آلية عمل الشفرة
القاعدة العامة التي تلهم كلَّ التفلسف العلمي … [هي] «شفرة أوكام»: لا ينبغي الإكثارُ من الكيانات لما يتجاوز الضروري.
في أبريل من عام ١٧٦١، أي بعد موت إسحاق نيوتن بأربع وثلاثين سنة، وقبل مولد ألبرت أينشتاين بمائة وثماني عشرة سنة، اطَّلع ريتشارد برايس (١٧٢٣–١٧٩١) — الكاهن البروتستانتي المنشق والفيلسوف الأخلاقي وعالِم الرياضيات — على الأوراق البحثية غيرِ المنشورة لصديقه عالِم الرياضيات المتوفَّى حديثًا توماس بايز (١٧٠٢–١٧٦١). كان بايز عالِمًا متواضعَ النجاح. قبل ذلك بثلاثين سنة، كان قد هُرع للدفاع عن منهج إسحاق نيوتن الرياضي المعروف باسم حساب التفاضل والتكامل، الذي تعرَّض لهجوم في مقال موجَّه إلى «عالِم رياضيات كافر» على يد الفيلسوف الأيرلندي والأسقف الروماني الكاثوليكي جورج بيركلي الذي خشي أن علم نيوتن الميكانيكي سيقوِّض من العقيدة الدينية. وردًّا على ذلك، لم يقدِّم بايز في عمله بعنوان «مقدمة إلى التدفُّقات» الذي كتبه في عام ١٧٣٦، دفاعًا عن نيوتن فحسب، بل هاجم أيضًا دفاع بيركلي، محاججًا بأنه «كان من الخطأ تمامًا إقحامُ الدِّين في هذا الجدال من الأساس». ورغم كونه كاهنًا مشيخيًّا، ذهب بايز إلى القول: «سأنظر الآن إلى الموضوع بعد تجريده من كل علاقة له بالدِّين وكمجرد أمرٍ من أمور العلوم الإنسانية». بحلول ذلك الوقت، فصل على الأقل العلوم المادية عن الدين، الذي بدأه ويليام الأوكامي قبل أربعة قرون، كان قد قارب على التمام.
وبين أوراق بايز البحثية كان ثمَّة ورقةٌ وجد برايس أنها مثيرة للاهتمام والحيرة على حد سواء. كانت الورقة بعنوان «مقال من أجل حل مشكلة في مذهب الاحتمالات». الاحتمال — أو الأرجحية — كان موضوعًا مثيرًا للجدل في القرن الثامن عشر؛ حيث جمع مجال التأمين في إنجلترا واسكتلندا ثروةً طائلة من قدرتها على وضع سعر لاحتمالية الوفاة أو غرق السفن، أو التعرُّض للتلف أو الإصابة بالمرض أو الجروح أو أي بليَّة. كان العديد من أقارب برايس خبراءَ في التأمين، وبعد عشر سنين كان سيكتب كتابَه عن المناهج الإحصائية للحسابات التأمينية. لكن في العام ١٧٦١، لم يكن قد رأى من قبلُ قط شيئًا أشبهَ بالإحصاء الذي ورد ذِكره في ورقة بايز.
لم يكن الموقَّر توماس بايز واعظًا شهيرًا على وجه الخصوص في «ملتقى الحمقى»، لكنه رسَّخ لسمعةٍ له كعالِم، بل قد دُعيَ حتى لشرح وبرهنة ذوبان الثلج ﻟ «ثلاثة من السكان الأصليِّين من جزر الهند الشرقية» الذين زاروا المدينة في العام ١٧٤٠. وعلى الأرجح أن انتخابه لعضوية الجمعية الملكية في ١٧٤٢ كان بسبب دفاعه عن تفاضل وتكامل نيوتن، إلا أنه لم ينشر مزيدًا من الأعمال الرياضية قبل وفاته في العام ١٧٦١. مِن ثَمَّ كانت ورقة بايز عن الاحتمالات مفاجأةً مذهلة لصديقه ريتشارد برايس. وقد رتَّب لقراءة الورقة في اجتماع للجمعية الملكية بعد وفاة بايز بعامين، ثم بعد ذلك طباعتها.
