ما مدى بساطة الحقوق؟
ويليام الأوكامي عملاقٌ في تاريخ الفكر. كما أنه أحدُ أبرز الشخصيات في التطوُّر المبكِّر لنظرية الحقوق الطبيعية.
لم يكن ويليام هو الراهب الفرنسيسكاني المارقَ الوحيدَ الذي يقيم في مدينة أفينيون في عشرينيات القرن الرابع عشر. فممثل الرهبنة في البلاط البابوي، بوناجراتيا من برجامو، كان مسجونًا في سِجن البابا. وكان كاهنها العام، ميكيله من تشيزينا، قد وصل حديثًا أيضًا إلى المدينة ووُضع تحت الإقامة الجبرية كما حدث مع ويليام. وفي غضون شهور، عُزل الثلاثة كنَسيًّا وأُجبروا على الفِرار. والمسألة التي جرَّت إليهما كلَّ هذا العناء الشديد هي جدال شرس بشأنِ ما إن كان المسيح يملك كيس نقود.
وكما هو الحال على ما يبدو بالنسبة إلى كل الجدالات التافهة التي وقعت في العصور الوسطى، كانت المسألة الحقيقية أعمقَ بكثير من أي شك بشأن امتلاك المسيح مالًا. إذ كانت معنيةً بالعلاقة بين الكنيسة التي يمثِّلها المسيح، والدولة التي يمثِّلها كيسُ نقوده. ويمكن أن نتتبَّع أصول الجدال إلى المسيحيِّين الأوائل. إذ أخذ الكثيرون بإصرار المسيح على «أن ولوج الجملِ سَمَّ الخِياط أسهلُ من ولوجِ غنيٍّ ملكوتِ الرب» وكذلك نصيحته «بِع كلَّ ما لك وأعطِ الفقراء» بمعناهما الحرفيَّين. فتبنَّوا أسلوبَ حياة الفقر الرسولي التي تضاهي حياة المسيح ورسله بأن هجروا المال والأملاك ليعيشوا وعَّاظًا متجولين، معتمدين فقط على الاستجداء أو الإحسان من الغير من أجل الحصول على المأوى وحدِّ الكفاف.
وقد سلكت الكنيسةُ الرومانية مسارًا غايةً في الاختلاف. فبعد أن قبِل الإمبراطور قسطنطين بالمسيحية ديانةً رسمية للإمبراطورية، أصبحت الكنيسة المسيحية مرتبطةً بالدولة الرومانية على نحوٍ وثيق. ضعفُت هذه العلاقة بين الكنيسة والدولة بسقوط روما، وأُعيد تأسيسها عام ٨٠٠ ميلاديًّا حين توَّج البابا ليو الثالث الإمبراطور شارلمان إمبراطورًا رومانيًّا مقدَّسًا يوم عيد الميلاد في روما. ومن بعد ذلك، أتى ملوكُ وأباطرة غرب أوروبا إلى روما ليتوَّجوا على يد البابا، مما زاد من خضوع ممالك وإمبراطوريات غرب أوروبا وكذلك نظامهما الإقطاعي، لسلطة الكنيسة الكاثوليكية.
مسكين ومتدين ومهرطق
في القرن السابق لمحاكمة ويليام، انبثق العديد من الجماعات المسيحية المارقة التي هاجم أعضاؤها بذخَ الكنيسة، رافضين الارتباطَ بالدولة ومعتنقين مبدأَ الفقر الرسولي. من بين هؤلاء كان الهيوملياتيون في إيطاليا، والوالدنسيون في ألمانيا، والكاثار في منطقة لانجدوك بفرنسا.
في عموم الأمر كان للكنيسة سلوكٌ متساهلٌ تجاه النُّساك الغريبي الأطوار. لكن بالإضافة إلى التخلي عن ثروته، هاجم جيرارد ثروةَ الكنيسة. وأصرَّ أيضًا على أن الكنيسة لا تملك امتياز الوصول إلى الفردوس، وهكذا فإن صكوك الغفران (التي تعني في الأساس إجازةً من الجحيم في مقابل التبرُّع للكنيسة)، وكذلك ضرائب الكنيسة والمعروفة باسم العشور، كانت ابتزازًا من جانب الكهنوتيِّين. وكما هو متوقَّع، أعلن البابا أن هذه الآراء بدعٌ وهرطقات وفي عام ١٣٠٠، أي قبل وصول ويليام إلى أفينيون بأربعة وعشرين عامًا، أُحرِق عدة رسوليِّين، من بينهم سيجاريلي، على الوتد في بارما.
