كمٌّ من البساطة
… الإنسان كمٌّ …
مرة أخرى، هناك الكثير من الكتب الرائعة التي تناولت ميكانيكا الكم، ومن المستحيل تقديرُ حجر أساس فيزياء القرن العشرين هذا حقَّ قدره في غضون بضع صفحات فقط. لذا سأركِّز مرةً أخرى على تلك الجوانب من ميكانيكا الكم التي تبرز دورَ البساطة، وأفضل ما نبدأ به هو تناول هذا المبحث الغريب من العلم من منظور رفيق شفرة أوكام، وهو المذهب الاسماني. ستتذكَّر أن المبدأ الأساسي في مذهب الأوكامي الاسماني هو أن المفاهيم المجرَّدة — كالأبوة — موجودةٌ فقط في صورة كلمات أو أفكار في عقولنا، وأنها لا توجد كأشياء حقيقية في العالم المادي. لهذا السبب، شدَّد الأوكامي على حتمية استبعادها من الفلسفة والعلوم.
لكن ما هو الحقيقي وما هو المجرَّد في العلم؟ لقد ناقشنا بالفعل كيف أن المفاهيم — كمفهوم الحركة مثلًا — تكون نسبية، كأن يكون أحدُ الأجسام الذي يتحرَّك ضمن إطارٍ ما ثابتًا في إطار آخر. على هذا الأساس، أكَّد الأوكامي أن الحركة — أو القوة الدافعة — لا يمكن أن تكون «شيئًا». وبالمثل، حتى الجاذبية نفسها هي قوة خيالية في النسبية العامة. إذن ما هو الحقيقي؟
هبْ أنك تقف على حافةِ حلبة تزحلق على الجليد وترغب في أن تقيس على وجهِ الدقة موقعَ صديقتك المتزلجة، أليس، والتي تقف ثابتة على الجليد. ولكي نزيد من صعوبة هذه المهمة، أُطفِئت الأضواء كلها بحيث لا يمكنك رؤيتها. لحسن الحظ، أحضرت معك حقيبةً بها كرات نطَّاطة مضيئة. ولكي تحدِّد موقعَ أليس، تلقي بالكرات عشوائيًّا في الظلام. تطير معظم هذه الكرات دون عائق عبْر الحلبة، لكنك لا تتمكَّن من إعادة التقاط سوى القليل منها حين ترتد، بعد أن تصطدم بأليس كما هو مفترض. تلاحظ أنت موضعَ إلقائك والتقاطك للكرات واتجاهه، وبتطبيق مبدأ التثليث، يمكنك تحديدُ موقع أليس بدقة في الظلام.
لكن وكما أكَّد نيوتن، فإن لكل فعلٍ ردَّ فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد في الاتجاه. حين تصطدم الكرة بأليس، فإن مقدارًا (كمًّا) من الزخم سينتقل إلى جسدها فيتسبَّب في دفعِها للخلف. وموضعها بعد القياس لن يكون مماثلًا كما كان قبله. حلُّ هذه المعضلة في العالَم العياني واضح، وهو أنك ببساطة تضيء الأضواء لتحدِّد مكانَ أليس بدقة.
