الفصل الحادي عشر
عاد الشيطان فوسوس إلى ثانية، فقد اطلعت في إحدى الجرائد على إعلان وزارة المعارف تطلب فيه مدرسين للغة العربية، يدرسون في مدارسها بأربعة جنيهات شهرياً. فتقدمت للامتحان، وامتحنت تحريرياً وشفوياً ونجحت وكان نصيبي هذه المرة مدرسة تابعة لأوقاف أهلية وخاضعة لتفتيش وزارة المعارف، هي مدرسة راتب باشا بالإسكندرية، ولم يكن اسم الإسكندرية مرعباً كطنطا، فقد كبرت وصرت في الثامنة عشرة من عمري، وتعودت ركوب القطار بذهابي إلى طنطا، ومع ذلك لذعني السفر، وصرف أبي مجهوداً جباراً في تعييني في مصر بدل الإسكندرية فلم يوفق فسافرت ورأيت البحر أول مرة فسحرني وصرت آنس به، وأجلس إليه وأتأمل في أمواجه. فأنسى لوعة غربتي، وحببت إلي القراءة في المكان الخالي على شاطئه. هناك قرأت بعض كتب الغزالي فشعرت بنزعة صوفية، وحفظت كثيراً من نهج البلاغة إعجاباً بقوة أسلوبه، وقرأت كتاب أشهر مشاهير الإسلام لرفيق بك العظم فتحمست لأبطال الإسلام وأعجبت منه بتحليل شخصياتهم، وفلسفة الحوادث في أيامهم.
واستأجرت حجرة في بيت بالقرب من مسجد البوصيري أودعتها فراشي وملابسي وكتبي ودراهمي. فعدت يوماً من المدرسة فوجدتها قاعاً صفصفاً، خالية كيوم استأجرتها. فاتفقت مع مدرس في مدرسة أخرى أن نستأجر شقة معاً في غرفتين في بيت عليه بواب، وكان صاحبي هذا كهلا، نحيف الجسم أصفر الوجه، ملتحياً، متديًنا في تزمت، يتوضأ فيطيل الوضوء؛ ويصلي فيطيل الصلاة: ويقضي أوقاًتا طويلة في قراءة الأوراد وحضور الأذكار، يصطحب دائماً كتاب «شذا العرف» في فن الصرف، يقرأ فيه في حجرته، ويتأبطه عند خروجه، وظل على هذه الحال السنتين اللتين أقمتها معه، لا هو يتم الكتاب ولا هو يتركه، مع أنه كتاب صغير يقرأ في يومين أو ثلاثة.
صحبته، فكان مكملا لنقصي، موسعاً لنفسي، مفتحاً لأفقي، كنت أجهل الدنيا حولي فعرفنيها، وكنت لا أعرف إلا الكتاب، فعلمني الدنيا التي ليست في كتاب. وكان أبي وشيوخي يعاملونني على أنني طفل، فعاملني على أني رجل؛ فملأ فراغي وآنس وحدتي — كنا نلتقي في كثير من الأيام بعد العصر أو يوم الجمعة أنتظره في محل قريب من بيتي، وكان هذا المحل أيضاً غريباً، هو محل عم أحمد الشربتلي، يصنع شراب الليمون كأحسن ما يصنع، ويعتني بنظافته ما أمكن، فكان مضرب المثل في النظافة والإتقان، وحانوته صغير، لا يتسع لأكثر من خمسة عشر، فإذا كثروا جلسوا أمامه؛ وهو مع ذلك يدعي الأدب والشعر. ويتصيد من يجلس عنده من الأدباء ليسمعهم شعره وإذا حار في قافية انتظر من يتوسم فيه الشعر فيسأله إكمال القافية، ويقرأ في الجرائد كل يوم ما فيها من شعر. فإذا لم يفهم بيًتا انتظر العصر حتى يأتي بعض زبائنه الأدباء فيسألهم ويناقشهم في معناه، وهو ذو ذوق حساس، إذا استثقل أحداً لم يمكنه من الجلوس في حانوته، وأقصى ما يستطيع أن يمكنه من شرب ليمونه، ولذلك كان محله مجمعاً للظرفاء والأدباء، فإذا مر علي صديقي الأستاذ أخذني وذهبنا إلى مقهى فخم، إما في محطة