبة إلى نسله، الذين مرَّروا مجهوداتهم الإضافية المبذولة لتناول تلك الأوراق الشجرية الصعبة المنال لنسلهم بدورهم، مما أدَّى إلى ظهور الزرافة في نهاية المطاف.
مِن ثَمَّ كانت مسألة أصل الأنواع هذه موضوعًا مثيرًا، حتى في المياه العلمية الراكدة نسبيًّا لدى والاس في ليسترشاير. لذا في أربعينيات القرن التاسع عشر حين كان ألفريد وهنري يأخذان قسطًا من الراحة من تثبيت عينات الخنافس على ألواح العينات، كانا غالبًا ما يناقشان نتائجَ وأفكار بوفون أو لامارك أو هومبولت، أو لايل أو داروين. ونما فيما بينهما عزمٌ وتصميم على أنهما سيبحثان معًا عن حلٍّ لمشكلة أصل الأنواع.
رحلة إلى منطقة الأمازون
في عام ١٨٤٥، تعيَّن على ألفريد أن يوقف طموحَه مؤقتًا بعد أن تلقَّى أخبارًا تقول إن أخاه الأكبر ويليام مات بالالتهاب الرئوي. والآن وبعد أن توفِّي خمسة من إخوته، كان ألفريد مضطرًّا إلى الاضطلاع بدورِ كبيرِ الأسرة ومعيلها الأول. فاستقال من عمله التدريسي ليضطلع مرةً أخرى بعمل مربح أكثرَ كمسَّاح.
وقد التقى الرجلان في لندن ليتدبَّرا أمرَ التحضيرات. لكن على عكس هومبولت، لم يتمكَّنا من تمويل بعثتهما الاستكشافية؛ ولم يكن لهما كذلك مثل داروين أو هالي معارفُ مؤثِّرون يمكنهم الحصولُ لهما على رحلة مجانية على متن سفينة من الأسطول الملكي. لذا وعوضًا عن ذلك، زارا المتحف البريطاني والتقيا بالقيِّم على الفراشات واسمه إدوارد دابلداي، الذي نصحهما بأن شمال البرازيل المستكشَف بشكلٍ ضئيل يُرجَّح أن يقدِّم عينات نادرة وقيِّمة. وذهبا إلى حدائق كيو فالتقيا هناك بمديرها السير جوزيف دالتون هوكر، والذي حصلا منه على خطاباتِ تقديم وقائمة طلبات بنخيل نادر. حتى إنهما وجدا وكيلًا وهو صامويل ستيفنز وهو رفيقهما في هواية وعشق التاريخ الطبيعي، والذي كان قد أسَّس حديثًا وكالةَ التاريخ الطبيعي. في نهاية المطاف، وحَّد الرجلان مصادرهما المالية ليشتريا مكانين في مركب الرحلات الكبير الذي يحمل اسم «ميستشيف»، ثم انطلقا إلى أمريكا الجنوبية متَّبعين خطى بطلهما ألكسندر فون هومبولت.
لم ينسَ ألفريد قط أولَ ما رأى من المناطق الاستوائية فيما كانا يبحران إلى ساليناس بالبرازيل والتي كانت محطَّة إرشاد ملاحي للسفن المتجهة نحو بارا، التي تمثِّل ميناءَ الدخول إلى حوض الأمازون. إذ وصفها فقال: «خط طويل من الغابات، يبرز على ما يبدو من الماء». نزل الرجلان عن متن المركب يوم ٢٦ مايو لعام ١٨٤٨ في مدينةٍ كان أهلها «من كل لون … منهم الأبيض والأصفر والبني والزنجي الأسود، والهندي والبرازيلي والأوروبي ومن كل مزيج وسيط بين كل ذلك». أفطر الرجلان على لحمِ قردٍ مقليٍّ وسارا مبتعدَين عن المدينة نحو الغابة؛ حيث «تدلَّت النباتات الخشبية النحيلة المتسلِّقة في أكاليل من الفروع، أو كانت معلَّقة تتخذ شكلَ حبال وشرائط، فيما اجتاحت النباتات الزاحفة وافرة النماء فوق رءوسنا مثل الأشجار وجذوعها والأسقف والجدران، أو اعتلت السياجات وسط وفرة وغزارة من الأوراق». ثم هُرع الرجلان ليشرعا في سلسلةٍ من الرحلات الاستكشافية أعلى النهر نحو منحدرات جواريباس النهرية وإلى أبعد من ذلك في داخل الغابة، حيث لقيا تماسيح وخفافيش ماصة للدماء، ويعاسيب وطائفة من الحشرات القارصة، ما أجبرهما على تغطية رأسيهما بشباكٍ تتدلى من قبعتيهما عريضة الحواف. ولدى أولى استكشافاتهما في الغابة، تمكَّنا من صيد وجمع ٣٦٣٥ عينة من الحشرات والطيور والنباتات، معظمها جديد على العلم، فحفظا تلك العيِّنات وغلَّفاها وأرسلاها بحرًا إلى ستيفنز في إنجلترا.
