الفصل العاشر
رزقت صحبة طالب آخر في الأزهر من «شبين الكوم» ولا أذكر كيف تعرفت به، وكان يكبرني بخمس سنين أو ست. وكان رحمه الله بديًنا مستدير الوجه طيب القلب مرحاً في أدب، تزوج وترك زوجته وابنه في بلده وحضر إلى الأزهر يطلب العلم، وخلف أهله لأبيه ينفق عليهم كما ينفق عليه مع قلة دخله وضعف حاله.
كان هذا الطالب قد مر بالمرحلة الأولى الشاقة التي أمر بها ومرن على الطريقة الأزهرية ولقلقتها وفيهقتها.
وكان مستنير الذهن لم يعبأ بما يقوله شيوخ الأزهر في الشيخ محمد عبده من رمي بالزندقة والإلحاد، فكان يحضر دروسه في تفسير القرآن ويسمع منه كتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وكثيراً ما ألح علي أن أحضر دروس الشيخ معه فآبى، استصغاراً لعقلي مع عظم دروسه، ولأن ذلك يضطرني أن أبقى في الأزهري إلى ما بعد العشاء. إذ كانت دروس الشيخ تبتدئ بعد صلاة المغرب وتستمر إلى آذان العشاء، وأخيراً تغلب علي وشوقني إلى دروسه بما كان ينقل إلى من آرائه. فحضرت درسين اثنين، فسمعت صوًتا جميلا ورأيت منه منظراً جليلا، وفهمت منه ما لم أفهم من شيوخي الأزهريين، وندمت على ما فاتني من التلمذة عليه، واعتزمت أن أتابع دروسه، ولكن كان هذان الدرسان هما آخر دروسه رحمه الله.
وكانت دروسه مملوءة بالفكاهات الظريفة. فمرة مثلا دخلت في الدرس فتاة صغيرة تريد أن تسر إلى أبيها كلاماً فجلست بجانبه، وكانت هذه الأيام حركة قاسم أمين. فقال الشيخ: إن هذه هي المرأة الجديدة. إذ كان قاسم أمين ألف كتاباً سماه «المرأة الجديدة». ومرة حضرت درساً للشيخ ولم أفهم بعض العبارات، وسألت صاحبي عنها فلم يفهمها فاتفقنا على أن نكتب له خطاباً، وكانت هذه عادة جارية، واخترنا أن نمضي الخطاب بحرف من اسمي وهو الميم وحرف من اسم صاحبي وهو الراء فجاء الشيخ بعد أن استلم الخطاب وقال: جاءني خطاب من شيخ اسمه «مر» أو مرٍ ولم يفهم، ثم أخذ يشرح ما غمض علينا في أدب ووضوح. وكان دائماً يلخص لنا ما ورد إليه من خطابات مهمة. وأذكر أنه أتاه خطاب يهدده بالقتل لأنه كافر ملحد، وبعد أن قص علينا القصة قال: «لتمنيت أن يكون هذا صحيحاً فيوم يشجع المصري ويقتلني، أكون فخوراً» ثم أنشد قول القائل:
إلى أنه كان من حين إلى حين يستطرد في شرح حال المسلمين واعوجاجهم وطريقه علاجهم.
كنا نجلس قبل الدروس نحضرها فيوضح لي صاحبي بعض ما غمض من الرموز والعبارات، فأستطيع أن أتابع الشيوخ فيما يقولون إلى حد ما.
ومرة جاء صاحبي هذا وفي يده جريدة «المؤيد» وأطلعني على إعلان بحاجة «الجمعية الخيرية الإسلامية» إلى مدرسين للغة العربية بمدارسها، وكيفية تقديم الطلبات وموعد الامتحان، وأن من وقع عليه الاختيار عين مدرساً في إحدى مدارس الجمعية بثلاثة جنيهات في الشهر، وأغراني بتقديم الطلب فتقدمت وبحضور الامتحان فامتحنت.
وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من ثلاثة من كبار رجال التعليم في وزارة المعارف.