الرمل، أو كازينو المكس، أو نحو ذلك من الأماكن الممتازة حيث الموسيقى أحياًنا وجودة الهواء ومنظر البحر أحياًنا. وقد يكون معنا رجل أو اثنان من بعض أصدقائه، والأستاذ — في الطريق أو المقهى، أو حيث كنا — يحدثنا حديثاً طريفاً ممتعاً، ينقد المجتمع نقد خبير، ويتحدث في شئونه الزراعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو في كل ذلك كثير التجارب واسع الإطلاع طلق اللسان — إذا زرته في بيته حدثني عن شيوخه في دار العلوم، كالشيخ حسين المرصفي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ حمزة فتح الله وأمثالهم، وأبان مزاياهم وعيوبهم في دقة؛ أو حدثني عن الكتب التي ظهرت حديثاً وعن القيم منها، وما ليس له قيمة، أو قرأنا في كتاب كدلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة. وأحياناً كان يصحبنا صديق له لطيف، موظف في جمرك الإسكندرية، همه في الحياة النكت اللطيفة، والنوادر المستملحة، مع خفة في الروح نادرة، فإذا حضر لم ينقطع ضحكنا ولا إعجابنا، ولا أدري من أين كان يأتي كل يوم بالجديد من هذه الطرائف ويسميها طرائف اليوم، وهو يتعصب للإسكندرية ويفضلها على القاهرة، فإذا تحدث عن ذلك سمعت منه العجب في معايب القاهريين ومحاسن الإسكندريين، وكان هذا شيئًا جديداً علي لم أر مثله، لعل له الفضل في تقديري للنكتة، وإعجابي بها.
وعلى الجملة فلئن كان أبي هو المعلم الأول فقد كان هذا الأستاذ هو المعلم الثاني، انتقلت بفضله نقلة جديدة وشعرت أني كنت خامداً فأيقظني، وأعمى فأبصرني، وعبداً للتقاليد فحررني، وضيق النفس فوسعني. وظلت صداقتنا سنين، ينتقل من الإسكندرية إلى القاهرة فتتجدد صداقتنا وتزيد، ويشاء القدر أن يجمعنا بعد مدرسين معاً في مدرسة القضاء فتقوى الصداقة وتتأكد، وأستفيد على مر الأيام من علمه وتجاربه وحسن حديثه، وتجيء الحركة الوطنية فأتحمس لها تحمس الشباب، وينظر إليها نظر الشيوخ وأقومها بشعوري؛ ويقومها بعقله، فينقد زعماء الحركة الوطنية وأكره النقد، ويعيبهم وأكره العيب، وتدفعني الحماسة الوطنية إلى نقد أستاذ آخر لي نقداً فيه شيء من العنف فيلسع ذلك صديقي الأستاذ ويغضب له، ويكره من تلميذ أن يزل لسانه بمثل ما زل لساني في أستاذي، فيخاصمني ويقاطعني، وأسترضيه فلا يرضى، ثم أمعن في الاسترضاء، فيبدأ في الرضاء، ولكن يسرع إليه القضاء، فيموت وفي عيني دمعة، وفي قلبي حسرة. رحمه الله.
نعود إلى الإسكندرية، فقد درست في مدرسة راتب باشا اللغة العربية للسنة الرابعة الابتدائية، وكان هذا فخراً كبيراً إذ من يدرس للسنة الرابعة ينظر إليه على أنه أرقى مدرس للمادة، وأحسست كفايتي في تدريس القواعد، حتى كان من غروري أني أخطئ الكتب المدرسية التي قررتها وزارة المعارف، أما في دروس الإنشاء فلم أكن بارعاً، بل كان بعض التلاميذ يكتبون خيراً مما أكتب، لأني لم أتمرن على الكتابة، وكنت إذا كتبت شيئًا ملت إلى السجع وإن لم ألتزمه لغلبة ما حفظته من مقامات بديع الزمان ورسائله.