اليوم يبدو كلُّ هذا غيرَ ضارٍّ، لكن برفضهم قبولَ المفاهيم الراسخة للملكية والسيادة الإقطاعية والسلطة، كان الدولسينيانس ينصِّبون أنفسهم بوضوحٍ ضد الدولة الإقطاعية وكذلك الكنيسة. في عام ١٣٠٥، شن البابا كليمنت الخامس حملةً عنيفةً ضد هذه الجماعة. ووعد بصكوك الغفران إلى الجنود المحليِّين؛ الأمر الذي حضَّهم على مهاجمة المتمردِين، فدمَّروا مستوطناتهم وطاردوهم عبْر شمالي إيطاليا.
وردًّا منهم على ذلك، أصبح الدولسينيانس أكثرَ عنفًا، فأخذوا يغِيرون على القرى والأديرة ليسرقوا الطعام والأموال والملابس. وفي مارس من عام ١٣٠٦ أنشئوا معسكرًا حصينًا على قمةِ جبل يُعرف باسم جبل زبيلو أو الجبل الأصلع بإقليم بييمونتي. وقد صدُّوا أولَ هجوم عليهم بنجاح؛ لذا ركَن الأسقف إلى محاصرةِ الجبل ليحمل المجموعةَ المحاصَرة على الاستسلام بسبب الجوع. ونجحت تلك الاستراتيجية؛ حيث أُجبِر الدولسينيانس الضِّعاف الذين يتضورون جوعًا في النهاية على الخروج من معقلِهم الجبلي، مما جعلهم أهدافًا سهلةً للمهاجمين الذين يبتغون الفوزَ بصكوك الغفران. وفي غضون ذلك، أسرَ الجنودُ فرا دولتشينو ومارجريت من ترينت.
كانت محاكمتهما في مدينةِ فيرتشيلي بإقليم بييمونتي سريعة. وقد سُحر العديدُ من النبلاء والسادة بما تتمتَّع به مارجريت من جمالٍ حتى إنهم عرضوا عليها الزواجَ منها إن تراجعت عن معتقداتها. رفضت هي ذلك فحُكِم عليها بأن تُحرق على الوتد، وأُجبر فرا دولتشينو على مشاهدتها وهي تُحرق قبل أن يُعذَّب ثم يُحرق على الوتد هو نفسه.
كيس النقود المقدَّس
لكن لم يتم التخلُّص من جماعة الفراتيشيلي كليًّا. ففي عام ١٣٢١، وحين كان ويليام يلقي محاضراتٍ في أكسفورد، أُلقي القبض على مجموعة كبيرة منها في ناربون وبيزييه جنوبي فرنسا بتهمةِ الوعظ بشأن تعارُض الثروة مع القداسة. بحلول ذلك الوقت كان خليفة البابا كليمنت — وهو جون الثاني والعشرون — قد أصبح بابا بالفعل، وكان أقلَّ تعاطفًا بكثير تجاه الرهبان الفرنسيسكان. فأمر ميكيله من تشيزينا الكاهنَ العامَّ المنتخَبَ حديثًا لرهبنة الفرنسيسكان أن يستجوب اثنين وستين شخصًا من رهبان الفراتيشيلي، فيسأل كلًّا منهم عن رأيه فيما إن كان المسيح يملِك كيسَ نقود أم لا.
حين أُجبِروا على الإجابة عن سؤال البابا جون الثاني والعشرين الملغوم، تراجع معظم هؤلاء الرهبان الفرنسيسكان المتمردين وسلَّموا بأن المسيح كان يملِك كيسَ نقود. وقد أُرسِلوا إلى مسقطِ رأسهم ليتبرءُوا على الملأ من آرائهم. وسُلِّم الخمسة والعشرون الذين لم يسلِّموا بذلك إلى المحقِّق الذي أقنع واحدًا وعشرين آخرين منهم بالارتداد عن آرائهم — ولكننا لا نعرف كيف حدث ذلك. أما رهبان الفراتيشيلي الأربعة المتبقون فأُحرقوا على الوتد، وعلى الأرجح أن ميكيله من تشيزينا شاهدهم أثناء ذلك.
لكن لم تكن هذه هي نهاية الأمور. ففي الثاني عشر من نوفمبر لعام ١٣٢٣، صعَّب البابا جون الثاني والعشرون على رهبان الفرنسيسكان أكثرَ بأن أصدرَ مرسومًا بابويًّا أعلن فيه أن العقيدةَ القائلة بأن المسيح ورسله لم يملكوا شيئًا هي عقيدة «خاطئة ومبتدَعة». كما ألغى أيضًا مرسومَ البابا نيكولاس الثالث السابق الذكر الذي قبِل فيه بملكية الرهبنة للأديرة بالنيابة عن البابوية. وأصرَّ جون على أنه ينبغي للفرنسيسكان منذ الآن وصاعدًا أن يقبَلوا بالملكية البابوية للأديرة وإلا فسيُعتبرون لصوصًا ومتعدِّين.
