الفصل الثاني عشر
بعد سنتين في الإسكندرية، سعى أبي فعينت مدرساً، بمدرسة والدة عباس باشا الأول في أكتوبر سنة ١٩٠٦ وهي المدرسة التي تعلمت فيها صغيراً، والتي كنت أحن إليها دائماً أيامي في الأزهر، وقد تغيبت عنها قريباً من ست سنوات، ففرحت بها فرح الغائب عاد إلى وطنه، بل ورأيت فيها بعض من كانوا من تلامذة معي أيام كنت تلميذاً، وبعض أساتذتي الذين علموني، ورأيتها قد اتسعت أبنيتها، وكثرت تلامذتها وأساتذتها، وأعطيت السنة الأولى والثانية لأن أساتذتي وأمثالهم كانوا يحتلون السنة الرابعة، وسرعان ما تجلت قوتي في القواعد دون الإنشاء، ولا أدري السبب في اكتشاف هذا السر، ولكن حدث في آخر العام أن نتيجة المدرسة في الشهادة الابتدائية كانت نتيجة باهرة، فرح بها الناظر فرحاً شديداً، وبحث عن أستاذ في اللغة العربية يكتب خطاباً إلى إدارة الوقف يخبرها فيها بهذه النتيجة، ويباهي بها غيرها من المدارس، فلم يجد أحداً إلا إياي، فدعاني الناظر وطلب مني أن أكتب هذا الخطاب، ومن حسن حظي أني كنت أحفظ مقدمة دلائل الإعجاز، يباهي فيها بعلم البلاغة وأنه فوق العلوم كلها، فسرقت الأسلوب، وباهيت بالمدرسة وفضلها على سائر المدارس على نمطه، وحججه، فسر منه الناظر كثيراً، ورد إلي اعتباري في الإنشاء أيضاً.
في هذا العام أثناء الدراسة مرضت بحمي التيفود مرضاً شديداً، حتى أشرفت على الهلاك، ولم يكن هناك عناية بالمرضى، كما يعنى اليوم، ولا يرضى الأهالي عن إرسال المريض إلى مستشفى الحميات كما يرسل اليوم، ولا عزل له عن سائر من في البيت حتى لا تنتشر العدوى، ولا استدعاء طبيب مختص يشرف إشراًفا دائماً على العلاج — لا شيء من ذلك — ولكن فرشت لي حشية على الحصير، في وسط الغرفة كما كنت أنام، وترك أمري لله، فلم يدع أهلي طبيباً، وكل ما في الأمر أن نفسي عافت الأكل فتركته. ومن حين لأخر تأتي عجائز الحارة فتصف لأمي وصفات بلدية للشفاء من المرض، فأقبلها حيًنا، وأرفضها أحياناً، ويزورني أبي قبل خروجه إلى عمله، فيجلس على رأسي ويضع يده على جبهتي، ويقرأ الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين، ويختم ذلك بقوله: «حصنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنك السوء بألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ثم ينفث في وجهي، وإذا عاد من عمله في المساء كرر هذا الدعاء. ونجوت منها بأعجوبة، بعد أن كان الموت أقرب إلي من حبل الوريد، ومكثت بعد ذلك مدة طويلة في دور النقاهة.
