نقْلُ البساطةِ إلى الأجسام الأرضية
لاحظوا فضلًا أيها السادة، كيف أن الحقائق التي قد تبدو بعيدةَ الاحتمال للوهلة الأولى ستخلع عن نفسها بشيء ضئيل من التفسير الرداءَ الذي كان يخفيها وستتقدَّم في جمال بسيط مجرَّد.
يُقال عادةً إن بعض الأفكار تأتي في أوقاتها المناسبة. وقدرة الزجاج المنحني على تكبير صورة الأشياء أو تشويشها معروفة منذ العصور القديمة. إذ صنع الآشوريون والمصريون القدماء العدسات من الزجاج المصقول واستخدم اليونانيون والرومان كرات الزجاج المملوءة بالماء لتكبير الأشياء. وبحلول القرن الثالث عشر كانت عدسات من الزجاج المصنفر تُستخدم لصناعة النظارات. وقد طبَّق علماء من العالمَين الإسلامي والأوروبي — مثل ابن الهيثم وروجر بيكون — التجاربَ على خصائص الانكسار في العدسات الزجاجية. لكن، وعلى قدرِ ما ينتهي إليه عِلمنا، لم يفكِّر أحدٌ قبل بواكير القرن السابع عشر في الجمع بين العدسات لتكبير شيءٍ ما.
وتأتي جميع الروايات المبكِّرة من هولندا، مما يجعل أنه من المرجَّح أن يكون التلسكوب قد اختُرِع هناك، لكن الأنباء عن الاختراع انتشرت بسرعةٍ كبيرة بحيث أصبحت هوية المخترع الأصلي مبهمة. في نهاية المطاف منح البرلمان الهولندي براءة الاختراع إلى هانس ليبرهاي.
استوعبت القوى الأوروبية، ذلك أنها كانت في حالةِ حرب شبه دائمة، الميزةَ العسكريةَ المحتملة لأداةٍ يمكن لها أن تحدِّد الأشياء البعيدة التي يمكن أن تنطوي على تهديداتٍ محتملة كالسفن والقوات. وحين اختبر الأمير موريس التلسكوبَ الجديد في لاهاي، كان عدوُّه الأول — وهو القائد العام للقوات العسكرية لهولندا الإسبانية ماركيز أمبروجيو سبينولا — حاضرًا أيضًا. وبحلول عام ١٦٠٩، كانت الأنباء عن الاختراع قد انتشرت إلى بقيةِ الإمبراطورية الإسبانية. ويبدو أن الأرشدوق ألبرت النمساوي قد حصل على اثنين من التلسكوبات على الأقل في ربيع وشتاء العام نفسه. وفي خطابٍ له إلى الكاردينال شيبيوني بورجيزي — قريب البابا بول الخامس — وصف السفير البابوي في النمسا جويدو بينتيفوليو كم كان مسرورًا حين نظر عبْر تلسكوب الأرشدوق؛ ولم يطُل الوقت حتى ظهر تلسكوب في روما. وبعد عام أو اثنين فقط من اختراعه، كان التلسكوب لا يزال يُباع كتحفة لافتة للنظر أو من أجل تطبيقاته العسكرية. لكن، في وقتٍ ما في أواخر ربيع عام ١٦٠٩ أو بدايات صيفه، كان أستاذ الرياضيات الشاب في جامعة بادوفا ذو الاهتمامات في مجال البصريات، جاليليو جاليلي، يتفاخر بأنه صنع تلسكوبَه الخاص. حينها كان العالم على وشْك أن يتغيَّر.
يعدُّ جاليليو بحقٍّ أحدَ عمالقة العلم، مع أن ذلك يرجع إلى الأسباب الخاطئة في كثيرٍ من الأحيان. فلم يُثبِت جاليليو أن الأرض تتحرَّك، ولم يُلقِ بالأشياء من برج بيزا المائل. لكنه أتى على اكتشافين مهمَّين بصورة حاسمة. الأول أنه أوضح أن السماء تبدو كثيرًا كالأرض، ومِن ثَم فمن المرجَّح أن تحكمها القوانين نفسُها. وكان ثاني أكبر تبسيطاته هو برهنته على أن المنطق الرياضي الذي ثبَت نفعُه الشديد في عمل تنبؤات بحركات الأشياء في السماء ينطبق أيضًا على أجسام الأرض.
