الفصل الثالث عشر
بدأت الدراسة في القسم العالي من هذه المدرسة، ومدتها أربع سنوات، وكان فصلنا أربعة
عشر
طالباً، كثير منهم يناهز الثلاثين وله لحية طويلة، ومنهم من هو متزوج وله أولاد. وكان
الطلبة كالأساتذة، منهم الأزهري القح الذي لا يعرف عن الدنيا شيئُا، ومنهم ابن البلد
المتمدن الذي عرك الدنيا وعركته. ومنهم من هو بين ذلك، وبدأنا الدراسة واستمررنا فيها
أربع
سنين طوال — يدرس لنا التفسير والحديث والتوحيد رجال من خيرة الأزهريين، على الطريقة
الأزهرية وفي كتبها الصفراء التي تضم متنا وشرحاً وحاشية — يقرئون المتن ثم يتبعونه بالشرح،
ثم يفيضون فيما يرد من اعتراضات، وما يجاب عليها من إجابات، وتنتهي السنة فلا نكاد نكون
قد
قرأنا فيها إلا القليل، ونحمد الله على ذلك لأن الامتحان سيكون في هذا القليل الذي قرئ،
وهم
يذكروننا دائماً بالأزهر ومنهجه والقرون الوسطى ومناهجها، ويملئون رءوسنا بالاحتمالات
والتأويلات ويبثون في نفوسنا من طرف خفي تقديس المؤلفين والمؤلفات، فقل أن يخطئ المؤلف،
وإذا أخطأ فهناك ألف وجه لتأويل كلامه بما يحتمل الصواب، ولكن كان لهذه الطريقة — والحق
يقال — محمدة كبيرة، هي تعويدنا الدقة في التعبير والإيجاز في القول.والتزام المنطق فيما
يقال.
١
وبجانب هؤلاء دروس يلقيها أساتذة من خير ما أخرجته دار العلوم كالشيخ الخضري والشيخ
المهدي،
٢ وهم فئة تعودوا النظام والقدرة على الإيضاح من دار العلوم، ولم يلتزموا عبارات
الكتب وإن التزموا موضوعاتها، واتصلوا بالشيخ محمد عبده، وكانوا من خاصة تلاميذه، يعتنقون
مبادئه ويستنيرون بآرائه وتوجيهاته، فلم يكونوا يلتزمون الكتب، وإنما يضعون مذكرات من
أنفسهم يعتمدون فيها على الكتب القديمة، ولكنهم يعرضونها عرضاً جديداً. قليلا ما يأتون
بالشيء من أنفسهم، ولهم علم بالدنيا أكثر من علم الأزهريين، وتجارب في الحياة استمدوها
من
أعمالهم ومناصبهم، كانوا يلقونها إلينا مع دروسهم؛ درس لنا أصول الفقه الشيخ محمد الخضري،
وكان لبًقا لسًنا ذكياً واسع الإطلاع حاضر البديهة، يجيد اللغة الغربية وفروعها والتاريخ
الإسلامي كما ورد في المؤلفات القديمة، والعلوم الإسلامية كما تلقاها من شيوخه، وله قدرة
على استساغة ذلك كله وإخراجه في عبارة عصرية جديدة أقرب إلى الفهم. ودرس لنا الشيخ محمد
مهدي أدب اللغة العربية، وكان هذا الأدب حديث العهد في مصر، فالناس لم يكونوا يعرفون
الأدب
إلا على النحو الذي جاء في مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد والأمالي ونحو ذلك. أما تأريخ
الأدب إلى عصور وترجمة شعراء كل عصر وناثريه وميزة أدب كل عصر وخصائصه فشيء لم يكن معروًفا
في مصر، حتى أتى الأستاذ حسن توفيق العدل، وقد تعلم في ألمانيا، فأدخل هذا العلم على
هذا
النمط في مدرسة دار العلوم إذ كان أستاًذا فيها، مسترشداً بما كتبه الألمان في تدريس
أدبهم.