لم أمكث في هذه المدرسة إلا سنة، وفي سنة ١٩٠٧ تقرر فتح مدرسة القضاء الشرعي، وكان الغرض منها تخريج قضاة شرعيين مكان الذين عمت منهم الشكوى. وكان قد عهد إلى الشيخ محمد عبده بالتفتيش على المحاكم الشرعية وفحص عيوبها، فقام بذلك خير قيام، وكتب تقريراً عظيماً، يبين فيه هذه العيوب، ويقترح وجوه الإصلاح، وعلى أثر ذلك فكرت نظارة الحقانية في إنشاء مدرسة، واحتضن فكرتها سعد باشا زغلول، إذ كان ناظراً للمعارف، وأميًنا على أفكار الشيخ محمد عبده. وكان الخديو عباس كارهاً لهذا المشروع أشد الكره، معارضاً فيه أشد المعارضة: لأنه يسلب الأزهر أعز شيء لديه، وهو الإعداد للقضاء الشرعي، وقد سلب من قبلُ إعداد مدرسي اللغة العربية بإنشاء دار العلوم — والأزهر وديوان الأوقاف هما المصلحتان اللتان أطلقت فيهما يد الخديوي، ولم تمسسهما يد الإنجليز، فقوتهما قوة له، وضعفهما ضعف له. ولأن فكرة مدرسة القضاء نبعت في فكر الشيخ محمد عبده، واحتضنها صديقه سعد زغلول، وهو يكرههما في أعماق قلبه، من أجل ذلك حارب المشروع. ولكن دعي مجلس النظارة للاجتماع يوم ٢٥ فبراير ١٩٠٧ ورأسه الخديو، فعارض الخديو في المجلس وأبدى اعتراضاته على المشروع، واقترح إرجاء النظر فيه فعارض سعد باشا، ودافع عن الفكرة، وتحمس لها تحمس المحامي القدير الذي يؤمن بعدل قضيته، ثم أخذ الرأي، فانضم جميع النظار إلى سعد باشا، ما عدا ناظر الأشغال، فلم يسع الخديو إلا أن يوافق على رأيهم ويمضي القانون.. ولم نعرف سابقة لمثل هذا الحادث يخالف فيها أكثر النظار الخديو، فينزل عن رأيه لرأيهم، ولذلك صمم — بعد — ألا يحضر جلسات مجلس النظار، حتى تكون له الحرية في قبول ما يقبل، ورفض ما يرفض. ومن أجل هذا ظل الخديو يحارب مدرسة القضاء ما استطاع.
على كل حال أعلن عن الدخول في مدرسة القضاء وشرط القبول ومواعيد الامتحان، فتقدمت، وكانت خشيتي من الكشف الطبي أكبر من خشيتي من الامتحان، فأخوف ما أخافه أن تتكرر المأساة التي حدثت عندما تقدمت لدار العلوم، وكان من فرط خشيتي أني احتلت حتى حصلت على اللوحة التي سيستخدمها الطبيب في الكشف عن النظر. فحفظت حفظاً جيداً العلامات فيما عدا السطرين الأولين لأني أراهما، فعرفت ابتداء من السطر الثالث أن العلامة الأولى مفتوحة من اليمين، والثانية من اليسار، والثالثة من فوق، والرابعة من تحت وهكذا، ولكن خاب ظني وكانت ساعة حرجة جداً انعقد عليها كل أملي، فقد رأيت السطرين الأولين، فلما جاء ما بعدهما أشار الطبيب إلى علامة في السطر الرابع فسألته، أهي الأولى أم الثانية، فقال هي الموضوع عليها العصا، ولم أر طرف العصا إن كان موضوعاً على العلامة الثالثة أو الرابعة، فسقطت في الامتحان، ويئست من المدرسة، واعتقدت أني سأظل في عملي المتواضع أو مثله ما بقيت الحياة، ولكن حدث ما ليس في الحسبان فقد رأى عاطف بك بركات ناظر المدرسة كثرة الساقطين في النظر، فأرجأ البت فيمن يقبل ومن لا يقبل إلى ما بعد الامتحان، وتقدم لهذا الامتحان أكثر من مئتين. منهم من قضى سنين طويلة في الأزهر، وامتحنا في اللغة العربية نحواً وصرًفا. وفي الفقه، وفي البلاغة، وفي الحساب والهندسة، وفي الجغرافيا والتاريخ، فكان امتحاًنا عسيراً رسب فيه كل المتقدمين إلا خمسة، وكنت الثالث فشفع ذلك لي عند ناظر المدرسة في قصر نظري، وقبلنا نحن الخمسة وضم إلينا تسعة من أحسن الراسبين، وبعض هؤلاء التسعة — اختيروا — لأنهم من أبناء كبار العلماء في الأزهر. استرضاء للأزهر وأهله. ففرحت فرحاً لا يقدر، إذ رسم مستقبلي، ووضحت معالمه، وكفيت شر التسكع في المدارس الأهلية وأمثالها. كما فرحت مرة ثانية لأني سأدرس علوماً منظمة في مدرسة منظمة. أسأل فيها عما أفعل، وأحاسب على الجد والكسل، لا كما كان الشأن في الأزهر.