شفرة الاحتمال
يبدو أن بايز أبدى أولَ اهتمام بالاحتمالات بعد قراءة عمل «رسالة في الطبيعة البشرية» للفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم. طرح هيوم ما أصبح يُعرف ﺑ «مشكلة الاستقراء» كنقد للمنهج العلمي المهيمن منذ عصر التنوير. وكما ذكرنا في الفصل العاشر، كان فرانسيس بيكون من روَّاد الاستقراء كوسيلة للوصول إلى استنتاجاتٍ موثوق فيها علميًّا من عدة ملاحظات. على سبيل المثال، من ملاحظة أن الشمس أشرقت كلَّ يوم في التاريخ البشري، قد نستخدم منهج الاستقراء لنزعم أن الشمس دائمًا ما تُشرق. أشار هيوم إلى أن هذا ليس مبنيًّا على أي منطق راسخ. فافتراض أن «الشمس دائمًا ما أشرقت في الصباح وستشرق غدًا» ليس مثبتًا أكثرَ من الافتراض أن «الشمس دائمًا ما أشرقت في الصباح ولن تشرق غدًا». كلا الافتراضين يتوافق مع كل الأدلة الموجودة، ولا يمكن التفريقُ بينهما لا على أساس منطقي ولا تجريبي. وقد شدَّد هيوم على أن منهج المنطق الاستقرائي هذا لا يقدِّم إلا احتمالات وليس قناعات.
قبِل بايز بحجَّة هيوم أن الاستقراء لا يمكن أن يقدِّم قناعاتٍ، لكنه كان واثقًا أنه يقدِّم احتمالات مفيدة برغم ذلك. فانطلق يحاول توفيرَ إطار رياضي راسخ لحَدْسه. باعتباره كاهنًا كنسيًّا، كان بايز على الأرجح منخرطًا في أحداث جمع أموال التبرُّعات، كالتومبولات أو اليانصيب، ومِن ثَمَّ فإنه يبدأ حجَّته بأن يطلب منَّا أن «نتخيَّل شخصًا حاضرًا في سَحب يانصيب، لا يعرف شيئًا عن نظامه ولا عن نسبة الفوارغ إلى الجوائز فيه». عند هذه المرحلة سيكون من الأسهل أن ندرك قيمةَ شفرة أوكام في الإحصاء البايزي إذا ما أبدلنا النردَ بالتومبولا. سنتخيَّل أن السيد برايس صديق بايز يملِك حجرَي نَردٍ. النَّرد الأول نَردٌ تقليدي له ستة أوجه، والثاني غير تقليدي وأكثر تعقيدًا وله ستون وجهًا. وسنتخيَّل كذلك أن السيد برايس يقنِع الموقَّر بايز أن يلعب لعبةً يلقي فيها من خلف ستارٍ أحدَ النَّردين ثم يقول رقمه. ثم بعد ذلك يطلب من الموقَّر بايز أن يخمِّن أي حجرَي النَّرد ألقى.
سينفِّذ بايز أيضًا العمليةَ الحسابية نفسها لفرضية حجر النَّرد ذي الستة الأوجه؛ حيث سيضرب قيمةَ الاحتمال المسبق وهو ٠٫٥ في أرجحية أن يأتي النَّرد بالعدد ٢٩. بالطبع نتيجة هذا هي صفر، حيث إن أي جانب من جوانبه لا يحوي العدد ٢٩. وحاصل ضرب أيِّ عدد في صفر يساوي صفرًا؛ لذا فإن الاحتمال اللاحق لأن يُظهر النَّرد ذو الستة الأوجه العدد ٢٩ هو صفر. وبمقارنة الاحتمالين اللاحقين ببعضهما، فإنه سيقسم الاحتمال المسبق لحجر النَّرد ذي الستين وجهًا وقيمته ٠٫٠٠٨ على الاحتمال اللاحق لحجر النَّرد ذي الستة الأوجه وقيمتها صفر. وحاصل قسمة أي عدد على صفر هو عدد لا متناهي؛ لذا فإن الاحتمال النسبي لأن يُظهر النَّرد ذو الستين وجهًا العدد ٢٩ — بالمقارنة مع النَّرد ذي الستة الأوجه — هو عدد لا نهائي. مِن ثَمَّ من المرجَّح أكثرَ بصورة لا نهائية أن يكون برايس قد ألقى حجر النَّرد ذا الستين وجهًا. هنا يفوز بايز.