ورأيت من المدرسين بالمدرسة وناظرها ما لا عهد لي به، فكأنهم كانوا يمثلون رواية غربية الأطوار، مفككة الفصول، منهم من يمثل دور الماكر ذي الناب الأزرق الذي يقابلك فيبتسم لك، ويوهمك أنه صديقك، وهو يدس لك الدسائس عند ناظر المدرسة، ومنهم من يمثل الخبيث المنطوي على نفسه، الحاقد على الدنيا وعلى كل شيء فيها، ويقابل ما يحدث حوله دائماً بضحكة ساخرة، ومنهم السكير المعربد الذي يستولي على مال المدرسة فيصرفه في سكره وعربدته، ثم يضبط ويطرد، ومنهم فراش المدرسة العبد الأسود الذي تحمر عيناه وتقذفان بالشرر من كثرة ما يتعاطى من «البوظة» وكنت أمثل من هذه الأدوار دور المغفل الساذج الذي لم يعرف الدنيا ولم يختبر الناس.
أما علاقتي مع التلاميذ فكانت علاقة صداقة، أحبهم ويحبونني، وزاد من صداقتنا أننا متقاربو السن، فلم يكن تلاميذ السنة الرابعة صغاراً كما هم اليوم إنما كان أكثر الفصل الذي أدرس له بين الخامسة عشرة والعشرين، فكنت أتحدث إليهم في الشئون العامة مما لا يتصل بقواعد النحو والصرف، وأقص عليهم قصصاً أدبية، وأتحدث إليهم في بعض ما تحدث به إلي صديقي الأستاذ، وأشعر بحنين إليهم إذا غبت عنهم في إجازة أو مرض. ويحنون إلي كذلك، وكانت عاطفتي الدينية مشبوبة قوية بفضل نشأتي في بيتي، ثم استمرت بصحبتي من عرفتهم في الإسكندرية، فكنت أؤدي الصلوات لأوقاتها، فإذا كنت في مقهى انتقلت من بين من أجالسهم إلى أقرب مسجد، فإن كنت في حي إفرنجي بعيد عن المساجد، تلمست عمارة كبيرة فيها بواب نوبي أو سوداني، وطلبت منه أن يحضر لي حصيرة صلاته لأصلي عليها بالقرب من الباب، فإذا لم أجد استنظفت أي مكان مستتر وخلعت جبتي وفرشتها وصليت عليها، ثم نفضتها ولبستها، ويوم الجمعة أتنقل في المساجد لصلاة الجمعة، فيوماً بالبوصيري ويوماً بمسجد أبي العباس، ويوماً بمسجد سيدي بشر، وهكذا — وفي حجرتي أقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن.