الرجل الذي نقل قوانين السماء إلى الأرض
وُلِد جاليليو جاليلي (١٥٦٤–١٦٤٢) في بيزا، وكان هو الأكبرَ من بين ستة أبناء للموسيقي والملحِّن فينتشنزو جاليلي. في عام ١٥٨٠، التحق بجامعة بيزا للدراسة للحصول على شهادةٍ في الطب، لكنه بعد أن حضر محاضرةً عن الرياضيات واكتسب افتتانًا بكل الأشياء الرياضية لازمه طوالَ حياته، تحوَّل جاليليو إلى دراسة العلوم الطبيعية. وأجبرته الصعوباتُ المادية العائلية على هجرِ دراسته قبل أن يحصُل على شهادته. وفي الأعوام التالية حاول أن يصبح كرياضي محترف، فسافر بين بيزا وفلورنسا وسيينا يدرِّس دروسًا خصوصية للطلاب أو في عدة مدارس. وحين كان في الثانية والعشرين من عمره فحسب، نشر أطروحةً صغيرة عن نوع جديد من ميزان استحقَّ عنه منصب رئيس قسم الرياضيات في جامعة بيزا عام ١٥٨٩.
وفي عام ١٥٩٢، شغل جاليليو منصبًا في جامعة بادوفا المرموقة أكثر؛ حيث درَّس الرياضيات والميكانيكا والفلك. وقد كتب في عام ١٥٩٧ إلى يوهانس كيبلر الذي كان قد رسَّخ لنفسه من فوره مكانةً مرموقة في طليعة النظام الكوبرنيكي، وذلك بنشره لكتابه «الغموض الكوني» في العام السابق. كان كيبلر قد أعطى نسختين لصديقٍ له سافر إلى إيطاليا، وشقَّت إحداها طريقها إلى بادوفا وجاليليو. كتب جاليليو لكيبلر يقول له إنه اتبع نهج كوبرنيكوس عدة سنوات، و«بهذه الفرضية تمكَّنت من تفسير الكثير من الظواهر الطبيعية التي تظلُّ غير قابلة للتفسير في ظل الفرضية الراهنة». وإلى يومنا هذا تظل هوية تلك الظواهر الطبيعية الكثيرة لغزًا.
حين مات والده في عام ١٦٠١، أصبح جاليليو ابن اﻟ ٣٧ ربيعًا كبيرَ أسرتِه، فكان مسئولًا عن إعالة أشقائه وشقيقاته الصغار. ورغم أنه لم يكن متزوجًا فإنه أنجب من عشيقته مارينا جامبا ثلاثة أطفال. وتسبَّبت أسرتُه الآخذة في النمو في زيادة العبء المالي عليه؛ لذا إلى جانب إلقائه المحاضرات في الجامعة وتدريسه الدروسَ الخاصة، سعى جاليليو لترسيخ مكانته كمستشار في الرياضيات وعلم الهندسة العسكرية والتحصينات.
تحوَّل انتباه جاليليو إلى حساب عدد المجاديف الأمثل للقادس، وتصميم مضخَّات صرف مطوَّرة. كما اخترع أيضًا فرجارًا تناسبيًّا محسَّنًا، وهو المكافئ من القرن السادس عشر للمسطرة الحاسبة، التي يستخدمها قباطنةُ المدفعية لحساب الزاوية الأمثل لإطلاق النار من المدافع، وكذلك المسَّاحين لقياس أبعاد المباني والتجَّار لحساب قيمة الفلورينات بالدوقيات، على سبيل المثال. وجَّهت اختراعات جاليليو إليه أنظارَ الأثرياء وذوي السلطة، من بينهم كريستينا اللورينية، زوجة دوق توسكانيا الأكبر فيرديناندو الأول، الذي اتخذ جاليليو في العام ١٦٠٠ معلِّمًا لابنها كوسيمو.