نودي على اسمي فتقدمت مضطرباً متخوًفا، وكان هذا أول امتحان من هذا القبيل شهدته، فأعطى لي كتاب «أدب الدنيا والدين» فتحت منه صفحة حيثما اتفق فقرأت فيها وهم يسألونني: لم رفعت هذه ونصبت هذه وجرت هذه. ثم طلب إلي أن أقف أمام السبورة، وكان اسمها في أيامنا «التختة» وأملي على هذا البيت:
وطلب إلى أن أفسره ففسرته، وأخطأت في تفسير تزود فقلت إن معناه «تعطي الكثير»، ثم طلب إلي أن أعربه فأعربته، وأن أخاطب بالبيت مفرداً ومثنى وجمعاً؛ مذكراً ومؤنًثا ففعلت، وبذلك انتهى الامتحان، ثم أعلنت النتيجة فكنت الثالث وهم يحتاجون إلى أربعة، ودعينا نحن الأربعة لمقابلة الرئيس المشرف على التعليم في الجمعية الخيرية الإسلامية وهو حسن باشا عاصم، وعلمت فيما بعد أنه رجل من عظماء مصر اشتهر بمتانة الخلق والحزم والتشدد في الحق والتزام العدل مهما كانت الظروف، كان رئيساً للقلم العربي في السراي أيام الخديوي عباس فأراد الخديوي أن يستبدل أطياًنا يملكها بأطيان للوقف، فوقف هو والشيخ محمد عبده في ذلك، إذ كانا عضوين في مجلس الأوقاف الأعلى، وقال إن في هذا الاستبدال غبًنا على الأوقاف، فأخرجه الخديوي من وظيفته، فتبرع حسن باشا عاصم بالإشراف على التعليم في الجمعية الخيرية. يقضي في ذلك أكثر أوقاته، فيرقي التعليم ويشترك في وضع المناهج ويطبق العدل في شدة، حتى لقد حدث مرة أن تبرع أحد أعيان المحلة الكبرى بأرض لبناء مدرسة الجمعية ونفقات بنائها ووقف عليها من أملاكه، ثم أراد أن يدخل ابنه في المدرسة وكانت سنه تزيد شهراً عن السن المقررة، فأبى عاصم باشا قبوله قائلا: لقد تبرع هذا الرجل للجمعية فوجب شكره، ولكنه أراد بعد أن يخرق قوانين فوجب صده؛ وأصر على إبائه على الرغم من إلحاح رجالات الجمعية مثل الشيخ محمد عبده وحسن باشا عبد الرازق في قبوله، فلما ألحوا عليه قدم استقالته فاضطروا للنزول على رأيه. وهكذا كان يسير على هذا النمط فيما يعهد إليه من أعمال، وهو نمط من الناس غريب في الشرق المملوء بالمجاملات وقبول الرجاء مهما خالف العدل وخالف القانون. وكان من حسن حظي أن رأيته بعد ذلك عضواً في مجلس إدارة مدرسة القضاء، وعلمت أنه نشر العدل في المدرسة، وعلمه بقية الأعضاء.
وقفنا في قبة الغوري ننتظره فطلع علينا رجل مهيب يملأ القلب أكثر مما يملأ العين، له وجه أسمر وسحنة صعيدية أسيوطية وعينان نفاذتان، وجسم صغير. وواجهنا وأرسل إلينا نظرات فاحصة. وسأل كلا منا أسئلة في المعلومات العامة ثم استبعد الرابع لقصره وقماءته، وأعلننا أن الأول سيعين في مدرسة القاهرة، والثاني في الإسكندرية والثالث الذي هو أنا في طنطا.
لم يكن أبي يعلم شيئًا من ذلك فلما أخبرته تحير واضطرب، وما كان الأمر يحتاج إلى حيرة واضطراب، فالأمر سهل ورفض الوظيفة واجب، ولكن عذره أن مستقبل الطالب في الأزهر مظلم، وأخيراً قبل سفري إلى طنطا.