وبعد مُضي تسعة أشهر على عملهما معًا، قرَّر ألفريد وهنري أنهما سيكونان أغزرَ إنتاجًا إن هما انفصلا، بحيث يضطلع ألفريد برافد نهر الأمازون ريو نيجرو وحتى أبعد نقطة جنوبًا في رحلات هومبولت في فنزويلا، فيما يستكشف هنري نهر سوليميس. واصل ألفريد جمْعَ العينات إضافةً إلى تطبيقِ ما تلقَّاه من تدريب كمسَّاح في رسم خريطة لمنطقة حوض نهر الأمازون هذه والتي لم يُستكشف جزء كبير منها. وأثناء إبحاره إلى أعلى النهر في زورق كانو، التقى ألفريد بأبناء قبائل أمازونية قصُّوا عليه حكاياتِ الغابات عن حيوانات اليغور والبوماء والخنازير البرية الشرسة، ورجال البراري ذوي الذيول ومخلوق «الكوروبوري» المفزع الذي يُعرف عنه أنه شيطان الغابات. وقد غرس لقاؤه مع السكان المحليِّين في نفسه إعجابًا عميقًا لازمه طوال حياته واحترامًا للثقافات والتقاليد الخاصة بالسكان الأصليِّين. واكتسب أيضًا ما وصفه بأنه «سخطٌ جيَّاش تجاه الحياة المتحضِّرة».
كتب ألفريد إلى أسرته عام ١٨٤٩ يقترح أن ينضم إليه أخوه الأصغر هيربرت. وصل هيربرت مع مستكشف شاب آخر، وهو عالِم النباتات ريتشارد سبروس، فأمضى ثلاثتهم العامين التاليَين يجمعان العينات وسط تنوُّع نباتات وحيوانات منطقة الأمازون. لكن ما يبعث على الأسى أن هيربرت مات مصابًا بالحمى الصفراء في بارا عام ١٨٥١، كما عانى ألفريد سلسلةً من نوبات الحمى أو القشعريرة، على الأرجح أنها كانت الملاريا. وقد تعافى إلا أنه شعر أنه مستنزَف ومكتئب. ورغم أن هنري بيتس ظلَّ في الأمازون طيلةَ ست سنوات أخرى، فإن ألفريد قرَّر أن الوقت قد حان ليعود إلى إنجلترا.
عاد ألفريد إلى بارا في شهر يوليو لعام ١٨٥٢ وحزم آخرَ عيناتٍ جمعها في صناديقَ حُمِّلت، إلى جانب مجموعة متنوِّعة من الحيوانات الحية المتمثلة في بعض الطيور والقردة وأحد الكلاب البريَّة، على متن سفينة شراعية كبيرة تحمل اسم «هيلين» متجهًا صوب إنجلترا. وبعد مرور يومين عليهم في البحر، هُرع القبطان إلى مقصورة ألفريد وقال له: «أخشى أن السفينة تشتعل. فتعالَ وانظر ماذا ترى». ولم يتمكَّن ألفريد من إنقاذ شيء غير دفتر ملاحظاته وبضعة رسومات بالقلم الرصاص لأسماك الأمازون قبل أن يُضطر هو وبقية الطاقم إلى هجر السفينة واللجوء إلى مراكبَ صغيرة. ومن موضعه في المركب الصغير أخذ ألفريد يشاهد في ذعرٍ بينما تستسلم عيناته التي جمعها إلى النار وحيواناته المذعورة والنباتات وهي بين هالكٍ في النار أو غارق مع السفينة. ولم يتمكَّن سوى ببغاء واحد من إنقاذ نفسه، وذلك بأن قفز في البحر حيث التقطه أحدُ البحَّارة على متن أحد قوارب النجاة.