وجاء تلميذه الأستاذ محمد المهدي فبنى عليه وأعد لنا مذكرات واسعة فيه، وكانت ميزته الكبرى
تذوقه الأدب وتقويمه جيده من رديئه وحسن إلقائه للشعر وجمال نغماته، وكان كثيراً ما يخرج
من
الدرس إلى تعاليم الشيخ محمد عبده، من الدعوة إلى عدم زيارة القبور وإنكار الشفاعة
بالأنبياء والأولياء ونحو ذلك.
٣
وكان من طائفة دار العلوم أيضاً الشيخ محمد زيد، رجل وقور جليل المنظر مهيب الطلعة
يحتفظ
بكرامته ويعتز بشخصيته، درس لنا الفقه. وكان قد مرن عليه التدريس بمدرسة الحقوق، فنقل
الفقه
من كتبه الأزهرية التي تعتمد على الجزئيات إلى وضع قواعد كلية تطبق عليها الجزئيات، وكان
سلس العبارة ميالا إلى الإطناب.
وجمهرة ثالثة من المدنيين — إن صح هذا التعبير — منهم طائفة من كبار القضاء
الأهلي،
٤ يعلموننا مقدمة القوانين، أو كما يسمونها اليوم المدخل إلى القانون، ونظام
المحاكم واختصاصاتها إلى غير ذلك، فيقربون أذهاننا إلى القضاء الأهلي، ويقربون الفقه
الإسلامي إلى القانون الوضعي، وأصول الفقه، إلى أصول القوانين.
وهذا أحمد فهمي العمروسي بك، وهو الذي تعلم في مصر وتعلم في سانكلو بفرنسا يدرس لنا
الطبيعة، فيشرح لنا النظرية ويطبقها في المعمل ويجعلنا نجرب التجارب، ولا يضع في يدنا
كتاباً، بل يكلفنا أن نكتب ما فهمنا وأن نرسم الأدوات التي استخدمناها، وهي طريقة كانت
شاقة
علينا، ولكنها كانت مفيدة لنا — ويخرج من الدرس كثيراً إلى نقد طريقتنا في التعليم وطريقتنا
في الحياة ويقارن في ذلك كله بين مصر وفرنسا. ويرى أن الكلام في هذه الأمور أكثر فائدة
من
الكلام في الطبيعة والكيمياء، فالكلام فيهما كالخبز الجاف لابد أن يجعل سائغاً بالزبد
والمربى.
وهذا علي بك فوزي الذي درس في مدرسة المعلمين وتخرج في معاهد إنجلترا، يدرس لنا التاريخ
—
تاريخ اليونان والرومان أحياًنا، وتاريخ أوروبا الحديث أحياًنا، والتاريخ الإسلامي أحياًنا،
وهو رجل غريب بديع ظريف المظهر قصير القامة يخفي قصر قامته بطول طربوشه وعلو جزمته. يجيد
الإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية. ويلتزم الكلام باللغة العربية الفصحى فلا يلحن،
ويدخل علينا متأبطاً كتباً في جانبيه لعلها تزن أكثر منه، ولا يدع الفراش يحملها له،
ويفتح
هذا الكتاب بالفرنسية ويملي علينا باللغة العربية بأسلوب جميل فصيح، ويخرج أحياًنا عن
الدرس
إلى آرائه في الحياة وفلسفته في المقارنة بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية.
وهذا محمد بك زكي يدرس لنا الحساب والجبر والهندسة وينقلنا في ذلك خطوات سريعة، حتى
نصل
إلى اللوغاريتمات والهندسة الفراغية والتوافيق والتبادل.
وهذا عاطف بك بركات يدخل علينا يوماً فيجد الشيخ حسن منصور يدرس لنا الأخلاق في كتاب
أدب
الدنيا والدين، فلا يعجبه ذلك، ويتولى تدريس هذه المادة بنفسه من الكتب الإنجليزية، فيدرس
لنا أحياًنا كتاب ماكنزي في علم الأخلاق، وأحياًنا كتاب مذهب المنفعة لجون ستيورات
مل.
وهكذا وهكذا من مزيج لم يكن له نظير في أي مدرسة أخرى.