يمكنك أن تتخيَّل بالطبع — رغم افتقارك إلى معرفة ذلك — أن الموقع الدقيق لإلكترون هو موقعٌ حقيقي كما هو موقع أليس في الظلام. لكن وعلى عكس العالم العياني، ليس هناك مكافئ ممكن ﻟ «إضاءة الأضواء» في العالم الكمي؛ حيث إن الضوء يتكوَّن من فوتونات، وستؤثِّر هذه الفوتونات على أي شيء نريد قياسه. هذا الأمر يثير سؤالًا مشابهًا لذلك الذي طرحه ويليام الأوكامي حول حقيقة المُثل عند أفلاطون أو الكليَّات عند أرسطو، أو حول مفهوم الحركة نفسه: ما مدى حقيقة الموضع الدقيق أو الزخم إن لم يكن بإمكاننا قياسُه أبدًا؟
ينبغي للأشياء الحقيقية أن تكون ذات تأثيرٍ على العالَم المادي. ينبغي لهذا أن يكون حدَّنا الأدنى على الأقل في تعريفِ ما هو حقيقي. فالأشياء غير الحقيقية — كالمُثل أو الكليَّات أو الأشباح أو الشياطين — ليس لها تأثير. بهذه الطريقة نعرف أنها أشياءُ موجودة في الأذهان — عوضًا عن كونها مادية — أو «مفاهيم» كما كان أوكام ليصفها. وإن لم يؤثِّر الموقعُ الدقيق للجسيم على العالَم المادي (إن فعل فسيمكن قياسه) فإن ويليام الأوكامي كان سيشدِّد على أنه ليس حقيقيًّا أكثرَ من المثلث الأفلاطوني، أو جوهر «الأبوة» أو «الروح العارفة» عند هنري مور. ومن المنظور الاسماني لدى ويليام الأوكامي، فإن «الموقع الدقيق» هو فقط الاسم الذي نعطيه لشيء مجرَّد يوجد في أذهاننا ونماذجنا؛ شيء خيالي لا يتوافق مع أي شيء في العالَم المادي. مِن ثَمَّ فإنه كيان يفوق الضرورة وينبغي استبعاده من العلم.
ميكانيكا الكمِّ تفعل هذا بالتحديد. فالفروق بين حالات الطاقة المختلفة التي تكون أصغرَ كثيرًا من أن يمكن قياسها لا تعتبر حقيقيةً ببساطة. هكذا لا يمكن أن تنبعث الطاقةُ إلا في شكل حزمٍ ضئيلة يختلف بعضها عن بعض بشكلٍ يمكن قياسه: وهي الكموم. وبالمثل، في حين تسمح الديناميكا الحرارية للجسيمات بالاهتزاز في نطاقٍ مستمر من الترددات، تشدِّد ميكانيكا الكم على أن التردُّدات القابلة للقياس فحسب هي المسموح بها. هذا «التكميم» هو ما يؤدي إلى السمات الخاصة لإشعاع الأجسام السوداء ومعادلة بلانك.
إلا أن غرابة ميكانيكا الكم ليست مقتصرةً على تكميم الطاقة. فأوجه عدم اليقين على المستوى الكمي تتجسَّد في شكل خصائص معقَّدة للجسيمات التي توجد في عدةِ أماكنَ في الوقت نفسه، أو تنتقل عبْر حواجز منيعة على نحوٍ كلاسيكي أو تدور في اتجاهين مختلفَين في الوقت نفسه، ببساطة لأنه من غير الممكن إثبات أنها لا تفعل ذلك. بالمثل، قد تحظى الجسيمات بارتباطاتٍ شبحية تمتد عبْر الزمان والمكان، فقط لأن مبدأ عدم اليقين لدى هايزنبرج يخبرنا بأننا لا نستطيع إثباتَ أنها لا تحظى بمثل هذه الارتباطات.
إن أحد أعظم نجاحات ميكانيكا الكم تكمُن في الكشف عن عالَم الجسيمات الدون الذرية الغريب. إلا أنها في أول لقاءاتها مع ذلك العالَم لم تكشف عن بساطة، بل عن دَغَلٍ كثيف.
انكشاف الذرة بميكانيكا الكم
مع أن فكرةَ الذرة تعود إلى اليونانيِّين القدماء على الأقل، كان العلماء في مطلع القرن العشرين لا يزالون في سجالٍ حول ما إن كانت الذرة مفهومًا مجردًا مفيدًا أم شيئًا حقيقيًّا. واحدة من بين أوراق أينشتاين البحثية الأربع لعام ١٩٠٥ حسمت هذه المسألةَ بشكل كبير، وذلك بأن بيَّنت أن الحركة غير المنتظمة (البراونية) للجسيمات — كحبوب اللقاح المجهرية — المعلَّقة في الماء، لا تكون منطقيَّة إلا حين تتبعثر بفعل ارتطامها بذرَّات ماء خفيَّة.