لو سمع شاب اليوم وسنه ستة عشر عاماً كسني أنه سيسافر إلى سنغافورة أو طوكيو أو الملايا ما حمل الهم الذي حملت من أجل سفري إلى طنطا. فلم أركب في عمري، ولا رأيت الأهرام، ودنياي هي ما بين بيتي والأزهر.
حزمت متاعي وهي حشية ومخدة ولحاف وسجادة وملابسي وبعض كتبي وودعت أهلي وبكيت طويلا ثم سافرت، ونزلت في محطة طنطا حائراً مرتبكاً لا أدري ماذا أصنع، ولم أدر أن في الدنيا فنادق ينزل فيها الغرباء. وبعد طول التفكير اهتديت إلى أن آخذ عربة وأضع فيها متاعي وأقول للسائق «إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا» — ووقفت العربة على باب المدرسة، فنزلت وتركت متاعي عند البواب ودخلت على الناظر وسلمت عليه وعرفته بنفسي، ثم طلبت أن يعطيني حجرة خالية في المدرسة لأنام فيها حتى أجد مسكناً فاستبلهني وفعل.
ويطفر ذهني الآن — عند روايتي هذا الحادث — إلى ابني يوم كان في مثل سني هذه فأراه يرحل مع طلبة الجامعة إلى أوروبا فيزور اليونان ورومانيا والنمسا وبولونيا. ويرى معالمها ويعرف الكثير من شئونها مع فرح واغتباط، فأعجب لسرعة تطور الجيل الجديد في الزمن القصير.
ثم بحثت عن مسكن في طنطا أسكنه فاهتديت أخيراً إلى غرفة في بيت في حي تبين لي بعد أنه لا يرضى عنه الكرام، وكنت إذا نزلت في الغرفة أخوض في نساء يجلسن أمام البيت في قحة وتبذل، وحرت كيف آكل وكيف أشرب وكيف أقضي وقتي.
وذهبت إلى المدرسة وتسلمت جدول دروسي من الناظر، ودخل وأنا عنده ولي أمر تلميذ يطلب إلحاق ابنه بالمدرسة، فطلب الناظر مني أن أكتب له طلباً، وناولني ورقة وقلماً فتحيرت ماذا أكتب، فلا عهد لي بشيء من ذلك، وأخيراً توكلت على الله وبدأت أكتب فلأكتب أولا الديباجة، ولم أكن سمعت الفرق بين عزتلو ورفعتلو وسعادتلو، وكنت أظن أنها كلمات مترادفات، فاستخرت الله وقلت «سعادتلو أفندم»، ولا أدري ماذا كتبت بعد، وقدمتها إلى الناظر فنظر إلى كلمة «سعادتلو» ودهش؛ ثم نظر إلي وقال «سعادتلو، سعادتلو» وأنا لا أزال «أفندي» ولست بيك ولا باشا، فخجلت من نفسي وأحسست من وقتئذ أنه يحتقرني.
ساءت حالتي في بيتي، وساءت حالتي في مدرستي، وساءت حالتي في وحدتي، فطلبت النقل إلى القاهرة ولم يمض علي شهر، فجاء الرد بأن الجمعية ليس لديها مانع إذا رضي أحد مدرسي القاهرة بالبدل، فحضرت إلى القاهرة ودللت على مدرس بالجمعية بظن أنه يرضى أن يبادلني، فذهبت إليه في بيته وعرضت عليه أمري فأبى، فعرضت عليه أن أتنازل له كل شهر عن نصف مرتبي فابتسم وأبى، فاستقلت ورجعت إلى مكاني في الأزهر سالماً، وكفاني فخراً أني ركبت القطار وشاهدت بلدة اسمها طنطا وعرفت الفرق بين عزتلو وسعادتلو.
•••
لم أستسغ أبداً طريقة الأزهر في الحواشي والتقارير وكثرة الاعتراضات والإجابات، وإنما كانت فائدتي الكبرى من أزهر آخر أنشأه لي أبي في غرفة من غرف بيتنا، ففي مسامحات الأزهر — وما أكثرها — كان أبي هو المدرس الأزهري في هذه الغرفة وكنت الطالب الوحيد.