أما عاطفتي الوطنية فلم تكن قوية إلى ذلك العهد، لأني ولدت عقب الاحتلال بنحو أربع سنين، وقد استولى على المصريين إذ ذاك نوع من الخوف واليأس، وأحاط الإنجليز مظاهرهم بالعظمة والقوة، وكان حيناً في المنشية مراداً للجنود والضباط الإنجليز الذين يسكنون القلعة بجوارنا؛ وكنت كثيراً ما أراهم بالجاكتة الحمراء والسراويل الزرقاء فأرعب منهم وأعدل عن طريقهم. وقلما كان يتحدث أبي في السياسة وشئونها، فإذا تحدث ففلسفته فيها كفلسفة كثير من الشعب، أن هذا قضاء الله وانتقام من عبيده. فبظلم المصريين بعضهم بعضاً، وظلم حكامهم لهم وبعصيان الله في أوامره ونواهيه، سلط الله عليهم الإنجليز يسومونهم سوء العذاب، ولا يمكن أن ترفع عنا هذه الغاشية حتى يستقيم المصريون ويعدلوا ويلتزموا أوامر الدين. أما نقد الحكام في تصرفهم، أو نقد الإنجليز في حكمهم، فمسكوت عنه لهذه الفلسفة. وأذكر أني مرة سألته — وقد كبرت قليلا — عند سماعي لهذه الفلسفة: هل هؤلاء الإنجليز مطيعون الله حتى ينصرهم علينا ويمكن لهم في بلادنا؟ فزجرني ولم يجب. فلما اتصلت في الإسكندرية بصديقي الأستاذ الذي أثر في كثيراً، وكانت له في السياسة فلسفة أخرى، كفلسفة الشيخ محمد عبده، إذ كان من أنصاره لا من أنصار «مصطفى كامل»، وفلسفته هي وجوب الإصلاح الداخلي أولا، بنشر التعليم الصالح، وترقية أخلاق الشعب، ثم الاستقلال يأتي بعد ذلك تبعاً عكس سياسة مصطفى كامل التي ترى أن ليس في الإمكان الإصلاح الداخلي للشعب ما لم يسبقه جلاء الإنجليز واستقلال المصريين. ولذلك كانت وطنية الشيخ محمد عبده عقلية، ووطنية مصطفى كامل وطنية شعورية، وقد تأثرت بكلام صديقي الأستاذ، وانحزت إلى رأيه.
وكنت في صباي لا أقرأ الجرائد، فهي لا تدخل بيتنا ولست أجلس في مقهى أقرؤها فيه، إلى أن كانت حادثة زواج الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بالست صفية بنت الشيخ السادات، وهي حادثة تحدث كل يوم ولا تحرك ساكناً، ولكن هذه الحادثة بنوع خاص أقامت مصر وأقعدتها، من الخديو إلى البائع الجوال، فرجل كهل تزوج بنًتا بلغت سن الرشد برضاها دون رضاء أبيها، واعترض أبوها على هذا الزواج، فماذا عسى أن يكون لهذا الحادث من أهمية؟ ولكن لعبت الخصومات السياسية في هذا الموضوع، وإثارة شعور العامة عن طريق المحافظة على الدين، وفراغ عقول الناس، جعل هذه المسألة مسألة الرأي العام، فقد رفعت قضية بطلب فسخ عقد الزواج لعدم كفاءة الزوج للزوجة، إذ هي شريفة من نسل النبي، وهو ليس بشريف، واشترك في هذه المعمعة القضاء والسياسة والأدب، فجلسات المحاكم وما دار فيها من مرافعات تطلع على الناس في الجرائد، والشعراء يصنعون المقطوعات الطريفة في هذا الموضوع تنشرها الجرائد، والجرائد الهزلية تنشر«النكت» اللاذعة. وهكذا اهتاجت عواطف الناس، وترقبوا الجرائد وتلقفوها تطلع عليهم كل يوم بجديد.
ومن ذلك الحين اتصلت بالجرائد أقرؤها، فلما عينت في الإسكندرية كنت أذهب إلى مقهى «عم أحمد الشربتلي» أقرأ فيه اللواء والمؤيد والمقطم، فأرى جريدة اللواء تلهب الشعور الوطني ولا تجاوبها نفسي تبعاً لشيخي، والمقطم تقاوم الحركة الوطنية ولم يجاوبها كذلك نفسي، وربما كان المؤيد أحب إلي لصبغته الإسلامية.
ولست أنسى ليلة — وأنا في الإسكندرية — أقام فيها أحد أصحابنا وليمة عشاء على سطح منزله (وكان ذلك في يوم ٢٧ يونيو سنة ١٩٠٦) فجاءت الجرائد وفيها الحكم على أربعة من أهالي دنشواي بالإعدام، وعلى اثنين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعلى واحد بالسجن خمس عشرة سنة، وعلى ستة بالسجن سبع سنين، وعلى خمسة أن يجلد كل منهم خمسين جلدة، فتنغص عيشنا وانقلبت الوليمة مأتماً، وبكى أكثرنا، ومن ذلك اليوم أصبحت عواطفي مع اللواء لا مع المؤيد ولا مع المقطم.