حين أتى ديموقريطوس بفكرة الذرات، تصوَّرها كجسيمات ضئيلة وغير قابلة للتجزئة من المادة. وقد نجا هذا المفهوم من عملية التبديل المستمر بين نظرية الملاء والنظرية الذريَّة في العالم القديم والعصرأوسطي والحديث حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثم بحلول الوقت الذي كان أينشتاين يكتب فيه ورقتَه البحثية حول حقيقة الذرَّة، اكتشف كلٌّ من هنري بيكريل (١٨٥٢–١٩٠٨) وعلى نحوٍ مستقل ماري كوري (١٨٦٧–١٩٣٤) وبيير كوري (١٨٥٩–١٩٠٦) الانحلالَ الإشعاعي للذرَّات إلى أجزاءٍ أصغر منها. وقد بيَّن المزيدُ من التجارب على يد إرنست رذرفورد (١٨٧١–١٩٣٧) أن الذرات تتكوَّن من نواة ضئيلة الحجم موجبة الشحنة، وتحيط بها، على مساحة تساوي قطر النواة مضاعفًا بمائة ألف ضعف، سحابة من الإلكترونات السالبة الشحنة. كما أثبتت المزيد من التجارب اللاحقة أن الأنوية الذرية تتكوَّن من بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات متعادلة كهربيًّا، ما أدَّى إلى الصورة المألوفة والبسيطة نسبيًّا لدينا عن الذرَّة التي قد تراها مطبوعةً على أحد التي-شيرتات.
أصبحت الغرف السحابية الأداةَ المفضَّلة لعلماء فيزياء الجسيمات، الذين نقلوها فوق الجبال لرصد الأشعة الكونية التي سيمتصُّها الغلافُ الجوي للأرض بخلاف ذلك. وقد أظهرت تجاربهم غيثًا من الجسيمات الجديدة المنطلقة من الفضاء العميق. في العام ١٩٣٦، اكتُشِف «الميوون»، وهو جسيم له شحنة مماثلة للإلكترون إلا أن كتلته تبلغ نحو مائة ضعف كتلة الإلكترون. اكتشاف ذلك الجسيم حثَّ عالِم الفيزياء الأمريكي إيزيدور إيزاك رابي (١٨٩٨–١٩٨٨) إلى السخرية قائلًا: «مَن الذي طلب هذا؟». ثم سرعان ما ارتفع عدد الجسيمات الأولية بسرعة كبيرة إلى أرقام مزدوجة؛ حيث استمرَّت الجسيمات الجديدة في ترك آثارٍ لها في الغرف السحابية. ولم يزدَد الوضعُ إلا سوءًا حين أصبحت مسرِّعات الجسيمات متوفِّرة في خمسينيات القرن العشرين، وظهرت مجموعةٌ من الجسيمات الجديدة التي تحمل أسماءً غريبةً مثل «البيونات» و«الكاونات» و«البايرونات» من التصادمات العالية الطاقة للجسيمات. وبعد أن شهد باولي ذلك الحشدَ الكبير من الجسيمات المفترَض أنها أولية، قال متعجبًا: «لو كنت قد تنبأت بهذا، لتحولت لدراسة علم النباتات».
لم يكن عدد الجسيمات هو المربِك للغاية في الأمر بالنسبة إلى علماءَ مثل باولي، بل كانت حقيقة أنه لم توجد نظرية تتنبأ بوجودها. وقد بدا أن معظم تلك الجسيمات غيرُ ذي دور أو يلعب دورًا صغيرًا في عمليات تشكيل النجوم أو الكواكب أو الناس. كما ظهرت أيضًا عشراتُ الجسيمات الأولية الزائدة عن الحاجة لتجعل من شفرة أوكام أضحوكة.
لحسن الحظ، أحدُ أكثر العلماء تأثيرًا لكنْ أقلُّهم شهرة في القرن العشرين اكتشف مخرَجًا بسيطًا لتقليم حديقة الجسيمات هذه، كما أصبح يُطلق عليها.