وفي مايو لعام ١٦٠٩، التقى جاليليو بصديقه الباحثِ وزميلِه الكوبرنيكي باولو ساربي (١٥٥٢–١٦٢٣). وعلى الرغم من أن ساربي كان عالمًا لاهوتيًّا، فإنه كان متشكِّكًا، وناقدًا بشدة للكنيسة الكاثوليكية، وداعمًا قويًّا لجمهورية البندقية. بحلول عام ١٦٠٩، كان قد نجا من محاولتَي اغتيال تسبَّبتا في جراحٍ كانت تكشف طِبقًا لكلام ساربي «أسلوبَ البابوية الرومانية». كما كان ساربي من أتباع المذهب الاسماني ومن المعجبين بويليام الأوكامي، مما يوضِّح أن أفكار ويليام الأوكامي ظلت متداولة في القرن السابع عشر باعتبارها جزءًا من الخلفية الفكرية لِما عُرف لاحقًا بالثورة العلمية.
وفي لقاء له مع جاليليو، شاركه ساربي خطابًا تسلَّمه من تلميذ سابق يُدعى جاك بادوفير، وصف فيه دهشته حين نظر في العدسة المكبِّرة التي ظهرت في باريس. وبهذه التفاصيل الشحيحة فقط، عاد جاليليو من فوره إلى بادوفا، وفي غضون أيام قليلة كان قد صمَّم تلسكوبه الخاص. كانت أداته الأولى تكبِّر الأشياءَ بمقدار ثلاثة أضعاف فقط، وهذا أقلُّ من الأدوات الهولندية، لكن جاليليو بَرَع في تحسين اختراعات الآخرين؛ لذا لم يمرَّ وقتٌ طويل حتى أصبح يملِك أداةً بمقدورها تكبيرُ الأشياء بمقدار ثمانية أضعاف. ومما يثير الفضول أن نهجه يبدو أنه كان مبنيًّا بالكامل على التجربة والخطأ. إذ لم يتكشَّف مبدأ عمل التلسكوبات إلا على يد يوهانس كيبلر في كتابه القصير «علم انكسار الضوء» في عام ١٦١١.
وبحلول عام ١٦٠٩، كان جاليليو قد أبهر رئيسَ جمهورية البندقية بتلسكوبه المطوَّر بما يكفي لكي يتم تثبيته في منصبه بجامعة بادوفا مدى الحياة، وتلقَّى راتبًا سخيًّا قدرُه ألف دوقية كلَّ عام. وبمزيد من الدعم المادي من مسئولي البندقية، أنشأ جاليليو تلسكوبًا بإمكانه تكبيرُ الصورة بمقدار ثلاثين ضِعفًا. في ذلك الخريف، حوَّل جاليليو تلسكوبه إلى سماء الليل. ولكي يفعل ذلك، قدَّم جاليليو اختراعَين جديدَين. الأول هو حامل لتثبيت التلسكوب، والثاني هو قناع دائري يُثبَّت حول العدسة العينية لتقليل تأثير الهالة حول الأشياء المضيئة أمام خلفية مظلمة.
في ٧ يناير من عام ١٦١٠، أدار جاليليو تلسكوبه نحو الكواكب. على عكس النجوم، كانت أول ميزة خاصة بالكواكب أنها لم تَعُد تبدو كنقاط دقيقة مضيئة، بل كأقراص مضيئة معلَّقة في الفضاء، عدا كوكب زحل؛ حيث بدا أنه يملِك «آذانًا» غريبة. كان من الواضح أن الكواكب ليست مجرد نجوم سيارة، بل أجسام سماوية من نوع آخر. وكان أبرز ما فيها هو كوكب المشتري. إذ كشف تلسكوب جاليليو ثلاث نجوم ضئيلة لم تكن تدور حول الأرض ولا حول الشمس، بل حول كوكب المشتري. وخلَص جاليليو إلى أنه «لا شك أن ثمَّة ثلاثةَ نجوم في السماء تدور حول كوكب المشتري كما يدور كوكبا زحل وعطارد حول الشمس». أخيرًا أصبح ثمَّة دليلٌ على أن الأجسام التي في السماء لا تدور جميعًا حول الأرض، وذلك على عكس ما اعتقده أرسطو وكلُّ جهابذة الفلك الأوائل تقريبًا.