بعد أن أمضى ألفريد عشرة أيام يهيم على غير هدًى في البحر، أُصيب وجهه ويداه بالتقرُّح من الشمس، وكان الطعام والشراب في القوارب قد بدأ ينفد بصورةٍ خَطِرة (ولا نعرف ما حلَّ بالببغاء). لكن لحسن حظِّهم، رآهم طاقم سفينة شراعية بصاريين تبحر متثاقلة، كان اسمها «جوردسون»، وكانت تتقدَّم ببطء في طريقها إلى إنجلترا. لم يكن بمقدور السفينة القديمة الإبحارُ بسرعة تتجاوز العقدتين أو الثلاث في المتوسط، لكنهم نزلوا من فوق متنها في مدينة ديل بمقاطعة كنت بعد ثمانين يومًا طويلة أخرى، حيث تناول ألفريد العشاءَ مبتهِجًا مع قبطانَي كلتا السفينتين. وكان حتى أكثر ابتهاجًا حين عرف أن ستيفنز كان قد أمَّن على شحنته بمبلغ ٢٠٠ جنيه إسترليني. كما رتَّب وكيله الجدير بالثقة لنشر عدة خطابات من التي بعثَ بها ألفريد يصف فيها ملاحظاته، كما عرض وباع الكثير من العينات التي أرسلها إلى إنجلترا في شحنات سابقة. وهكذا حين حلَّ ألفريد على لندن، وجد — لبهجته ودهشته — أنه انتقل من كونه مغمورًا إلى كونه جامعَ عينات طبيعية معروفًا إلى حدٍّ ما وعالِم طبيعة يحظى بالتقدير.
وبوجود مبلغ ٢٠٠ جنيه إسترليني في جَعبته، لم يضيِّع ألفريد وقتًا في وضع خطط لينطلق في رحلة استكشافية أخرى. وقد اختار هذه المرة أن يتَّجه شرقًا. وفي مارس لعام ١٨٥٤، انطلق ألفريد صوب أرخبيل الملايو فوصل إلى سنغافورة في شهر أبريل، قبل أربع سنوات من إرساله خطابه الشهير إلى داروين.
تحديد تاريخ الحياة: قانون ساراواك
أمضى ألفريد الأشهر الثلاثة الأولى يستكشف ويجمع عيناتٍ من نباتات وحيوانات سنغافورة، وذلك قبل أن يصل يوم الأول من شهر نوفمبر عام ١٨٥٤ إلى ميناء كوتشينج في إقليم ساراواك على جزيرة بورنيو، حيث أنشأ قاعدته. هناك عيَّن ألفريد صبيًّا من المالايو يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا ويُدعى علي، ليساعده في أعمال الطهو وتعلُّم لغة الملايو. تبيَّن أيضًا أن عليًّا خبيرٌ في صيد الطيور وسلخِها، ومِن ثَمَّ ظلَّ مع ألفريد خلال السنوات الثماني يجوبان الأرخبيل.
انطلاقًا من قاعدته، كان الثنائي يجدِّفان بزورق كانو إلى أعلى نهرَي ساراواك وسانتوبونج. وبمجرد أن ينزلا عن الزورق، كان ألفريد وعلي يقضيان اليوم يصيدان الطيورَ ويضعان الفخاخَ للسحالي ويصيدان الحشرات بالشِّباك قبل أن ينسحبا إلى إحدى القرى القريبة التي يقطنها شعب داياك. هناك غالبًا ما كان ألفريد يبيت في بيتٍ تقليدي من بيوت سكان القرية الطويلة الضيقة المسقوفة بالقش والمصنوعة من الخشب تحت عوارضَ مزيَّنة برءوسٍ مُحنطة. ورغم شناعة تلك الزخرفة، فإن ألفريد كان يستمتع بنمطِ عيش المجتمعات المحلية الذي تقدِّمه منازلُ القرية التقليدية، والذي كان يتشاركه في غالب الأحيان مع ما يربو عن مائتين من القرويين. وأفضلُ ما في الأمر أن قرى شعب داياك كانت محاطةً بغابة تبدو إلى حدٍّ كبير كنظيرتها الأمازونية، إلا أنها كانت تعجُّ بأنواع متنوِّعة من الطيور والحشرات المختلفة تمامًا عن الأنواع الموجودة في الأمازون. وشيئًا فشيئًا، بدأ ألفريد يميِّز نمطًا وبدأت بذرة فكرة بسيطة تنمو في عقله. وفي عام ١٨٥٥، دوَّن أفكاره في ورقة بحثية علمية بعنوان «حول القانون الذي نظَّم إدخال أنواع جديدة». وأرسل الورقةَ البحثية إلى وكيله الذي مرَّرها إلى المجلة العلمية الشهيرة «آنالز آند مجازين أوف ناتشورال هيستوري» والتي نشرتها في وقت لاحق من ذلك العام.