الهروب من أفينيون
عارضت بشدة أخطاء هذا البابا المزعوم …
في أواخر عام ١٣١٤، أي تقريبًا بحلول الوقت الذي وصل فيه ويليام إلى أفينيون، اجتمعت رهبنتُه المذعورة في مدينة بيروجا التي لم تكن تبعُد كثيرًا عن مدينة أسيزي الخاصة بالقديس فرنسيس في اجتماعٍ سري طارئ من أجل التفكيرِ في ردِّهم على هجوم البابا عليهم. وانتهى الاجتماع إلى كتابة خطاب يؤكِّد مبدأَ الفقر الرسولي. وكُلِّف محامي الرهبنة وهو بوناجراتيا من برجامو، بأخذِ الخطاب إلى مدينة أفينيون. وبعد أن وصل إلى المدينة البابوية وأوصل الخطاب انتقد البابا جون الثاني والعشرين علنًا. لا شكَّ أن ويليام الأوكامي شهد هذا الحدث. وقد ردَّ البابا بأنْ مارسَ سلطتَه وزجَّ بالمحامي في سِجن القصر. ثم استدعى ميكيله من تشيزينا إلى أفينيون.
لقد أقنعته نقاشاته مع ويليام بأن البابا لم يكن مخطئًا فحسب، وإنما أيضًا كان مهرطقًا. وبمساعدة أصدقاء لهم ذوي سلطة، دبَّر الرهبان الفرنسيسكان الثلاثة الخطةَ التي أوصلتهم إلى ميناء إيج-مورت؛ حيث هربوا من هناك في نهاية المطاف إلى حيث تركناهم في وقتٍ مبكِّر من هذا الكتاب. وبهروبهم، جعلوا موقفَهم أكثرَ خطورة عليهم. ولا شك أن «ذعرهم الشديد» حين كانوا على متن قادس جينتل قد نجم عن تذكُّر ميكيله من تشيزينا صراخَ زملائه الفرنسيسكان وهم يُحرَقون في ناربون وبيزييه.
بيزا، روما، ميونخ – الجولة الأوكامية
تقع تلك المدينة في العصر الحديث تجاه الداخل من البحر باثني عشر ميلًا، لكن في زمن الأوكامي كانت ساحلية وتمثِّل ميناءً رئيسيًّا لتجارة شمال البحر المتوسط البحرية. ومن بيزا، ارتحلت المجموعةُ إلى روما حيث كان لويس البافاري قد نصَّب نفسه بالفعل الإمبراطور الروماني المقدَّس، كما عيَّن راهبًا فرنسيسكانيًّا مغمورًا يُدعى بيترو راينالوتشي في منصب البابا، وجعل اسمه نيكولاس الخامس. وكان ردُّ غريمه في أفينيون وهو جون الثاني والعشرون، بأن أعلن حملةً عسكرية ضد لويس، مصرِّحًا بأن تنصيبه باطل وملغًى وحثَّ كلَّ الكاثوليكيِّين المؤمنين بحقٍّ أن يقاوموه.
وبحلول سبتمبر لعام ١٣٢٨ أصبح الرومان المتقلِّبون سئمين تمامًا من «الألمان» وسخِر الجميع من لويس؛ حيث ارتحلت حاشيته من روما وعادت إلى بيزا، وفي صحبتِهم كلٌّ من الرهبان الفرنسيسكان المتمردين والبابا نيكولاس الخامس. وفي أبريل من العام التالي رحل الإمبراطور الروماني المقدَّس نحو مقعده في ميونخ، وقد أخذ معه الرهبان الفرنسيسكان لكنه لم يأخذ البابا نيكولاس. فسار البابا المهجورُ طوالَ الطريق حتى أفينيون صاغرًا من أجل أن يتنازل عن لقبه ويطلب الغفران.
قضى ويليام الأوكامي وميكيله من تشيزينا بقيةَ أيامهما في حماية لويس، فعاشا معظمَ الوقت في ديرٍ فرنسيسكاني في ميونخ. واستمر الأوكامي وزميلاه في كتابة مقالاتٍ يشجبون فيها البابا جون وخلفاءه من الباباوات. وباعتباره هاربًا ومعزولًا من الكنيسة ومتهمًّا بالهرطقة، تحوَّلت كتابات ويليام في تلك الحِقبة من الفلسفة والعلم إلى الصراع الذي أجبره على الهروب من أفينيون والبقاء منفيًّا لبقية حياته.