كانت تلك اكتشافاتٍ مذهلة. لم تكن السماء مأوى الآلهة والملائكة، بل عالمًا يشبه الأرض، كما تكهَّن ويليام الأوكامي قبل ذلك بنحو ثلاثمائة عام. دوَّن جاليليو ملاحظاته الفلكيةَ في كتابه القصير «رسالة فلكية». وفي وقتٍ متأخر من شهر يناير لعام ١٦١٠، هُرع جاليليو إلى البندقية ليجد دارَ نشرٍ لعمله. وكان الحديث عن اكتشافاته المذهلة قد سرََّبها بالفعل، وفي شهر فبراير — أي قبل طباعة الكتاب — تلقَّى جاليليو خطابًا من سكرتير الدوق الأكبر لتوسكانا يخبره فيه أن الدوق «مشدوه» من اكتشافاته. قامر جاليليو بتغيير اسم أقمار كوكب المشتري المكتشَفة حديثًا إلى اسم «أقمار ميديشي». وقد آتى ذلك بثماره. فطُبع كتابه يوم ١٣ من شهر مارس عام ١٦١٠، وبيعت كل النسخ البالغ عددها ٥٥٠ نسخة في الأسبوع الأول. سُرَّ كوزيمو الثاني دي ميديشي، وفي شهر مايو من العام نفسه، انتقل جاليليو إلى فلورنسا ليضطلع بمنصب فيلسوف الدوق وعالِم الرياضيات الخاص به.
لكن هل تتحرَّك الأرض؟
ومع هذا، كان ذلك العالَم أيضًا عالَمًا مربكًا بشدة للاهوتيين. إذ أين موضع الجحيم الآن وقد أصبحت الشمس هي مركز الكون؟ بل الأكثر أهمية من ذلك، أين الفردوس؟ كان القساوسة العصرأوسطيون يشيرون إلى السماء فقط ليطبعوا في أذهان مستمعيهم من المصلِّين قرب فردوس الرب منهم، ويشيرون إلى الأسفل ليشدِّدوا على أهمية تلافي الخلود في أعماق نار السعير. وكانت أهمية الكنيسة ترتكز على دعواها بأنها هادية البشرية بين هذين العالمين الخارقين للطبيعة. لكن حين لم يجِد تلسكوب جاليليو غير الصخور في السماء، اهتزَّت بشكل لا رجعة فيه سلطة الكنيسة باعتبارها مرشدًا روحيًّا.
ربما في محاولةٍ لدرء الجدل، يأتي كتاب «رسالة فلكية» على ذِكر كوبرنيكوس مرةً واحدة، ولم يقدِّم جاليليو من الأدلة على مركزية الشمس إلا الضعيف منها. أحد تلك الأدلة كانت أقمار ميديشي، لكن على الرغم من أن وجود تلك الأقمار مثير للدهشة، فإنه لا يثبت أن الأرض تتحرَّك. وكانت حجَّته الثانية هي وجود «ضوء الأرض»، وهو انعكاسات أشعة الشمس التي تضيء الجانب المظلم من القمر. لكن على الرغم من أن أدلته تلك تشير إلى أن الأرض بالفعل جسم سماوي كمثل أي جسم سماوي آخر، فإنها لم تثبت أنها تتحرَّك.
تسوية نتوءات العالَم الحقيقي
بغض النظر عن ملاحظات جاليليو، في القرن السابع عشر كان ثمَّة اختلاف كبير بين الأجسام السماوية والأرضية. وبينما يمكن التعبير عن حركة الأجسام السماوية من خلال قوانين رياضية مثل قوانين كيبلر، كان قانون الحركة الوحيد الخاص بالأجسام الأرضية هو مبرهنة متوسط السرعة الخاصة بحَسَبة ميرتون والتي تعود إلى القرن الرابع عشر.