في ورقته البحثية التي أعتقد أن علينا أن نقدِّرها حقَّ قدْرها باعتبارها أساسيةً في تطوير نظرية الانتقاء الطبيعي، يبدأ والاس بالتشديد على أنه «أثناء فترة كبيرة من الزمن لكنها مجهولة، تعرَّض سطح الأرض لتغييرات متعاقبة». هنا كان والاس في الأساس يكرِّر استنتاجاتِ لايل في كتابه «مبادئ الجيولوجيا» من أجل أن يقدِّم الفترة الزمنية «الكبيرة» التي كان يحتاجها في بقية روايته. بعد ذلك أورد أدلةً من السجل الحفري ليقول بأن «الحالة الراهنة للعالم العضوي ترجع بصورة واضحة لعملية طبيعية من الانقراض والخلق التدريجيَّين للأنواع». لاحظ أن والاس يشير إلى عملية «الانقراض والخلق» باعتبارها «طبيعية»، وذلك رغم استخدامه لمصطلح «الخلق». من الواضح أن والاس كان يرفض الاستسلام إلى فكرة خلق ميكانيكي للأنواع. وانطلق والاس ليضع تسع «حقائق أساسية» للتاريخ الطبيعي والتي ينبغي — كما اقترح — أن تفسِّرها أيُّ نظرية عن أصل الأنواع.
أربعٌ من تلك الحقائق جغرافية. يُشير أول اثنتين منها إلى أن تلك المجموعات التصنيفية الواسعة — كالفراشات أو الثدييات — تحوي نطاقًا أوسعَ بكثير من المجموعات المحدودة أكثر، كالفصائل أو الأنواع. على سبيل المثال، نجد الفراشات في جميع أنحاء العالم، لكن فصيلة الفراشات ذوات الأجنحة الطويلة الجميلة — أو ما تُعرف بالهلكونية — موجودة فقط في أمريكا الشمالية والجنوبية، كما تنزِع أنواع بعينها من فصيلة الهلكونية إلى الاقتصار على منطقة بعينها من إحدى الغابات. أما الحقيقة الثالثة لدى والاس فكانت أن الأنواعَ أو مجموعات الأنواع المرتبطَ بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا تميل إلى أن تقطن مناطقَ يجاور بعضها بعضًا. وآخر حقائقه الجغرافية تقول بأن المناخات المشابه بعضها بعضًا حين «يفصل بينها بحرٌ شاسع أو جبال شاهقة» فإن الفصائل والأجناس والأنواع التي توجد، لنقُل، على أحد جانبَي سلسلة الجبال ستتشابه بصورةٍ وثيقة مع الفصائل والأجناس والأنواع الموجودة على الجانب الآخر منها. وقد دعم والاس هذه الحقيقة — وهي حقيقةٌ كان داروين قد أشار إليها أيضًا — بملاحظاته التي خرج بها من جزر ملقا وجافا وسومطرة وبورنيو، والتي لا يفصل بينها إلا بحر ضيق ضحل.
ثم يقدِّم والاس أربع حقائق أخرى مشابهة، لكنه يشير إلى المساحة الزمنية وليس المكانية — وقد كان هذا جديدًا كليًّا ما يجعله أمرًا بارزًا أكثر. فمن السجل الحفري، يدفع والاس بأن المجموعات التصنيفية الأصغر — كالأمونيت — تنزِع إلى أن يكون لها توزيع زمني أضيق في السجل الحفري من المجموعات الأكبر، كالرخويات. أيضًا، «أنواع أحد الأجناس أو أجناس إحدى الفصائل التي توجد في الزمن الجيولوجي نفسه تكون متشابهة فيما بينها بشكل وثيق أكثر من تلك التي يوجد بينها فاصل زمني». على سبيل المثال، أنواع الأمونيت التي يكون بعضها وثيق الصلة جدًّا ببعض تتجمَّع في طبقات متجاورة في السجل الجيولوجي، في حين أن الأنواع التي يكون بعضها بعيد الصلة عن بعض تنفصل عن بعضها على نطاق واسع. وتاسع «حقائقه» وآخرها كانت أن الأنواع أو مجموعاتها لا توجد أكثر من مرة في السجل الجيولوجي. بعبارة أخرى، «لم يأتِ نوع أو مجموعة من الأنواع إلى الوجود مرتين».
وما هو حتى ثوري أكثر بالنسبة إلى علم الأحياء أن والاس تمكَّن بعد ذلك من جمْع حقائقه التسع كلها في مقترح أو «قانون» بسيط واحد، وهو أحد أول القوانين في علم الأحياء الحديث. ففي قانون ساراواك الخاص به — كما أصبح يُعرف فيما بعد — اقترح والاس أن «كل نوع يأتي إلى الوجود متوافقًا في الزمان والمكان مع نوع وثيق الصلة به». هذا المبدأ مألوف كثيرًا لنا اليوم لدرجة أن من الصعب تقديرَ ما كان يحوي عليه من أصالة في القرن التاسع عشر. فنحن نعتبر أن من المسلَّم به — على سبيل المثال — أننا نحن البشر وحيوانات الشمبانزي من «الأنواع الوثيقة الصلة بعضها ببعض» التي أتت إلى الوجود بصورة حديثة نسبيًّا في أفريقيا؛ في حين أننا والفراشات من الأنواع الأقل ارتباطًا والتي انفصلت عن سلفٍ مشترك في زمن سحيق ومكان بعيد أكثر بكثير. لكن في عام ١٨٥٥، كان قانون ساراواك لوالاس صادمًا لمعظم علماء الطبيعة الذين اعتقدوا أن حيوانات الشمبانزي والفراشات وكل المخلوقات التي تعمِّر الأرض كانت قد خُلقت في الأسبوع نفسه والمكان نفسه قبل نحو ستة آلاف عام.