قد يبدو أن مبرهنة بايز تزيد من تعقيد شيء بديهي وبسيط، لكن هذه اللعبة تُصبح مثيرةً أكثرَ في الجولة الثانية حين يختار برايس أحدَ حجري النَّرد سرًّا للمرة الثانية. يلقي برايس بحجر النَّرد ثم ينادي بالعدد ٥. أصبح الموقف الآن يحوي قدرًا من الالتباس؛ حيث إن العدد ٥ يمكن أن يظهر على أيٍّ من حجرَي النَّرد. فهل أرجحية كلٍّ منهما متساوية؟ لا يعتقد الموقَّر بايز ذلك، وقد صمَّم طرائقه الإحصائية ليتعاطى مع هذا النوع بالتحديد من مشاكل الاستقراء؛ حيث تتناسب اثنتان من الفرضيات أو النماذج أو العديد أو حتى عدد لا نهائي منها مع البيانات. فكيف تختار من بينها؟
لكن حين نكرِّر إجراءَ هذه العملية على فرضية حجر النَّرد ذي الستة الأوجه فإن أرجحية أن يأتي بالعدد ٥ تكون أعلى بكثير؛ حيث تساوي ١/٦ أو ٠٫١٦. السبب في هذا بالطبع أن حجرَ النَّرد ذا الستة الأوجه أكثرُ بساطةً بمعنى أن هناك عددًا أقلَّ من الأعداد التي يمكن أن يأتي بها النَّرد. يضرب بايز الاحتمالَ المسبق لحجر النَّرد ذي الستة أوجه وقيمته ٠٫٥ في ٠٫١٦ ليحصل على احتمالٍ لاحق قيمته ٠٫٠٨. وهذا يساوي عشرة أضعاف الاحتمال اللاحق لحجر النَّرد ذي الستين وجهًا الأكثر تعقيدًا. لذا من المرجَّح أكثرَ بعشرة أضعاف أن يكون العدد ٥ ظهر على حجر النرد ذي الستة الأوجه منه على حجر النَّرد ذي الستين وجهًا. وعلى أساس مبادئه الإحصائية المبتكرة، سيقول بايز: «هذا حجر النَّرد ذو الستة الأوجه» وفي هذه الحالة يفوز ثانية.
إن شفرة أوكام بطريقة بايز هي وسيلةُ العلم في التعامل مع عددٍ وافر من النماذج التي تناسب برغم ذلك البيانات. تأمَّل قانون نيوتن الذي يرى أن «لكل فعلٍ رد فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه». لذا، حين تركل كرة قدم، فإن قوةَ حذائك (الفعل) على الكرة يقابلها قوةُ الكرة (ردُّ الفعل) على أصابع قدمك. هذا القانون البسيط يتماشى مع كل ركلة حدثت في كل مباراة من مباريات كرة القدم. لكنَّ هناك قانونًا آخرَ يتماشى بصورة مماثلة مع كل البيانات: «لكل فعلٍ رد فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، إضافة إلى عفريت صغير خفي يدفع الكرة لتضغط على حذائك». ثم تأتي فرضية ثالثة بها عفريتان ورابعة ربما كان بها عفريتان وملاك يقدِّمون عناصرَ مختلِفة من ردِّ فعلِ الكرة تجاه قوة حذائك، وهكذا حتى نصل إلى عددٍ لا نهائي من الفرضيات أو النماذج.
هذا المثال بسيط، لكن ليس بصورة تامة. فالأثير، وأفلاك التدوير عند بطليموس، والفلوجيستون، والمبدأ الحيوي، و«الروح العارفة» عند هنري مور، ومفهوم الخالق المقدَّس، والكهرباء والجذب المغناطيسي، والزمان والمكان، والجاذبية والتسارع، وكميَّات الطاقة التي تكون أصغر من أن يمكن قياسها، هذه كلها طرقٌ معقَّدة لتطوُّر فهمِ العالم. ولا يمكن إقصاء أيٍّ منها على أساس المنطق وحدَه، لكن يشدِّد العلم على أنه إن كان ثمَّة نموذجٌ أبسط متاحًا فينبغي تبنِّيه. ويقدِّم إحصاء بايز الأساسَ الإحصائي لهذا التفضيل ويلتزم بشفرة أوكام.
رغم ذلك، من المهم أن نتذكَّر أن تفضيلنا للحلول البسيطة هو تطوُّر حديث العهد في غالب الأمر. قبل ويليام الأوكامي، كان الرد القياسي تجاه مشكلةٍ ما هو إضافة المزيد من الكيانات عليها. كان ويليام الأوكامي هو أول مَن شدَّد على ضرورة الوصول لأبسط الحلول، وهذا مبدأ أصبح منذ ذلك الحين حجرَ الأساس في العلم والسمة المميِّزة للحداثة.