الحقوق البسيطة
بالرغم من أن حقوق الإنسان ليست بالموضوع الذي يُطرح للنقاش في الكتب التي تتحدَّث عن العلم في غالب الأحيان، فإنها في اعتقادي ضروريةٌ لتحقيق التقدُّم العلمي شأنُها شأنُ الطرقِ التجريبية أو الرياضيات. من الواضح أن العلم كان ممكنًا في اقتصادات العبيد أو الديكتاتوريات — كما في اليونان القديمة، أو في المجتمعات الإقطاعية في أواخر العصور الوسطى بأوروبا والشرق الأوسط — لكنه اعتمد على الثروة أو الرعاية ومِن ثَمَّ كان مقصورًا على قلةٍ محظية وعُرضة لأهواء الرعاة الأثرياء ومتطلبات الدولة أو الكنيسة. ولكي يكون العلم تحوليًّا، هو في حاجة لقاعدةٍ أوسعَ ونوعٍ من أنواع الديمقراطية العلمية التي تلعب فيها السلطة والثروة دورًا ضئيلًا أو منعدمًا في المنافسة بين الأفكار. ولا يمكن أن يحدُث هذا إلا في المجتمعات التي تقدِّم لكل الأفراد الحقوقَ الجوهرية نفسها، بما في ذلك بالطبع الحقُّ في أن تكون مخطئًا.
لكن كان للفرنسيسكان وجهةُ نظر مختلِفة تمامًا. إذ أصرُّوا على أن المسيح تخلَّى عن ملكيَّة كل شيء، حين بدأ خِدمتَه، وذلك ليعيش حياةَ فقر تام. لذا، إن كان يملك كيسَ نقود، فلا بد أنه كان فارغًا حين أعطاه القديس بطرس. وطبقًا لما يدفعون به، فإن الكنيسةَ لم تكن تملِك حتى حقَّ مطالبةٍ شرعي بملكيَّة الكنائس أو الأراضي الخاصة بها أو أي شيء من الثروات الأخرى التي توجَد في العالم بالتأكيد. لكن، إن كان حقُّ المطالبة لدى الكنيسة بالسلطة على كل شيء هو خداعًا واحتيالًا، إذن فإن نفس الحق لدى الأباطرة والأمراء الذين عيَّنهم الباباوات هو خداعٌ واحتيال أيضًا. كانت مخاطرُ هذا الصراع كبيرة حقًّا.
لكن، وبعد التمتُّع بحالة الوجود الطبيعية المثالية خارج الجنة، وجد الصالحون من سلالة آدم وحواء أنَّ عليهم أن يتعاملوا مع أفرادٍ جشعين يستهلكون أكثرَ من حصتهم العادلة. ولكي يتعاطوا مع مثل هذا، أُجبروا على التوافق على ما كان يُعَد حصةً عادلة من الموارد العامة المشتركة. ومن هنا أتى مفهوم الملكيَّة الخاصة، ما نطلق عليه اليوم الملكيَّة. والأمر الأكثر أهمية، أن هذه الملكية أو السلطة لم تأتِ من الرب. بل كانت مفهومًا بشريًّا بالكامل مصمَّمًا لتجنُّب القلاقل والشقاق. في رأي الأوكامي، الملكية حقٌّ شخصي، اتفاق من نوعٍ ما تواجد فقط في عقول الناس الذين اختاروا أن يقبلوا به. وليس لها واقعٌ موضوعي أكثر من فكرة الأبوة. بل كانت مجرَّد كلمة أو فكرة.
وقد تقوِّض أسلوبَ الحياة الجمعي بفعل الأشخاص الجشعين الذين سرقوا من جيرانهم. ولكي يحموا أنفسهم من هذه السرقة الشخصية (بما أن الملكية شخصية فكذلك هي السرقة)، اتُّفِق على مجموعةٍ من القوانين التي شرَّعت كيف يمكن حماية الملكية الخاصة، مع ذكر العقوبات المناسبة لأولئك الذين يخرقون القوانين. ولكي يتم إنفاذ تلك القوانين، اتفقت المجتمعات على انتخاب حاكم مناسب، لربما هو الأقوى أو الأكثر حكمة بينهم، ليحمي ملكياتهم بقوة السلاح لو لزِم الأمر. وفي المقابل، يتلقى منفِّذ القانون حصةً أكبر من الموارد العامة المشتركة.
هوامش
-
(١)
دلت تلك العبارة التي أخذ يكرِّرها الأحدَب سلفاتور في رواية «اسم الوردة» التي كتبها أومبيرتو إيكو، على أنه عضو سابق من أعضاء جماعة الدولسينيانس.
-
(٢)
خليفة شارلمان الذي توِّج إمبراطورًا في عام ٨١٤ على يد البابا. في أواخر العصور الوسطى، كان حامل هذا اللقب عاهلًا يُنتخب من جانب لجنةٍ من الأمراء الناخبين. وكانت الإمبراطورية تحكم في الغالب الشعوبَ التي تتحدَّث الألمانية، إلا أن قوَّتها تعاظمت بمرور السنوات لتشتمل على أراضٍ أخرى كإيطاليا.
-
(٣)
يُدعى أيضًا لودفيج.