يفترض أيضًا [يشير هنا إلى قانون ساراواك الخاص به] رجحانه على الفرضيات السابقة، وذلك على أساس أنه لا يفسِّر ما هو موجود فحسب بل يستلزمه. وبافتراض أن القانون صحيح، فإن كثيرًا من معظم الحقائق المهمة في الطبيعة ستصبح استنتاجات ضرورية منه، كما هي الحال مع تلك المدارات البيضاوية للكواكب وقانون الجاذبية.
وجدَت شفرة أوكام من خلال قانون ساراواك لوالاس مكانًا لها في علم الأحياء، وأصبح العالَم الطبيعي أبسط بعدة درجات.
إلا أن أحدًا بالكاد لاحظ ذلك.
مسألةٌ تافهة
اهتمامُ لايل حثَّ داروين على أن يكتب ردًّا على خطاب والاس بشأن قانون ساراواك، مؤكِّدًا له أن ورقته قُرئت ونالت الإعجاب بالفعل ممن يعنيهم الأمر، ومنهم لايل. أما عن رأيه الشخصي، فقد كتب داروين يقول: «أتفق مع كل كلمة ذكرتها في ورقتك تقريبًا»، وأكمل حديثه قائلًا:
سيكون هذا الصيف هو العامَ العشرين (!) منذ أن فتحت أول دفاتر ملاحظاتي للإجابة عن السؤال الذي مفادُه كيف وبأي طريقة تختلف الأنواع والأصناف بعضها عن بعض. — أنا الآن أُعِدُّ عملي للنشر، لكنني أجد الموضوع كبيرًا للغاية، لدرجة أنني لا أعتقد أنني سأنشره قبل عامين رغم أنني كتبت منه فصولًا كثيرة.
فهل كان داروين يقدِّم إنذارًا مهذَّبًا مفادُه «ابقَ بعيدًا عن ساحتي»؟ لو كان هذا صحيحًا، فإن والاس تجاهله أو على الأرجح أكثر أنه لم يفهمه. وقد اختتم داروين رسالتَه بأن طلب من والاس أن يجمع له عيناتٍ من أي دواجن مستأنَسة قد «يصادفها».
في تلك الأثناء، وبالعودة إلى أرخبيل الملايو، أبحر ألفريد جنوبًا من بورنيو إلى جزيرة بالي، ومن هناك واصل الإبحار شرقًا حتى جزيرة لومبوك، عابرًا مضايقَ لومبوك المحفوفة بالخطر، والتي تشتهر بتياراتها القوية ودواماتها المفاجئة. وقد عبَر ألفريد المضايقَ على متن مركب شراعي بصاريَين يقوده طاقمٌ من الجاويين الذين زعموا أن «بحرهم نَهِم دائمًا ويلتهم أيَّ شيء يمكنه أن يصيده». لحسن الحظ، لم يكن البحر جائعًا جدًّا ذلك اليوم، وبعد رحلة مثيرة نزل ألفريد من فوق متن المركب إلى شاطئ جزيرة لومبوك وشرع في الاستكشاف. وقد ذُهِل حين اكتشف أن الجزيرة تضم نظامًا حيويًّا مختلفًا تمامًا — رغم أنها لا تبعُد عن جزيرة بالي إلا عشرين ميلًا فقط باتجاه الشرق وكانت تبدو للعِيان من فوق شواطئها — فكان بها طيورٌ آكلة للعسل، وببغاوات بيضاء تصيح باستمرار، وطيور آكلة للنحل وطيور الكوكوبارا، وهي طيور كان يعلم أنها شائعة في أستراليا لكنها غير معروفة في الجهة الغربية من الأرخبيل. وأينما نظر ألفريد وجد أنواعًا مماثلة لتلك التي كان يعرف أنها مقصورةٌ على أستراليا والجزر المجاورة لها أو ذات صلة بها. كان والاس قد اكتشف مصادفةً ما يُعرف اليوم بخط والاس، وهو الخط الفاصل الذي يمرُّ مباشرة عبَر الأرخبيل الماليزي والخاص بالحياة النباتية والحياة الحيوانية (بصفة خاصة)، بحيث تكون الأنواع الآسيوية إلى جهتَي الشمال والغرب، والأنواع الأسترالية إلى جهتَي الشرق والجنوب. كان هذا ولا شك أكثرَ الأدلة إدهاشًا على الحقيقة الرابعة عنده من حقائق التاريخ الطبيعي: أن المناطق التي «يفصل بينها بحرٌ شاسع أو جبال شاهقة» تُطوِّر أنواعها الخاصة المميِّزة لها من الحياة النباتية والحيوانية.