آمن جاليليو أن «[الكون] مكتوب بلغة رياضية». كان من السهل القيامُ بذلك فيما يتعلق بالسماء، لكن على الأرض كانت الأشياء تتحرَّك في الغالب بطرقٍ غير قياسية بحيث بدا أنها غير محكومة بقوانين. بل إن مبرهنة متوسط السرعة حتى لم تكن صحيحة إلا نظريًّا. ومع ذلك كان جاليليو مقتنعًا أن حركة الأجسام الأرضية محكومة بقوانين رياضية كتلك الخاصة بالأجسام التي في السماء، وذلك رغم ما تقدِّمه حواسه من شواهد، لكن مبادئ تلك القوانين خفيَّة خلف نتوءات العالم الأرضي. وفي حركة ثورية أكثر، شرع جاليليو في إثبات حدْسه ذلك من خلال التجريب.
لم يكن التجريب جديدًا بالكلية. إذ أجرى أرشميدس من قبلُ تجاربَ شهيرة على الروافع وعلى قابلية الطفو. كما أجرى عالِم الفيزياء والفلك والرياضيات العربي ابن الهيثم (٩٦٥–١٠٣٩) تجاربَ بصرية كما ذكر في عمله «كتاب المناظر». وفي كتابه «حول المغناطيس»، وصف الفيلسوف الإنجليزي ويليام جيلبيرت (١٥٤٤–١٦٠٣) مجموعةً من التجارب التي أجراها على أحجار المغناطيس وعلى الكهرمان، وذلك قبل عقود من جاليليو. لكن التجارب الأولى كانت قائمة على الملاحظة بشكل كبير: ملاحظة انعكاس شعاع ضوء على مرآة أو ملاحظة حجر مغناطيس يجذب إبرة. ما جعل النهج الذي اتبعه جاليليو ثوريًّا إلى هذا الحد هو دقته في تصميم بيئة التجربة والتعامل معها من أجل كشف النقاب عن عوامل الانتظام الخفي لحركات الأجسام الأرضية. ولهذا السبب يُعرف جاليليو غالبًا بأبي العلم التجريبي الحديث.
بدأ جاليليو حوالي عام ١٦٠٤ — حين كان في الأربعين من عمره — تجاربَ تقيس سرعة السقوط. وكانت المشكلة التي تواجهه هي أن معظم الأجسام تسقط بسرعة كبيرة بحيث لا يتسنَّى له قياسها. فأتى بحل عبقري. فبدلًا من أن يسمح للأشياء بالسقوط بسرعة في الفضاء الحر، أبطأ جاليليو سرعتها بدحرجتها على مستوًى مائل مثبَّت إلى سطح طاولة. ثم ولكي يسوي نتوءات العالَم الأرضي، صقل الكرات المعدنية أو الخشبية بدقة كبيرة لكي يجعل منها كرات مدوَّرة بقدرِ ما يمكنه، ولكي يجعلها بأحجام متساوية. وحفر أخاديدَ في الألواح الخشبية ليحرص على أن تتدحرج الكرات بثبات وحفَّ الشقوق بورق مغطًّى بالشمع ليقلِّل الاحتكاك. ولكي يقيس الزمن، استخدم جاليليو في البداية نبضه، لكنه بعد ذلك ابتكر ساعةً مائية دقيقةً أكثرَ تنقِّط الماء، مستخدِمًا في ذلك ميزانًا حساسًا لقياس كمية الماء التي تخرج في كل وحدة زمن. وقد أجرى مئات التجارب وأوجد متوسطها ليكشف عن عوامل الانتظام التي تخفيها عوامل الاختلال أو «التشويش» في التجارب الفردية.
