الفصل الخامس عشر
هذا أنا ومدرستي. أما أنا وبيتي فقد كان بيتي هادئًا مطمئًنا سعيداً سعادة سلبية، وأعني بالسعادة السلبية السعادة الخالية من الآلام. أما السعادة الإيجابية من فرح ومرح وضحك ونحو ذلك فقد كان بيتنا خالياً منها تقريباً، لإفراط أبي في جده وحبه للعزلة وعكوفه على القراءة أكثر وقته.
وكان بيتنا يتألف من أبوي وأنا وأخ وأخت يكبرانني وأخ وأخت يصغرانني.
كان أخي الأصغر شاباً مرحاً ذكياً مملوءاً بالحياة. كثيراً ما يثور على تقاليد البيت التي وضعها أبي، فهو يتأخر عن موعد العودة، وهو يذاكر ويلعب ويجد ويهزل. وكان ذلك يغيظ أبي فيكثر بينهما الجدال والخصام ويزداد ذلك فيصل إلى حد الضرب — علمه أبي كما علمني، والتحق بمدرسة تابعة للأوقاف تجمع في تعليمها بين العلوم الدينية والمدنية. ثم تخرج منها والتحق بمدرسة القضاء في القسم الأول، إذ كانت مدرسة القضاء تنقسم إلى قسمين: قسم أول ومدته خمس سنوات، وقسم عال ومدته أربع سنوات، وهذا الأخير هو الذي التحقت أنا به، وكان أخي في السادسة عشرة من عمره، وقضى السنة الأولى في المدرسة بنجاح، وتفوق في الرياضة فنال جائزتها. وجاء الصيف وجاءت الإجازة، ودعاني صديقي من شبين الكوم أن أقضي عنده أياماً ففعلت، ورجعت فوجدت البيت واجماً، ووجدت أخي هذا قد بسط له فراش في وسط الغرفة وهو لا يكاد يعي من ارتفاع حرارته، ومن حين لآخر يتألم ويتأوه، وكل من في البيت خائف مرتعب — ذهبت من فوري إلى الطبيب واستدعيته فحضر وفحصه فحصاً طويلا ثم هز رأسه، ونزلت معه أستفسر عن الحال، فقال إنها الحمى التيفودية والحالة خطيرة، ولا تمكن العناية به في مثل هذه الحالة إلا إذا نقل إلى مستشفى الحميات، ووصف الدواء وطريقة العلاج وانصرف، ورجعت إلى أمي وأبي في خوف وقلق أشير عليهما بنقله إلى المستشفى فرفضا، فالمستشفى كلمة مرعبة مقرون اسمها في ذهنهما وفي ذهن الشعب كله بالموت، وهم لا يسمونه بالمستشفى كما نسميه، ولكن يسمونه «الأشلاء»، وحاولت طويلا أن أفهمهما المستشفى ومزاياه وشدة عنايته بالمرضى واشتد منا القلق وانقبضت نفسي انقباضاً شديداً حتى لأحسست أن روحي تكاد تخرج من بين جنبي، وأخرج من البيت ولا أدري أين أذهب، وأعود ولا أدري لم عدت، لم يغن الطبيب ولم يغن الدواء واشتد الحال سوءاً، وأخيراً وبعد كرب شديد لفظ نفسه الأخير. وقامت قيامة البيت، وامتلأ عويلا وصراخاً؛ فأما أمي فتلطم وجهها حتى تسقط مغشياً عليها، وأما أبي فيحترق قلبه في الباطن ويتجلد في الظاهر، وتعد العدة لدفنه وتسير جنازته إلى الإمام حيث أعد أبي مدفنه، ويرفض أن يقيم مأتماً وأن يقابل أحداً، فأقيم المأتم وأقابل الناس وينقلب بيتنا محزنة. وكل خميس تجتمع النساء للعويل والصراخ وتدعى (المعددة) تغني غناء حزيًنا بكلام يثير الشجون، ويقطع القلوب، فلما فرغت (خمساننا) التزمت أمي أن تذهب كل خميس إلى بيت مأتم، تعرف أهله ولا تعرفهم، فكل المآتم سواء، وكل الحزانى أصدقاء، وتنفرد بنفسها (فتعدد) المعددة، وكل شيء يلهمها البكاء — حجرته التي ينام فيها، ومكتبه الذي كان يذاكر عليه، وكتبه التي كان يذاكر فيها، وأصدقاؤه الذين كان يلقاهم وكل شيء يذكرها به؛ موعد الأكل وموعد الخروج إلى المدرسة، وموعد العودة منها، فأما أبي فقد صبر على حزن دفين، حتى أبى إلا أن يغسله بيده ويدفنه بيده، وكانت سلواه أن يكثر من تلاوة القرآن ويهب ما يقرؤه إلى روحه، وسمع بكتاب للسيوطي اسمه «فضل الجلد عند فقد الولد» فنسخه بيده، يتصبر بقراءته وكتابته، وأما أنا فقد وضع هذا الحادث على عيني منظاراً أسود، فلا أرى في الدنيا إلا السواد، ولا أحب أن أسمع من الأصوات إلا صوت البكاء، فالشجرة الناضرة إلى ذبول، والحياة المبتهجة إلى فناء، والحمامة إذا غنت فإنما تبكي، والسعيد إنما يسعد ليشقى. وانقلبت في عيني قيم الأشياء، فهذا الذي يكسب المال لم يكسبه؟ وهذا الذي يعمل لم يعمل؟ والناس مجانين إذا تخاصموا، ومجانين إذا لهوا أو ضحكوا، فالدنيا لا تزن جناح بعوضة، وخير للناس أن يقضوا حياتهم من غير اكتراث حتى يدركهم الموت؛ واستولى هذا الحزن علي أسابيع بل أشهراً حتى سميت في مدرستي «بمالك الحزين» فإذا نسيت الحزن بعض الوقت في مدرستي ذكرته في بيتي من منظر أمي، ولا تسل عن موقف دقيق وقفته وحرت في التصرف فيه. فقد أتى موعد صرف مكافأة المسابقات في المدرسة، وكان أخي هذا الذي مات يستحق مكافأة الرياضة، وهي لا تصرف إلا بإمضاء مستحقها فإذا لم يكن فإمضاء أبيه، وأنا وأثق أني إذا أخبرت أبي فإنما أشعل في قلبه ناراً جديدة، وأعيد عليه يوم مأتمه من جديد، ففضلت أن أترك المكافأة وألا أخبر بها أبي، ومضت سنة وبضعة أشهر والحزن يتحول من نار مشتعلة إلى نار هادئة قد علاها بعض الرماد، وجاء رمضان وأنا في السنة الثالثة في مدرسة القضاء فنغر الجرح الذي لما يندمل، واشتعلت النار التي لم تنطفئ.
كان أخي الكبير في نحو الخامسة والثلاثين من عمره وكان رجلا صالحاً طيب القلب مشرق الوجه في نضرة وحمرة، ولكنه كان محدود الذكاء، لم يضطرب أبي في تعليمه اضطرابه في تعليمي، ولم يتردد بين مدرسة وأزهر كما تردد في، فقد حفظ القرآن والمتون، والتحق بالأزهر واستمر فيه وفي دراسته الطويلة نحو عشرين عاماً، يتنقل بين كتب الأزهر ومشايخه، حتى إذا أتم الدراسة خاف من الامتحان النهائي، فهو يقدم ثم يحجم ثم يقدم ويحجم، لا يجذبه الطموح ولا يدفعه إلى المغامرة حب المجد، قد تزوج وخلف ابًنا وبنًتا، وهو وأهله يقيمون معنا في البيت، وحياته بين بيته ومسجده وأزهره؛ فلما جاء رمضان هذا كان برنامجه أن يصوم النهار ويصلي صلاة التراويح في المسجد ويعود إلى منظرة البيت يقرأ فيها القرآن وحده أحياًنا ومع صديق له مكفوف البصر أحياًنا حتى السحور، ثم يتسحر وينام إلى قريب من الظهر، وهذا دأبه.
ففي ليلة من أواخر رمضان صلى أخي العشاء والتراويح كما كان يصلي، وعاد إلى البيت يقرأ القرآن كما كان يقرأ، وتناول سحوره، كما كان يتناول ثم نام ونمنا، وبعد قليل سمعنا صرخة قمنا لها مذعورين، وذهبنا إلى مصدر الصوت، فإذا هي زوجته تصرخ، وإذا هو ممدود على الأرض لا يعي، وتناديه فلا يسمع وتستجوبه فلا يجيب، وليس فيه إلا نفس يتردد، فحملناه إلى سريره وقضينا آخر الليل في رعب لا يوصف، وبكاء لا ينقطع، وحزن ذكر بحزن، فلما أصبح الصباح ذهبت إلى أكبر طبيب إفرنجي مشهور وسألته أن يذهب معي مبكراً، ورأى لوعتي فقبل رجائي، وحضر معي إلى البيت وكشف على المريض فلما تبعته أخبرني أنه انفجار في المخ نشأ عنه شلل في النصف الأيسر ووصف له الدواء فأحضرته، وقمت على علاجه أعنى بشأنه، وأناوله الدواء في موعده حتى أخذ يتحسن في بطء، وتحرك لسانه في ثقل، وحرك يده ورجله في تخاذل، ومشى مشية الصبي بدأ يتعلم، وخرج من البيت يجر رجله وحالته في تحسن مستمر والطبيب يعوده من حين إلى حين، ولكن ما لبث نحو شهرين حتى انتكس، وأصيب ثانية أشد مما أصيب أولا، واستحضرت له الطبيب نفسه فقلب كفيه يخبرني ألا أمل. وكانت النهاية، وكان الحزن شديداً وكانت المصيبة قاسية، وكانت النصال تتكسر على النصال، ولم يجد أبي وأمي من سلوى إلا أن يحجا ويقفا بعرفة ويزورا المدينة ويضعا أيديهما على ضريح النبي صلى الله عليه وسلم يسألان الرحمة للفقيدين والصبر للأبوين.