وكانت الفكرة في مدرسة القضاء أن يثقف فيها الطالب ثقافة دينية، من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وتوحيد ونحو ذلك، وثقافة لغوية أدبية من نحو وصرف وأدب، وثقافة قانونية عصرية. من مثل أصول القوانين الحديثة ونظام القضاء والإدارة ونحو ذلك. وثقافة كما يسمونها عصرية، من مثل الجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب والجبر والهندسة فكان برنامجها مزيجاً من كل ذلك. ومن أظرف ما حدث في برنامجها أن خاف واضعو قانونها من أن يسموا الطبيعة باسمها، فيغضب الأزهريون، لأن لديهم بيًتا مشهوراً يتناقلونه ويتداولونه وهو:
فاحتالوا على ذلك ووضعوا الطبيعة والكيمياء في البرنامج تحت اسم «الخواص التي أودعها الله تعالى في الأجسام» وكانت المدرسة في حضانة سعد باشا زغلول، ويوليها عنايته وهو ناظر المعارف، ويضع يده على كل رجال التعليم في نواحيهم المختلفة، فاختار لها ناظراً من أكفأ الناس وأقربهم إليه وهو عاطف بك بركات، واختار هو والناظر خيرة المدرسين من كل نوع من أنواع التعليم كما استعان بخيرة علماء الأزهر، ليدرسوا العلوم الدينية، فكنت ترى مزيجاً عجيباً من الأساتذة، هذا شيخ أزهري تربى تربية أزهرية بحتة ودنياه كلها هي الأزهر وما حوله، بجانبه أستاذ للتاريخ على آخر طراز تخرج في جامعات إنجلترا وأستاذ للطبيعة تخرج في أشهر جامعات فرنسا، وعلى رأسهم ناظر تعلم في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وكل من هؤلاء يلون الطلبة بلونه، ويصبغهم بصبغته، ويعلمهم على منهجه، فكنت إذا أصغيت إلى درس من الدروس فكأنما تصغي إلى درس يلقيه مدرس من القرون الوسطى فيما يقال وكيف يقال، ثم يليه درس تسمعه فكأنك تسمع درساً في أجنبية لا يفرق بينهما إلا أنه يلقى بالعربية، ثم تنتقل من ذلك إلى درس له شبه من هذا وشبه من ذاك، فموضوعه من موضوعات القرون الوسطى ومنهجه منهج حديث، وكذلك المدرسون، عقلية قديمة لم تسمع عن شيء اسمه الجغرافيا ولا تعرف أن الدنيا قارات خمس. أراد بعضهم أن يتطرف ويبين أنه رجل عصري فقال: إن الدنيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام آسيا وأفريقية وقارة. يقدسون ما ورد في الكتب حتى الخرافات والأوهام، ومن أقوى حججهم على صحة الرأي أنه ورد في كتاب من الكتب القديمة. وعقلية حديثة على آخر طراز، وجالس أصحابها أرقى الأساتذة الأجانب واستفادوا منهم، وعاشوا في المدينة الغربية. عرفوا آخر نوع من طرازها، وليس عندهم فكرة مقدسة إلا ما قام البرهان على صحتها، ودلت التجارب على ثبوتها، وبين هذين الطرفين أنواع من الأساتذة يأخذون بحظ منهما قل أو كثر. وفي هذه البوتقة المكونة من هذه العناصر كلها وضعت الطلبة ليأخذ كل منهم حظه حسب فطرته واستعداده — وأحيط كل هذا بإطار خلقي يشرف على تنفيذه ناظرها: يلتزم النظام الدقيق ولا يسمح بالخروج عنه قيد أنملة، إن دق جرس الصباح أغلق باب المدرسة ولا يدخلها طالب، وتحرك الأساتذة فوراً إلى دروسهم. ويذهب الطلبة أول العام الدراسي فيجلس كل في مكانه ويفتح درجه فإذا فيه كتبه وأدواته جميعها لا ينقصها شيء، وعدل في معاملة الطلبة والأساتذة لا ينحرف. فمن نجح من الطلبة فبالعدل، ومن رسب فبالعدل، وإن رقي أستاذ فبالعدل، لا يقبل في ذلك رجاء ولا شفاعة؛ وكل طالب معروف لأساتذته وناظره. ولكل طالب صفحة في سجل كبير أمام الناظر، قيد فيها اسم الطالب والأخطاء التي ارتكبها والعقوبات التي وقعت عليه والمكافآت التي نالها، فمن أخطأ خطأ جديداً ذهب إلى الناظر ففتح صفحته وعرف مكانته؛ ونظافة المدرسة بالغة أقصاها — حديقة جميلة رسمت رسماً بديعاً، وملئت بالأزهار الجميلة، وحركة مستمرة من الخدمة في تنظيف مستمر — في هذا الجو كله وضع الطلبة، واشتهرت المدرسة في مصر يزورها كبراؤها وفي العالم الشرقي يؤمها عظماء الوافدين المعنيين بشئون التعليم والراغبين في الإصلاح.