ومن لومبوك، انطلق ألفريد في أروعِ مغامراته البحرية حتى ذلك التاريخ؛ إذ ذهب في رحلة بحرية يقارب طولها ١٥٠٠ ميل صوب جزر آرو المتاخمة لبابوا غينيا الجديدة، على متن قارب برو محلي، وهو قارب شراعي قريب الشبه قليلًا بقارب الجنك الصيني — يصحبه أسماكٌ طائرة ودلافين قافزة. ولدى وصوله، دهش كثيرًا لرؤيته البولونيزيِّين الأصليِّين بزوارق الكانو الخاصة بهم المنحوتة بإتقان، وبأغطية رءوسهم المزيَّنة بريش طائر الشبنم. ثم سرعان ما انطلق متسلِّحًا ببندقية وشبكة، وتمكَّن من صيد أفضلِ غنائمه حتى تلك اللحظة، وهي عيِّنة من طائر الجنَّة الملك الرائع. وقد لاحظ أن ذلك الطائر النادر والملوَّن بألوان مبهرجة يوجد فقط في أعماق الغابة بعيدًا عن عين البشر — وهو دليلٌ كما زعم «يخبرنا بكل تأكيد أن كل الكائنات الحية لم تكن مخلوقة من أجل الإنسان».
وقبل أن يبارح جزر آرو، أرسل ألفريد أولَ ورقة علمية من بين عدة أوراق علمية عن التاريخ الطبيعي لتلك الجزر، ثم أبحر بعد ذلك إلى مدينة مكاسار بجزيرة سولاوسي، ثم شمالًا صوبَ مجموعة جزر الملوك أو جزر التوابل الأسطورية. وفي شهر يناير من عام ١٨٥٨، نزل في جزيرة ترناتي؛ حيث استأجر منزلًا قريبًا من الشاطئ يظلُّه بركانٌ يبعث بالدخان. سيكون هذا المنزل هو موطنه وقاعدته طوال الأعوام الثلاثة التالية.
وفي الحال انطلق والاس لاستكشاف الجوار، فاستأجر قاربًا صغيرًا وطاقمَ إبحار، وحطَّ عند خليج دودينجا الفاصل بين النصفَين الشمالي والجنوبي لجزيرة الملوك المجاورة. هناك استأجر كوخًا صغيرًا، وبعد مسيرة قصيرة إلا أنها كانت مثمرة، تمكَّن من صيد عدة حشرات مجهولة بالشِّباك. لكنه سرعان ما أُصيب بالحمى، على الأرجح أنها كانت الملاريا، فاضطُر إلى أن يعود إلى كوخه؛ حيث قضى عدة أسابيع تالية. وحيث كان حبيس كوخه، عاود والاس البحثَ في مسألة الأنواع التي ظلَّت تطارده منذ أيام جمْعه للخنافس رفقةَ بيتس: كيف نشأ التنوُّع الرائع للأنواع؟ كان قانون ساراواك الخاص به يقدِّم فكرةً لحل اللغز، وهي أن الأنواع ذات الصلة بعضها ببعض ينشأ بعضها قرب بعض من حيث الزمان والمكان، إلا أنه لم يكن يقدِّم آليةً لذلك. وفي هذا الإطار، كان قانونه أقربَ إلى قوانين كيبلر عن الحركة منه إلى قوانين نيوتن السببية. كانت القطعة المفقودة من اللغز هي كيف ولماذا تنشأ الأنواع القريب بعضها من بعض في الزمان والمكان نفسيهما.