تناظرٌ مخيف
وُلِدت إيمي نويثر (١٨٨٢–١٩٣٥) في إرلانجن بألمانيا يوم ٦ مارس لعام ١٨٨٢، وهي ابنةُ عالِم الرياضيات ماكس نويثر وإيدا أميليا كاوفمان. ارتادت إيمي المدرسةَ في مدينتها الأم، فدرست الألمانية والإنجليزية والفرنسية والحساب، وكانت التوقُّعات أنها ستُصبح مدرِّسة لغات، وهي إحدى المهن القليلة المتاحة لامرأة متعلِّمة. إلا أن إيمي لم تكن مهتمةً بتدريس اللغات، وكانت عازمة عوضًا عن ذلك على السعي إلى امتهان إحدى الوظائف في مجال الرياضيات. إذ أدركت أن هذا سيمثِّل تحديًا؛ حيث لم يكن بمقدور النساء الالتحاقُ بجامعة إرلانجن المحليَّة. لكن سُمِح لها أن تجلس في غرف المحاضرات كمستمعة؛ لأن والدَها كان يدرِّس في الجامعة. مكَّنها هذا من اجتياز اختبارِ دخول الجامعة في العام ١٩٠٣ وهي بعمر الحادي والعشرين، ما فتح أمامها باب جامعة جوتِنجن المرموقة.
في عام ١٩٠٣، كانت جامعة جوتنجن مركزَ العالَم الرياضي. حضرت إيمي محاضراتٍ لعمالقة في الرياضيات أمثال ديفيد هيلبيرت وهيرمان مينكوفسكي وفيليكس كلاين. لكن مرة أخرى لم يكن مسموحًا لها أن تلتحق بها بشكل رسمي. وبعد فصل دراسي واحد، أُصيبت بوعكة صحية فعادت إلى إرلانجن؛ حيث خُفِّفت القيود التي تمنع التحاق الإناث بالجامعات.
بالعودة إلى إرلانجن وفي ظل توجيه صديق والدها وزميله بول جوردان، تمكَّنت إيمي من الحصول على درجتها العلمية، وانطلقت للحصول على شهادة الدكتوراه، فحصلت عليها مع مرتبة الشرف، وأصبحت ثاني امرأة في ألمانيا بأسرِها تحصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات. بعد ذلك سُمح لها أن تدرِّس في معهد إرلانجن للرياضيات، لكن كمحاضرةٍ من دون أجر، عوضًا عن أن تكون عضوًا معترفًا به رسميًّا من أعضاء هيئة التدريس. وفي إرلانجن تحوَّلت اهتماماتها إلى بعضِ أكثر المشاكل إلحاحًا في الرياضيات في بواكير القرن العشرين، وهي الجبر المجرَّد. الجبر المجرَّد هي طريقة من الطرائق يتم فيها التلاعبُ بالعمليات الرياضية كلها، وليس مجرَّد الأعداد أو الرموز. وقد نشرت إيمي عدةَ أوراق علمية رائدة، ما جعلها محطَّ اهتمام أساتذتها السابقين في جامعة جوتنجن.
كانت تلك الفترة في جامعة جوتنجن فترةً عصيبة. إذ كان أينشتاين قد نشر حديثًا أوراقَ نظرية النسبية العامة الخاصة به، وكان الكثيرون من أعضاء هيئة تدريس الرياضيات مفتونين بالنظرية الجديدة وبالتحديات التي تنطوي عليها عملية كشفِ آثارها. دعا هيلبيرت أينشتاين لكي يلقي محاضراتٍ في جامعة جوتنجن من شهر يونيو إلى شهر يوليو من عام ١٩١٥. وقد اقتنع هيلبيرت من محاضرات أينشتاين بصحةِ نظرية النسبية العامة، إلا أن العالِمَين كشفا أيضًا مشكلةً فيها؛ حيث بدا أن النظرية تخرق أحدَ المبادئ الأساسية في العلم، وهو مبدأ حفظ الطاقة؛ والذي يرى أن الطاقةَ لا يمكن أن تُستحدث من عدم ولا أن تفنى. ظن هيلبيرت أنه يعرف امرأةً يمكن أن تقدِّم يدَ العون.