الحقيقة البسيطة
لهذا كان تحرير ويليام الأوكامي للرياضيات من أغلال عدم القابلية للتناسب وحالات حظر الانتقال (ارجع للفصل الخامس) مهمًّا جدًّا. فبعد مرور قرون على ذلك، سمح هذا لجاليليو ونيوتن بأن يقصُروا حركات الأجسام في السماء والأرض على مجموعة القواعد العددية البسيطة نفسها، والتي كانت ستُصبح مفهومةً لدى جامع الضرائب البابلي القديم، أو المنجِّم الذي من المايا، أو التاجر الأفريقي. إن الرياضيات تحلِّل المنطق إلى أبسطِ مجموعة ممكنة من القواعد، ومِن ثَمَّ ترفع العلم من كونه مجرَّد لعبةٍ أخرى حتى يصبح لغة عامة.
لكنَّ هناك فكرةً ما بعد حداثية أخرى حقيقية ومهمة بالنسبة إلى دور شفرة أوكام، رغم أنها لا تقودنا إلى المسار نفسه الذي سار عليه دعاةُ ما بعد الحداثة. إنهم يحاججون بأنه لا سبيل حقًّا لمعرفة الحقيقة. هذا شيء يُعدُّ صادمًا حتى للعلماء الذين يتعلَّمون بصفة عامة أن العلم هو مسيرة متواصلة نحو الحقيقة.
تخيَّل أن العلم كان قادرًا ذات يوم على الوصول إلى حالةٍ هانئة من المعرفة بكل شيء، أي «الحقيقة». كيف كنا لنعرف ذلك؟ معرفة الحقيقة المطْلقة تفترض سلفًا بعضَ الأساليب التي تمكِّن من استراق النظر من خلف الستار إلى الأدلة التي تقدِّمها حواسنا أو أدواتنا العلمية لرؤية العالَم «الحقيقي» عوضًا عن العالَم الذي نراه من خلال حواسنا أو أدواتنا العلمية. تفترض هذه المعرفة أن ثمَّة عالمًا تامًّا ومثاليًّا وقابلًا للمعرفة، عالَمًا من المُثل الأفلاطونية الكاملة، وهي النظرة نفسها التي دحضها ويليام الأوكامي قبل قرون عديدة. إذا ما رفضنا هذه النظرةَ للعالَم كما فعل الأوكامي فإن علينا أن نعتمد عوضًا عن ذلك على مدخلاتنا الحسِّية وربما مجموعة متنوعة ولا نهائية من النماذج عن الكون والتي يمكن أن تناسب هذه البيانات وتشرح موضعنا فيها.
إلا أن هذا لا يعني أن كل النماذج متساوية — كما يحاجج دعاةُ ما بعد الحداثة. فحين نرسم خريطة البروج، لا يراجِع المنجِّمون اعتباراتِ حالة المعبود مارس المزاجية أو عادات جوبيتر الشهوانية. بل يذهبون عوضًا عن ذلك إلى جداول الكواكب المبنية على نموذج كيبلر البسيط عن النظام الشمسي. والمؤمنون بالخوارق ينظِّمون اجتماعاتهم بالهواتف والبريد الإلكتروني، وليس بالتخاطر؛ وإن كانت اجتماعاتهم تُعقد في بلدانٍ بعيدة فإنهم يسافرون بالطائرة وليس بالتحليق في الهواء. قد يكون العلم لعبةً لغوية أو نموذجًا، لكن على عكس الغالبية العظمى من النماذج، من الخيمياء إلى فلسفة فنج شوي والطب التجانسي ومنشورات دعاةِ ما بعد الحداثة التي ترفض العلم ويتعذَّر فهمُها، فإن النماذج العلمية تعمل في واقع الأمر؛ لأنها بسيطة، ومِن ثَمَّ تقدِّم تنبؤات دقيقة.
العلم هو البساطة
تقريبًا كل العلوم، بل كل معرفتنا بالعالم من حولنا في واقع الأمر، مبنيان على منطق بايز المطبَّق على الاستقراء. وكما يشدِّد دعاةُ ما بعد الحداثة، فإن الدليل القائم على ألف ملاحظة لشروق الشمس لا يقدِّم لنا أيَّ يقين، لكنه يقدِّم لنا أرجحيةً كبيرة بأن أبسط الفرضيات — أن الشمس ستشرق غدًا — سيتبيَّن أنها صحيحة. فالاحتمال — عوضًا عن اليقين — كافٍ بالنسبة إلى العلم، وهو جوهر العلم الحديث. فالخيميائيون يجرِّبون، والمنجِّمون يحسبون، لكنهم لا يشدِّدون، لا هم ولا آلافٌ آخرون من الصوفيِّين أو الفلاسفة أو الكهنة، على قبول أبسط الحلول فحسب لأنها أيضًا الأعلى احتمالية.