تحوَّلت أفكاره — ربما بسبب تفكيره في وفاته؛ إذ لم يكن قد مرَّ على وفاة أخيه إلا سبع سنواتٍ جرَّاء حمَّى استوائية مشابهة للحمى المصاب بها الآن — إلى عمل توماس مالتوس بعنوان «مقال حول مبدأ السكان» وملاحظته المكفهرة عن أن معدَّل التناسل يفوق دائمًا المواردَ المتاحة، ما يؤدي إلى اصطفاء طبيعي حتمي فيما يتعلَّق بالنمو السكاني. وقد جمع ألفريد هذا المفهوم مع التباين الواسع النطاق الذي اكتشفه هو وآخرون في الأنواع. إلا أنه كان يعرف على نحوٍ حاسم — من التجارب الفريدة التي أجراها بالفعل في الغابات — أن التباين الطبيعي داخل النوع الواحد يكون موروثًا. والآن، وبينما هو مصاب بالحمى، انحل اللغز أمامه. تنشأ الأنواع القريب بعضها من بعض في المكان نفسه وفي الزمان نفسه؛ لأنها تنحدر من السلف نفسه، وذلك من خلال عمليةٍ نعرفها اليوم باسم الانتقاء الطبيعي، ومِن ثَمَّ يبرهن هذا على قانون ساراواك الخاص به. هذه المرة، كان والاس قد اكتشف حقًّا المكافئَ الحيوي لقوانين نيوتن السببية عن الحركة.
انتظر ألفريد حتى تنكسِر شوكة الحمَّى قبل أن يعود إلى منزله في جزيرة تيرناتي. وفي غضون ثلاثة أيام كان قد دوَّن أفكارَه في شكل ورقة علمية عنوانها «حول ميل الأنواع لتكوين الضروب، وحول ديمومة نشوء الضروب والأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي». لكن لمَن يرسلها؟ كانت أولى أفكاره على الأرجح أن يرسلها إلى وكيله، ستيفنز، الذي كان سيرسلها من دون شكٍّ إلى مجلة علمية ملائمة. لكن كان داروين قد أخبره بأن تشارلز لايل وجد ورقته عن قانون ساراواك مثيرةً للاهتمام. كان هذا كافيًا لإقناع والاس بأن يرفع سقف آماله وأن يرسل ورقته العلمية التي ألَّفها في جزيرة تيرناتي إلى داروين، ويطلب منه أن يمرِّرها إلى العالِم الإنجليزي البارز. فأرسل خطابَه الذي وصل إلى منزل داون يوم الثامن عشر من شهر يونيو لعام ١٨٥٨، وانطلق نحو بابوا غينيا الجديدة ليجمع مزيدًا من العيِّنات.
سيسرُّني كثيرًا الآن أن أنشر ملخصًا بآرائي العامة في اثنتي عشرة صفحة أو نحو ذلك. لكن لا يمكنني إقناعُ نفسي أن فِعلي هذا يُعَد فِعلًا شريفًا … هذه مسألة تافهة على أن أزعجك بها، لكنك لا تدري كم سأكون ممتنًّا لنصيحتك.
وقد نُشرت الورقات الثلاث، بالترتيب الذي قُرئت به، في وقائع اجتماعات الجمعية اللينية في شهر سبتمبر من ذلك العام. في تلك الأثناء، استمر والاس في عمله جامعَ عيِّنات طبيعية، غيرَ مدرك تمامًا للعاصفة الفكرية التي تسبب بها خطابه. وقد هجر داروين فكرةَ «كتابه الكبير» ليكتب «ملخَّصًا» لنظريته الذي أصبح تحفته الرائعة «عن أصل الأنواع»، المنشور في شهر نوفمبر من العام التالي لذلك. حين علِم والاس في نهاية المطاف ﺑ «التدبير الدقيق» بعد نشر كتاب داروين «عن أصل الأنواع»، تخلَّى عن فكرته عن تأليف «عمله الشامل» حول أصل الأنواع.
وقد أمضى ألفريد أربع سنوات إضافية أخرى يجمع العينات في الأرخبيل، بما في ذلك أكبرُ ما حاز عليه من غنيمة أثناء جميع رحلاته، وهي نوع غير معروف من قبلُ لأحد طيور الجنة، الذي يُعرف اليوم باسم والاس ستاندردوينج. في واقع الأمر، كان مساعده عليٌّ هو أول مَن رأى الطائر، فصاح: «انظر ها هنا سيدي، يا له من طائر مثير للفضول». عاد والاس إلى إنجلترا في أبريل من عام ١٨٦٢، ومعه زوجٌ حي من طيور الجنة بين أمتعته. وقد ذُكِر خبر عودته في مجلة «إلستريتد لندن نيوز». وانتُخب من فوره زميلًا لجمعية علم الحيوان وتلقَّى دعوات من تشارلز داروين وتوماس هكسلي وتشارلز لايل. كما جدَّد والاس أيضًا أواصر صداقته مع شريكه في جمع العيِّنات هنري بيتس. وفي صيف عام ١٨٦٢، زار والاس منزل داون لآل داروين بمقاطعة كِنت. واستمر عالِما الطبيعة في تبادل الرسائل وكانت علاقتهما ممتازةً لما بقي من حياتهما.