في العام ١٩١٥، دعا كلٌّ من هيلبيرت وكلاين، نويثرَ لكي تعود إلى جامعة جوتنجن. فقبِلت هي ذلك، إلا أن جهود هيلبيرت الرامية لتأمين وظيفةٍ لها في الجامعة كانت دائمًا ما يعوقها أساتذةُ العلوم الإنسانية — رغم دعم أساتذة الرياضيات والعلوم لها — الذين لم يتمكَّنوا من استيعاب فكرة أن تكون هناك أستاذة جامعية فيما بينهم. وقد أدَّى سخط هيلبيرت على عنادهم إلى فورةِ غضب شهيرة من جانبه، وذلك حين صاح فيهم قائلًا: «لا أرى أن جنس المرشَّح يمثِّل حجةً ضدَّ قبوله … فنحن في نهاية المطاف جامعة، وليس مرحاضًا عموميًّا!». لكن التحيُّزات من القرن التاسع عشر ظلَّت مهيمنة، فكان يتحتَّم تسجيلُ محاضرات إيمي تحت اسم هيلبيرت لكن «بمساعدة من الدكتورة الآنسة إيمي نويثر». وظلَّت إيمي دون أجر.
استعان ديفيد هيلبيرت بمهارات نويثر لحل المشكلة المزعجة التي تتمثَّل في خرقِ مبدأ حفْظ الطاقة في نظرية أينشتاين عن النسبية العامة. تشتمل الفيزياءُ النظرية على عدة قوانين حفظٍ أولية أخرى إلى جانب قانون حفظ الطاقة؛ فهناك قوانين حفظ الزخم والزخم الزاوي والشحنة الكهربية. وليس أيٌّ منها مثبَت في الفيزياء الكلاسيكية؛ فصحَّتها مجرَّد فرضيات؛ لأنه لم يُكتَشف أيُّ استثناءات لها. وعلى غرار ثبات سرعة الضوء، تبدو هذه القوانين من بين اللبنات الأساسية التي بُني بها كوننا. وحين طبَّقت إيمي نويثر أفكارَها الرياضية على مشكلةِ حفظ الطاقة في النسبية العامة، كشفت عن علاقةٍ أعمق وأشمل بين قوانين الحفظ وقوانين الفيزياء الأساسية. هذه العلاقة — والتي تُوصف في غالبية الأحيان بأنها «الفكرة الأجمل في الفيزياء» — تُعرف باسم مبرهنة نويثر.
هذه المبرهنة مبنيةٌ على فكرة التناظر. وهي تقول بأنه متى ما وُجِد تناظرٌ في قوانين الفيزياء، فهناك قانون حفظ يقابله.
كانت تناظرات نويثر أكثرَ تخفيًا، ويمكننا أن نرى كيفية عملها بتخيُّل أنك تتأمَّل مهاراتِ صديقتك أليس في التلاعب بالكرات فيما يطلق عليه ألعاب الخفَّة في ساحةٍ محلِّية. ستجد أن صديقتك تملك تناظرًا دورانيًّا إن كان من غير المهم ما إن كانت تتلاعب بالكرات فيما تولِّي وجهها جهةَ الشمال أو الشرق أو الجنوب أو الغرب. وإن لم يكن هناك فارق ما إن كانت أليس تسير مائةَ ياردة أو نحو ذلك في أحد الاتجاهات، فيمكن أن نقول إنها تملِك أيضًا تناظرًا انتقاليًّا. وإن كان لا يهم أن تتلاعب أليس بالكرات اليوم أو غدًا أو في أي وقت آخر، فإنها تملك تناظرًا زمنيًّا. وإن كانت الكرات التي تتلاعب بها مشحونةً كهربيًّا، فإن تناظرَ الشحنة سيعني أن أليس لم تكن لتلقي بالًا إن تحوَّلت من الكرات الموجبة الشحنة إلى كرات سالبة الشحنة.
بالأساس، هذه التناظرات تُعَد امتدادًا لمنطق أينشتاين القائل بأن قوانين الفيزياء ينبغي أن تكون متماثلة بالنسبة إلى كل الراصدين. وقد أثبتت إيمي نويثر أنه يمكن تطبيقُ قانون حفظ مقابل متى ما كانت هناك تناظرات. ومِن ثَمَّ فإن التناظر الزمني يتضمَّن حفظًا للطاقة، والتناظر الانتقالي يتضمَّن حفظًا للزخم، وقانون نيوتن الثالث — القائل بأن لكل فعلٍ ردَّ فعلٍ مساوٍ في المقدار ومضاد في الاتجاه — هو نتيجة التناظر الدوراني.