بالطبع لا يرتكز العلم على البساطة فحسب. فالتجريب والمنطق والرياضيات والقابلية للتكرار والقابلية للتحقق، وكذا القابلية للدحض، تلعب جميعُها أدوارًا أساسية. كان الفيلسوف كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤) مهتمًّا بآخرِ هذه الأمور — وهي القابلية للدحض — وهي على الأرجح المعيار الأكثر استشهادًا به للتفريق بين العلم والعلم الزائف. إلا أنها لا تقدِّم ضمانًا للعلم لأن إثبات خطأ نظريةٍ ما مستحيل بقدر إثبات صحَّتها. ويعرف أيُّ عالِم تجريبي أنه حين يجري تجربة تقدِّم نتيجةً مختلفة عن تنبؤاته أنه لن يُهرع ليعلن أن نظريته المفضَّلة قد ثبَت خطؤها. بل عوضًا عن ذلك سيلفِّق أسبابًا تفسِّر ملاحظته البيانات المناقضة، وذلك عن طريق إضافة المزيد من التعقيد. وقد رأينا هذه العملية عمليًّا — في الفصل الثاني عشر — حين ابتكر أتباع الفلوجيستون أو السيال الحراري كيانات جديدة — كالوزن السالب — عوضًا عن هجرهم لنظرياتهم. ودعاة نظرية الخلق متمرِّسون في ابتكار تعقيدات غيرِ معقولة لكنها غير قابلة للدحض، والتي من شأنها أن تفسِّر حقائقَ كالسجل الحفري.
شفرة الجيب
إذا ما طبَّقنا هذه الشفرة على نموذجَي مسارات الكواكب، فإن تفسير مساراتها بوضع الشمس في مركز النموذج سيتطلب — لنفترض — خمسين كلمة. وتفسير المسارات نفسها بوضع الأرض في المركز ونصب كل أفلاك التدوير تلك في السماء سيتطلب — في تقديرٍ متحفِّظ — مائةَ كلمة على الأقل. طبقًا لحاسبة الجيب الخاصة بي، تقترح شفرة الجيب الخاصة بنا أن النظام المركزي الشمس تزيد أرجحيته بمقدار ٢٧٠، أو ما يقارب مليون مليار، ضِعف مقارنةً بالنظام المركزي الأرض.
حاول تطبيق شفرة جيب أوكام على سجالات أخرى عرَّجنا عليها في هذا الكتاب، كتفسير أصحاب نظرية الخلق في مقابل تفسير دعاة الانتقاء الطبيعي للحفريات أو «الأحجار المصوَّرة». من المفيد أيضًا اختبار حد هذه الشفرة على علاجات العلم الزائف كالطب التجانسي أو التداوي بالبلور، مع توضيح جدواها في مقابل عدم جدواها. ويُعَد الاحتباس الحراري وأسبابه المرجَّحة مشحذًا مثيرًا آخرَ قد ترغب في شحذ شفرة الجيب عليه.
أخيرًا، أريد أن أذكِّرك بأن شفرة أوكام — في حد ذاتها — لا تقدِّم أيَّ زعم حول بساطة الكون أو تعقيده. بل تحثُّنا عوضًا عن ذلك على اختيار أبسط النماذج التي يمكن لها أن تتنبأ بالبيانات. يمكننا أن نطلق على هذا الشكل من مبدأ البساطة اسم شفرة أوكام الضعيفة. إلا أن كثيرًا من العلماء — وبخاصة الفيزيائيون منهم — يَقبلون ما يُمكن أن يُطلق عليه شفرة أوكام القوية التي تزعم أن الكون بسيط بقدرِ ما يمكن له أن يكون، بالنظر إلى وجودنا.
هوامش
-
(١)
مبرهنة بايز لحساب الاحتمال اللاحق في شكلها الكامل تتضمَّن ضربَ الاحتمال المسبق في قيمة الأرجحية المقسومة على احتمال الملاحظة، بغض النظر عن النظرية. وقد حذفتُ خطوةَ القسمة لأنها موجودة وحسب من أجل تطبيع قيمة الاحتمالات اللاحقة بحيث تبلغ دومًا بحدٍّ أقصى ١. وقد افترضنا أن كلتا فرضيتَي حجري النَّرد متساوية في الأرجحية؛ لذا فإن خطوة القسمة ليست ضرورية في هذه الحالة.