وقد نشر والاس تحفتَه الخالدة «أرخبيل الملايو» عام ١٨٦٩. وإضافة إلى وصفه فيه للتاريخ الطبيعي لتلك المنطقة، أشاد والاس بمناقب الثقافات التقليدية فيها، مقارِنًا إياها بالحضارة الغربية التي جادل بشأنها أن «ثراء قلة من الناس ومعرفتهم وثقافتهم لا يقيم حضارة … [الذين] يظل تنظيمهم الأخلاقي في حالة من البربرية». وظلَّ اشتراكيًّا طوال حياته، وكان من أشد المناصرين لكلٍّ من تأميم الأراضي وحقوق المرأة. وعلى عكس كثيرين من زملائه علماء الطبيعة، كان والاس شديدَ المعارضة لتحسين النسل.
تُوفي داروين عام ١٨٨٢ ودُفِن في كنيسة ويستمنستر آبي. وكان والاس أحدَ حَمَلة التابوت الموضوع فيه جثمانه. وفي عمر السبعين، انتُخِب والاس أخيرًا زميلًا للجمعية الملكية، وكان في ذلك أكبرَ من داروين بأربعين سنة حين نال الشرفَ نفسه. وقد أشار والاس إلى أنه كان سيستمتع بعضوية الجمعية أكثرَ لو تلقَّاها بينما كان لا يزال يتمتع بالقدرة على حضور اجتماعاتها. وفي عام ١٩٠٨، أي، في الاحتفال بالذكرى الخمسين لقراءة أوراق والاس وداروين الذي أقامته الجمعية اللينية، ذكر والاس كيف واتته فكرةُ الانتقاء الطبيعي في «لمحة عابرة من الإلهام». وقد تبِع هوكر والاس وأمدَّ النظريةَ بلغز آخر، مشيرًا إلى أنه لم يَعُد ثمَّة «دليل وثائقي» على أيٍّ من الخطابات التي تلقَّاها داروين أثناء مراسلاته بخصوص الورقة التي كُتبت في تيرناتي. ورغم ما اعتاد عليه داروين من الاحتفاظ بكل خطاباته تقريبًا، فقد فُقِدت كل تلك الخطابات التي كُتبت إلى داروين على يد والاس أو هوكر أو هكسلي أو لايل أثناء عام ١٨٥٨ الحاسم هذا، بما في ذلك مخطوطةُ ورقة والاس الأصلية التي كُتبت في تيرناتي.
على الأرجح أن نظرية الانتقاء الطبيعي — أيًّا كان منشؤها — هي النموذج الأوكامي الأمثل على اختزال أعداد كبيرة من الحقائق الاعتباطية في قانون بسيط واحد. فهي تعتمد على أبسط الآليات الممكنة: مصدر غير محدود من التباين الموروث إلى جانب بقاء وتكرار تفاضليَّين. كان لدى كلٍّ من والاس وداروين وفرةٌ من الأدلة على البقاء والتكرار التفاضليَّين، لكن وقبل مرور عَقد من الزمن على نشر كتاب «عن أصل الأنواع»، كشف رجل السياسة والعالِم والكاتب جورج جون دوجلاس كامبل (١٨٢٣–١٩٠٠) — دوق أرجيل الثامن — عن مشكلة في ذلك العنصر الآخر من النظرية: وهو المصدر غير المحدود للتباين الموروث. ففي كتابه «سيطرة القانون» المنشور عام ١٨٦٧، أوضح كامبل أنه ورغم العنوان الرفيع للكتاب، فإن «نظرية السيد داروين ليست أبدًا نظريةً عن أصل الأنواع، إنما هي نظرية عن الأسباب التي تؤدي إلى النجاح والفشل النسبيَّين لتلك الأشكال الجديدة التي قد تُولد في هذا الكون». لقد أشار كامبل بشكل صحيح إلى أن رائعة داروين وصفت الانتقاء الطبيعي الذي يؤثِّر على تباين موجود مسبقًا، كالاختلافات الموجودة في شكل منقار طائر الحسُّون أو الألوان على جناح إحدى الفراشات. إلا أن هذه العملية ليست بعملية خلَّاقة؛ إذ لا يمكنها إلا أن تختار بين ضروب موجودة بالفعل ضمن مجموعة سكانيةٍ ما. أما بنفسها، فلا يمكنها أن تقدِّم متغيِّرات جديدة، ولا أن تُوجِد أنواعًا جديدة.
كانت الخطوة التالية في كشف أكبر أسرار علم الأحياء هي اكتشاف مصدر بسيط للتباين الجديد.