ونظام المدرسة شاق عنيف، فليس هناك ملاحق، وليس هناك إعادة سنة فمن رسب في أول امتحان
آخر
السنة رفد، وفي كل ثلاثة أشهر امتحان، ومن رسب في هذا الامتحان الثلاثي حرم من مكافآته،
وهي
جنيه ونصف كل شهر، وما تجمع من هذه المكافآت التي حرم منها بعض الطلبة تمنح مكافآت
للمتفوقين: قسم منها لمن حاز أكبر درجة في كل علم أساسي، وقسم يمنح مكافآت على كتب تقرأ
أثناء الإجازة، مثل مقصورة ابن دريد وشرحها ومختصر صبح الأعشى وكتاب «إميل» القرن التاسع
عشر ونحو ذلك. وقد ينال الطالب النابغ ما يقرب من ثلاثين جنيها من هذه المكافآت، وقد
أخذت
من هذه المكافآت كل سنة ما يقرب من ٢٥ جنيهاً كنت أتبحبح فيها في حياتي. فمرة أخذتها
على
كتاب إميل القرن التاسع عشر، ومرة أخذتها على حفظ مقصورة ابن دريد وشرحها. ومرة على كتاب
مختصر صبح الأعشى. هذا عدا مكافآت كانت تعطى لمن يأخذ أحسن درجة في أي علم من العلوم
الرئيسة. وكل يوم ثلاثاء عصراً تصف الكراسي في فناء المدرسة ويدعى أستاذ من الخارج أو
من
المدرسة أو طالب من المتقدمين لإلقاء محاضرة في موضوع أعده، وأحياًنا يشترك في سماع هذه
المحاضرات سعد زغلول أو قاسم أمين أو غيرهم من الكبراء، فيلقي علينا مثلا «رفيق بك» محاضرة
في «قضاء الفرد وقضاء الجماعة»، ويلقي علينا الشيخ الخضري محاضرة في «أبي مسلم الخراساني»
مرة وفي الغزالي مرة وفي «زياد ابن أبيه» مرة. ويلقي علينا العمروسي بك محاضرة في «هربرت
سبنسر» مرة وفي «بستالوتزي» مرة وهكذا.
ويتحين عاطف بك بركات فرصة الفسحة أو فرصة وجود بعض الطلبة في المكتبة فيقف ويلتف
حوله ما
شاء من الطلبة، فيخلق موضوعا يحاورهم فيه ويحاورونه؛ ويتشعب الموضوع، ويطول الجدل حتى
يدق
الجرس، فيكون من ذلك درس على طريقة سقراط، وكان رحمه الله طويل النفس في الجدل قوي الحجة،
لا يكل في ذلك ولا يمل، وهي شيمة عرفت في أسرة سعد باشا زغلول كلها، مثل سعد زغلول، وفتحي
زغلول، وعبد الرحمن زغلول، وعاطف بركات، يلذهم الجدل حتى في الموضوع الذي لا يحتمل الجدل،
ويشققونه ويفرعونه ويعمقونه، فيكون من ذلك متعة عقلية تلذ المؤيد والمعارض.
قضيت زماني في هذه المدرسة جداً لا هزل فيه وتعباً لا راحة معه، وكانت المدرسة قاسية
عنيفة لا ترفيه فيها؛ فدرس في النهار وتحضير في الليل، حتى أوقات الألعاب الرياضية كنا
نؤديها في عنف كأنها أشغال شاقة. فلو طبقت هذه النظم على مدرسة عسكرية لاستجارت منها،
ولو
طبقت على مدرسة اليوم لقابلها الطلبة كل ساعة بإضراب جديد. وقد صبرت على هذا الدرس فلم
أسترح نهاراً ولا ليلا، ولا جمعة ولا عيداً، حتى ولا في الإجازة الصيفية، إذ كنت أعكف
على
الكتب التي قررت للمسابقات فأختار منها وأدرس ما أختار لأمتحن فيه أول العام، وزاد من
تعبي
ما أصبت به من الغيرة، وكنا اثنين في الفصل كفرسي رهان نتسابق في غير كلل، وكان
٥ خيراً مني في العلوم الأزهرية وأنا خير منه في العلوم العصرية، فسبقني في
السنتين الأوليين وسبقته في السنتين الأخريين، وكان إذا سبقني حزنت حزًنا عميًقا، وإذا
خلوت
إلى نفسي فر الدمع من عيني، فما لقيته من هذا الزميل في السباق كان أشد على نفسي مما
لقيته
من المدرسة وما فيها من عناء.