أغلِق على نفسك مع صديق لك في المقصورة الرئيسية أدنى سطح سفينة كبيرة، وخُذ معك ذبابًا وفراشات وحشرات طائرة صغيرة أخرى. وخُذ معك أيضًا وعاءً كبيرًا به ماء وبعض السمك؛ وعلِّق زجاجةً تُفرِغ الماء منها قطرةً بقطرة في وعاءٍ واسع تحتها. مع وقوف السفينة ساكنة، لاحِظ بدقةٍ كيف تطير الحشرات الصغيرة بسرعة متساوية نحو كل جوانب المقصورة. ويعوم السمك بلا اكتراث في جميع الاتجاهات؛ وتسقط قطرات الماء في الوعاء أسفل الزجاجة؛ وإذا ما أردتَ أن تلقي لصديقك بشيء، فلستَ بحاجة لأن تلقيه بقوة في أحد الاتجاهات دون الأخرى، كون المسافات متساوية؛ وإذا ما قفزتَ بقدميك معًا، فإنك تقطع مسافات متساوية في كل اتجاه تقفز فيه. عندما تلاحِظ كل هذه الحركات بدقة … اجعل السفينة تبحِر بأي سرعة تريد، ما دامت الحركة موحَّدة ولا تتذبذب بين السرعة الشديدة والبطيئة. لن تلاحظ أدنى تغيير في كلِّ ما ذكرت، ولن تستطيع أن تحكم من خلاله ما إن كانت السفينة تتحرَّك أم تقف ساكنة.
وهذا المبدأ يُعدُّ مثالًا رائعًا على قدرة القوانين الرياضية على التبسيط. تخيَّل الصعوبةَ التي تجدها في محاولة حساب كل الحركات المعقَّدة للأجسام الموجودة على سفينة جاليليو من منظور الشاطئ. كلُّ لوح خشب أو مسمار أو برغي أو حبل سيتحرَّك، ومِن ثَمَّ سيتطلَّب الأمر أن تكون له سرعة متجهة خاصة به. لكن إذا ما صعدت إلى متن السفينة فستجد أن كل شيء على السفينة تقريبًا ثابت، وهذا من إطار أبسط للقصور الذاتي. وحدَها الفراشات والسمك والأشخاص والأشرعة وما إلى ذلك هي ما تتحرَّك، ومِن ثَمَّ بحاجة لأن نجد لها أسبابها. وبتلخيص آلاف عديدة من أشكال الحركة في حَفنة قليلة منها، يصبح فهمنا للعالم أكثرَ بساطة وسهولة.
في عمله بعنوان «محادثات وإثباتات رياضية متعلقتَين بعلمَين جديدَين»، كان العِلمان الجديدان اللذان يقصدهما جاليليو هما عِلم السكون أو الاستاتيكا — وهو عِلم تحمُّل المواد للضغط — وعِلم الحركة أو ما نطلق عليه اليوم الكينماتيكا. عرض هذا الكتاب قانون القصور الذاتي، وقانون سقوط الأجسام ووصفَه لحركة المقذوفات التي تتخذ شكل القطع المكافئ. وبصفة عامة يُعَد هذا الكتاب أحدَ أهم الكتب في تاريخ الفيزياء بأكمله.
على الرغم من — بل قد يكون بسبب — إقامته الجبرية في منزله بمدينة آرتشتري بعد محاكمته، استمرت شهرة جاليليو في النمو في سنواته الأخيرة. وقد زاره العديد من طلابه السابقين من بينهم إيفانجليستا تورتشيللي الذي اخترع البارومتر أو مقياس الضغط الجوي فيما بعد. وصل تورتشيللي حين كان جاليليو يعاني الحمى وخفقان القلب وظلَّ مع العالِم الجليل حتى مات في يوم ٨ من شهر يناير لعام ١٦٤٢. في ذلك الوقت كان ثمَّة عالِم صاعد آخر في آرتشتري وهو روبرت بويل، يأمُل في زيارة جاليليو. لكن للأسف، وصل في يوم ٩ من شهر يناير فكان متأخرًا بيوم واحد.