في عام ١٩٢٨، قبِلت إيمي دعوةً لتضطلع بوظيفة أستاذ زائر في جامعة موسكو. وتزامنت عودتُها إلى ألمانيا مع صعود النازيِّين إلى السلطة. وباعتبارها يهوديةً ومن مناصري الشيوعية طُردت من جامعة جوتنجن عام ١٩٣٣، إلا أنها ظلَّت تدرِّس في منزلها، فكانت ترحِّب بكل بهجة حتى بالطلاب من الجنود النازيِّين في محاضراتها الارتجالية.
أدَّى صعود النازية إلى هروب كلٍّ من ألبرت أينشتاين وهيرمان فايل من ألمانيا. وقد عُرِض عليهما — وقبِلا — وظيفتَين في معهد الدراسات المتقدِّمة المرموق في برينستون بالولايات المتحدة. مارس فايل ضغطًا شديدًا من أجل إلحاق نويثر ببرينستون إلا أنه لم ينجح في ذلك. في نهاية المطاف، عُرِض عليها منصب في كلية برين مار النسائية القريبة في بنسلفانيا، وقد قبِلت به وانتقلت للعمل هناك في أواخر العام ١٩٣٣.
قدَّمت كلية برين مار لإيمي ملاذًا بعيدًا عن الفظائع والأهوال التي تجري في أوروبا؛ إذ كان بإمكانها استكمالُ العمل الذي تحبُّه، وهو التدريس لطلاب الأبحاث والإشراف عليهم. لكن لسوء الحظ لم تدُم سعادتها طويلًا. ففي العام ١٩٣٥ اكتُشِف أنها مصابة بورم في الحوض، وماتت بعد جراحةٍ أجرتها وهي في الثالثة والخمسين من العمر. وفي يوم ٥ من شهر مايو لعام ١٩٣٥، نشرت صحيفة «ذا نيويورك تايمز» «خطابًا للمحرِّر» وقَّع عليه ألبرت أينشتاين عنوانه: «البروفيسور أينشتاين يكتب تقديرًا لزميلةٍ من علماء الرياضيات». في واقع الأمر ورغم أن أينشتاين وقَّع الخطاب، فإن هيرمان فايل هو مَن كتب متنَه، وقد كتب فيه «في رأي أكفأ علماء الرياضيات الأحياء، كانت الآنسة نويثر أهمَّ عبقرية إبداعية رياضية قدَّمها التعليم العالي للإناث منذ بدايته وحتى الآن». الكثير من علماء الرياضيات والفيزياء سيسقطون أمرَ الجنس من حساباتهم في هذه الآونة. وقد قرأ فايل تأبينَها في جنازتها قائلًا: «لم تكوني من طينٍ شكَّله الرب في تناغمٍ بيده المبدعة، بل كنتِ قطعةَ ماسٍ بشرية أصلية نفث فيها الربُّ عبقريةً مبدعة».
تشذيب حديقة الجسيمات
بعد وفاتها، عزَّز فايل أفكارَ نويثر ليستحدث نهجًا ثوريًّا في فيزياء الجسيمات يُعرف باسم نظرية القياس. وقد قدَّمت النظرية تبسيطًا جذريًّا لحديقة الجسيمات، وهي بمنزلة الأساس في علم فيزياء الجسيمات الحديث.