لا أذكر أني رفهت عن نفسي إلا أياماً كنت أخرج إلى كوبري قصر النيل حتى إذا توسطته
وقفت
زمًنا أستنشق هواءه وأستمتع بمنظره، ثم أسير إلى آخره فأميل ذات اليمين وأمشي بين الأشجار
والنخيل والنهر حتى أصل إلى مسجد هناك أصلي فيه المغرب أو العشاء ثم أعود من حيث
أتيت.
وأحياًنا في ليلة الجمعة كنت أغشى منزل صديقي الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكان منزلا
يحتفظ
بالتقاليد القديمة لبيوت الأسر الكبيرة، يكثر زوارها وتمد موائدها غداء وعشاء، ويطيب
فيها
السمر، ويطول فيها السهر، فكان أصدقاء الشيخ من الشبان ينفردون بحجرة في البيت يتلاقى
فيها
شبان الأزهر بشبان الحقوق ببعض الشبان الذين يتعلمون في أوروبا، فتثار المسائل على اختلاف
ألوانها دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية حيثما اتفق، نتبادل فيه الآراء والأفكار؛ وترى
إذ
ذاك آراء المحافظين تناطح آراء الأحرار المتمدنين، ومؤيدي السفور ينازعون مؤيدي الحجاب،
والوطنيين يثورون على الرجعيين، وهكذا من سمر لذيذ يمتد إلى منتصف الليل فتكون من ذلك
متعة
عقلية وروحية لطيفة.
ومرتين أو ثلاثا جمعت كل قواي، وحفزت كل همتي وقاومت كل خجلي، فذهبت إلى استماع الغناء
في
صالة تسمى «ألف ليلة» بالأزبكية من مغنية اسمها «الست توحيدة»، واتخذت كل الوسائل للاختفاء،
لأن من رُئي وعلمت به المدرسة كان عرضة للتأنيب والعقاب — هذا كان كل ترفيهي، أما ما
بقي من
وقتي فللدراسة وللمدرسة.
بل زدت نفسي إرهاًقا بدراسة أخرى، فقد كانت الجامعة المصرية الأهلية قد ولدت في السنة
التي ولدت فيها مدرسة القضاء عقب جدال عنيف في المجالس والصحف، وكان موضوع الجدل غريباً
حًقا ظريًفا حًقا: هل من الخير لمصر أن تتوسع في التعليم الأولي فتنشئ الكتاتيب، أو تؤسس
التعليم العالي فتنشئ الجامعة، كأنهما ضدان لا يمكن الجمع بينهما؟ ولكنها السياسة
الإنجليزية، أرادت أن تصرف الأنظار عن التعليم الجامعي لأنه يخرج قادة الرأي في الأمة،
فابتدعت فكرة التعليم الأولي وأولويته، وظلت المناقشة طويلا، وكان اللورد كرومر يؤيد
التعليم الأولى ويعارض في إنشاء الجامعة، فأسرع مديرو المديريات ومأمورو المراكز والعمد
وأعيان البلاد إلى إنشاء الكتاتيب طوعاً لإشارة كبار الإنجليز، وأخيراً تقدم داع
٦ يدعو إلى إنشاء الجامعة ويتبرع بخمسمائة جنيه بشرط أن يتبرع عدد كبير بمال
كثير، وتحمس بعض الكبراء وعقدوا اجتماعاً حضره سعد زغلول وقاسم أمين والشيخ عبد العزيز
شاويش ومحمد بك فريد وغيرهم، واكتتبوا بمبلغ من المال لا يزيد عن خمسة آلاف جنيه، وأنشئوا
الجماعة واختاروا رئيسها سعد زغلول.
فلما عين ناظراً للمعارف اختير لها الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد).
ثم نمت الجامعة واستدعي لها بعض كبار المستشرقين واختير لها بناء هو بناء الجامعة
الأمريكية اليوم. فأعجبني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند
العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا
العربية يلقيها الأستاذ جويدي، وكنت أحضر هذه المحاضرات لماماً في غير انتظام ولا التزام،
لثقل العبء علي بمدرسة القضاء. ولكن على كل حال رأيت لوًنا من ألوان التعليم لم أعرفه:
استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين
ما
يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك.