والحق أن أبي كان يمتاز على كثير من شيوخ الأزهر بأشياء كثيرة — كان واضح العبارة قادراً على الإفهام من أقصر الطرق. وكان يرى في الحواشي والتقارير مضيعة للوقت. ولعله استفاد ذلك من تدريسه ببعض المدارس الأميرية واتصاله بأساتذتها؛ فقد درس بعض الوقت في مدرسة بالقلعة تسمى «المدرسة الخطرية»، وانتدب للتدريس لبعض الوجهاء مثل قاسم باشا ناظر الجهادية، ودرس اللغة العربية لسفير أمريكا في مصر، وهكذا، مما أكسبه ذوقاً في التعليم وقدرة على التفهيم، وله مزية أخرى وهي كثرة مطالعاته في كتب الأدب والتاريخ واللغة، واهتمامه بجمعها. ولم يكن ذلك معروًفا عند كثير من الأزهريين.
فرتب لي دروساً في النحو، واختار لي من كتبه طبعات ليس عليها حواش حتى لا يتشتت ذهني فيها — قرأ لي شرح الأجرومية للشيخ خالد، ثم كتاب قطر الندى، وكتاب شذور الذهب لابن هشام، ثم شرح ابن عقيل على الألفية، وكلها كتب تمتاز بوضوح العبارة وسهولة الأسلوب. فكنت أتقبل دروسه في هذه الكتب في لذة وشغف ونهم. وإلى جانب ذلك قرأ لي كتاب فقه اللغة للثعالبي، وشرح لي بعض مقامات الحريري في الأدب، وليست دراسة اللغة والأدب مما يعنى به الأزهر، ولكن عني بها أبي. ثم حبب إلي القراءة في مكتبته، فكنت أقرأ في تاريخ ابن الأثير، ووفيات الأعيان وفاكهة الخلفاء، وكليلة ودمنة ونحو ذلك، وقرأ لي كتابا في المنطق وكتاباً في التوحيد، فكان هذا كله في الحقيقة أساس ثقافتي، وترك لي دروس الفقه والجغرافيا والحساب أحضرها في الأزهر.
نجحت نجاحاً كبيراً، وأحسست بالتفوق على زملائي في الأزهر، حتى طلب إلي بعضهم أن أقرأ لهم شرح ابن عقيل في مسجد المؤيد في بعض أوقات الفراغ ففعلت، وصادقت بعض الإخوان ممن لهم ذوق أدبي، فكنا نجتمع في أحد المساجد نحفظ مختارات من مقامات بديع الزمان ورسائله، وأمالي القالي، وأمثال الميداني، ودلنا أحدهم على كتاب ظهر للشيخ إبراهيم اليازجي اسمه «نجعة الرائد»، يذكر فيه أحسن ما قالته العرب في الموضوع الواحد، فأحسن ما قيل في الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، والحلم والغضب إلخ. فاشتريناه وأخذنا أنفسنا بالحفظ منه. وظللت مع ذلك غير مرتاح لبقائي في الأزهر، ورأيت بعض زملائي يقدمون طلباً للدخول في مدرسة دار العلوم، فقدمت مثلهم، ورأيت الأمر سهلا علي؛ فهم يمتحنون في حفظ القرآن وأنا أحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وأنا أحفظها وأفهمها وحلمت إذ ذاك بمدرسة نظامية واضحة الحدود واضحة المعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة، ثم يخرج مدرساً في المدارس الأميرية. ولكن قبل الامتحان لابد من الكشف الطبي وأنا قصير النظر، هذه هي العقدة..
ذهبت إلى أكبر طبيب إنجليزي فكشف على عيني، وكتب لي أضخم نظارة قانونية تناسب نظري، ومع ذلك تقدمت للامتحان فسقطت، وحز في نفسي أن أرى زملائي ينجحون ولا أنجح، ويدخلون المدرسة ولا أدخل، ثم عدت إلى الأزهر.