وحين بحث هيرمان فايل وزملاؤه عن قواعدَ ثابتة قياسيًّا للجسيمات المشحونة كهربيًّا، حصلوا على قوانين ماكسويل حول الكهرومغناطيسية. كانت تلك نتيجةً بارزة؛ حيث أظهرت أن هذه القوانين العظيمة الأهمية — والتي ألهمت أينشتاين لاكتشاف النسبية الخاصة — كانت انعكاسًا لتناظرٍ — ومِن ثَمَّ بساطة — أعمقَ في الطبيعة. تنبَّأت نظرية القياس أيضًا بوجودِ جسيم محايد عديم الكتلة قادر على نقل القوى بين الجسيمات المشحونة. تخيَّل أليس وبوب يلقي أحدهما إلى الآخر بكرةِ سلة فيما يقفان مرتديَين حذاءَ تزلُّج في حلبة تزلج. حين تلقي أليس بالكرة إلى الأمام، فإنها، طبقًا لقانون نيوتن الثالث، تندفع للخلف بفعل رميتها. وحين يمسك بوب بالكرة فإن أثرَها يدفعه بعيدًا عن أليس. تكون المحصِّلة النهائية أن المتزلِّجَين قد ابتعد أحدهما عن الآخر — من دون أن يحدُث تلامس بينهما. أدرك فايل وزملاؤه أن هذا هو ما يحدث بالفعل حين يلتقي أحدُ الإلكترونات بآخر. يُمرر الفوتون — ككرة السلة — بين الإلكترونات ما يسبِّب انحرافها عن بعضها: تتنافر الإلكترونات المتماثلة الشحنة.
تمامًا كما وحَّدت معادلات ماكسويل بين قوى الكهرباء والجذب المغناطيسي، كشفت نظريةُ القياس ما كان خفيًّا من قبلُ من تناظرات وحَّدت القوى الكهرومغناطيسية مع إحدى القوَّتين اللتين تبقيان على الأنوية الذرية متماسكة، وهي القوة النووية الضعيفة. مرة أخرى، الكيانات التي كان يُعتقد أنها مختلفة وُجِدت متماثلة وأصبح العالَم أكثرَ بساطة. وحين طُبِّقت نظريةُ القياس على الطاقة النووية القوية المسئولة عن الإبقاء على الأنوية الذرية متماسكة، قدَّمت هذه النظرية علم الديناميكا الكهربائية الكمِّية، وكذلك الإدراك بأن البروتونات والنيوترونات التي تشكِّل الأنوية الذريَّة تتكوَّن في واقع الأمر من مجموعاتٍ ثلاثية من الجسيمات الأولية أكثرَ التي تُدعى «الكواركات» والتي تأتي في ستة أشكال مختلفة هي: علوي، وسفلي، وساحر، وغريب، وقِمي، وقاعي. على سبيل المثال، تتكوَّن البروتونات من كواركين علويَّين وكوارك واحد سفلي، في حين تتكوَّن النيوترونات من كواركين سفليَّين وكوارك واحد علوي.
ونظرية النموذج العياري هي إحدى النظريات العلمية الأخرى التي تتسم بالبساطة والجمال. لكن يعتقد معظم الفيزيائيِّين في وجود عالَم أكثرَ بساطة من هذا. إذ ترى النظريات المُوحَّدة الكبرى أن القوتَين الكهروضعيفة والكهروقوية تتَّحدان معًا في مستويات الطاقة العالية، وسيتَّضح أن اللبتونات (وهي في الغالب إلكترونات ونيوترونات) والكواركات هما وجهان مختلفان من الجسيمات نفسها.
تخيَّل حلبة تزلُّج تعجُّ بالمتزلجين الذين يرقص كلٌّ منهم رقصةَ بيروت الخاصة بالباليه بسرعة جدًّا على بحيرةٍ متجمِّدة تهبُّ على سطحها رياحٌ شمالية قويَّة. حين يدور المتزلِّجون بسرعات عالية — والتي تكافئ درجة الحرارة العالية أو الطاقة العالية — فإنهم يكونون مماثلين بعضهم بعضًا ومتناظرين دورانيًّا. لكن بينما تبطئ سرعتهم ويفقدون الطاقةَ وتبدأ الرياح في لسعهم، سيتوقف المتزلِّجون في نهاية المطاف عن الدوران، وستكون أكتافهم مصطفةً باتجاه الرياح، وهو الاتجاه الذي يقلِّل من مقاومة الهواء. وبمجرد أن يصبحوا ثابتين، سيكون نصفهم تقريبًا متجهًا نحو الشرق والنصف الآخر نحو الغرب. سيتعطَّل تناظرهم الدوراني وما كان نوعًا واحدًا من المتزلجين سيصبح الآن خليطًا من نوعين. تقترح النظريات الموحَّدة الكبرى أن الكون حين برَد بعد الانفجار العظيم وقع له حدثٌ مشابه من كسرٍ للتناظر تسبَّب في تجميد اللبتونات والكواركات من جسيم لبتون-كوارك واحد. وتبدو الجسيمات مختلفة إلا أنها موحَّدة من خلال بساطة ضمنية تستعيدها في مستويات الطاقة العالية للغاية.