وختمت حياتي المدرسية بموقف غليظ عنيف ثقيل، ذلك هو يوم الامتحان النهائي، فكلما
كان
أساتذة المدرسة مختلفين متنوعين كانت لجان الامتحان مختلفة متنوعة: لجنة من كبار العلماء
الأزهريين، فيهم المفتي وشيخ المالكية وشيخ الحنابلة وبعض كبار القضاة، ولجنة من كبار
رجال
القضاء الأهلي فيهم فتحي باشا زغلول وعبد العزيز باشا فهمي، ولجنة من رجال العلم المدني،
عالم في الرياضة وعالم في الطبيعة وعالم في التاريخ وهكذا، ولكن كان أثقلها وأبغضها اللجنة
الأولى، فأما الامتحان التحريري فقد مضى في سهولة ويسر وكنت الأول، وأما الامتحان الشفوي
في
لجنة الأزهر فكان موضوعات معينة في كل من العلوم الأزهرية: موضوع في النحو وآخر في البلاغة
وثالث في أصول الفقه ورابع في المنطق، وهكذا، وكل موضوع عبارة عن جملة أو جملتين من كتاب،
تعين للطالب قبل الامتحان بعشرة أيام. فمثلا في البلاغة جملة «واستغراق المفرد أشمل،
بدليل
صحة — لا رجال في الدار — إذا كان فيها رجل أو رجلان دون لا رجل»، وهكذا في سائر العلوم
أخذت هذه الموضوعات وقرأتها وفرغت منها كلها في يومين وليلتين، ولم أدر ما أصنع بالأيام
الثمانية بعد، ولكن بعد ثلاثة أيام مر علي في بيتي شيخ أزهري
٧ من كبار مدرسيه كما مر على زملائي ليعرف كيف يحضرون موضوعاتهم، فسألني أسئلة لا
أعرف من أين أتت ولا كيف تتصور ولا كيف يجاب عنها، فخاف علي من الرسوب في الامتحان، وزارني
بعد ذلك مرتين أو ثلاًثا يلقي على هذه الأسئلة العجيبة والأجوبة الغريبة، ومع ذلك لم
أتقدم
كثيراً. وكان يوماً أيوم يوم أديت هذا الامتحان، فقد جلس هؤلاء الأساتذة الستة أو السبعة
لا
أدري على الأرائك متكئين، وفرشت لي فروة على الأرض جلست عليها متربعاً، وبدأت أقرأ في
الكتاب الأول، وأشرح جوهر الموضوع شرحاً صحيحاً، ولكن سرعان ما انهالت علي الأسئلة من
كل
جانب فأجيب حيًنا وأعرق حيًنا، وأذكر من هذه الأسئلة: أن المؤلف لم قال «أي» ولم يقل
«أعني»؟ فلم أحر جواباً وهكذا. وهي أسئلة محفوظة مرن عليها الطلبة والأساتذة المتعمقون
في
الدراسة الأزهرية، ولم أمرن عليها لأني اعتمدت في دراستي على أبي. وأبي أنقذني من الحواشي
ومن مثل هذه الأسئلة. وجلست هذه الجلسة على الفروة ست ساعات متواليات لا تتخللها راحة
ولا
شرب كوب ماء، وكل من الممتحنين يخرج من حين إلى آخر يتمشى ويتروض، ومن حين إلى آخر تقدم
لهم
القهوة والليمون وما إلى ذلك ولا يقدم لي شيء. وأخيراً أفرج عني وسمح لي بالخروج، فلما
حاولت القيام لم أستطع أن أمد رجلي ولا أعدل قامتي، وأخذت في ذلك زمًنا طويلا حتى عرفت
كيف
أقوم وكيف أمشي، ولم أدر كيف ذهبت إلى بيتي وكيف قضيت بقية نهار وليلي. ومهما كان الأمر
فقد
نجحت ولكن تأخر ترتيبي من الأول إلى السادس. وكان هذا الامتحان الأزهري على هذا الوجه
الشاق
أول امتحان في مدرسة القضاء وآخره، فبعده احتج عاطف بك فسهل الامتحان وقصرت مدته وتساهل
الممتحنون في درجاته.