ما مدى البساطة الذي بدا عليه العالَم؟
نحن الآن على مشارف نهاية رحلتنا في تتبُّع آثار شفرة أوكام منذ العالم العصرأوسطي وحتى العالم الحديث. حتى الآن، أخذنا قيمة الشفرة على محمل الثقة. لكن هذه الثقة كانت في محلِّها. إذ وضع علماءُ عظامٌ أمثال كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو وبويل ونيوتن وداروين ووالاس ومندل وأينشتاين ونويثر وفايل وآخرين كُثُر ثقتَهم في البساطة، وأتى ذلك بثماره من خلال رؤًى جديدة مذهلة وإنجازات وكونٍ أكثرَ بساطة مما كان يُتخيَّل سابقًا. لكن الشفرة لا تضمن مثل ذلك.
كما أكَّدت مرارًا وتكرارًا، يمكن للكون أن يكون معقَّدًا بقدرِ ما يشتهي، وستكون الشفرة مفيدة دائمًا. فشرطها الذي ينص على «لا شيء يجب أن يفوق الضرورة» يرخِّص لنا أن نضيف أيَّ قدرٍ من التعقيد نحتاج إليه ما دُمنا لا نتخطَّى به نطاقَها. ومع ذلك، كانت الحلول التي اكتشفها العلماء العظام تزيح دومًا الستارَ عن عالمٍ أبسط. لا يلزم أن تنطبق القوانين نفسها في السماء وفي الأرض. كان بالإمكان أن تُصبح قوتا الجذب المغناطيسي والكهرباء قوتين مختلفتين تمامًا؛ ولربما ما كان للضوء علاقة بأي منهما. لم تكن البساطة مسلَّمًا بها، بل كانت تُكتشف أو تتبيَّن. لا تضمن الشفرة أن العالَم سيكون بسيطًا، لكن تبيَّن أن العالم كذلك في كل الأحوال تقريبًا. فلماذا؟
لم يمكن لفيجنر تفسيرُ سببِ جدوى الرياضيات بهذا الشكل، لكنه خلَص إلى أن «ملاءمة لغة الرياضيات في صياغة قوانين الفيزياء هِبةٌ مدهشة لا نفهمها ولا نستحقها». وكما اكتشفنا، فإن الرياضيات هي أيضًا الأداةُ التي نكتشف بها البساطة؛ لذا فإن مصدر «الهِبة المدهشة» التي يتحدَّث عنها فيجنر هي البساطة بحسب ما أعتقد.
في الفصل الأخير من هذا الكتاب سنستكشف نظريةً مذهلة قد تمثِّل تفسيرًا ﻟ «الفاعلية غير المعقولة» لشفرة أوكام. وقبل أن نذهب إلى ذلك نحن بحاجة أولًا لإمعان النظر في كيفية عمل شفرة أوكام؛ ولهذا علينا أن نعود بالزمن بضعة قرون لنلتقي بكاهن بروتستانتي له اهتمام بالألعاب.
هوامش
-
(١)
ينطبق المبدأ بالطبع على عدم اليقين المشترك لأزواج القياسات التكميلية، كالموقع والزخم أو الطاقة والزمان.
-
(٢)
٦٫٦٢٦ × ١٠ -٣٤ م٢ كجم/ثانية.
-
(٣)
صندوق شفَّاف مملوء ببخار يتكثَّف حول مسارات الجسيمات ما يجعلها مرئية.
-
(٤)
لسنا متأكدين أن أرسطو أخذ تلاميذه في جولات؛ حيث يشير المصطلح إلى الممرات المغطاة لمدرسة الليسيوم الخاصة به. لكني واثق من أنه لا بد فَعل.
-
(٥)
جميعها من جزيرة سولاوسي (التي أطلق عليها ألفريد راسل والاس سيلايبس) أو مياهها المحيطة.