الفصل السابع عشر
عدت إلى مدرسة القضاء كما كنت، ودرست كما كنت أدرس، أهم دروسي الأخلاق، وبجانبها فقه أو تاريخ أو منطق.
وأحسست ثانية حاجتي الشديدة إلى لغة أجنبية، فدروسي في الأخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن الإنجليزية، وأنا شيق إلى أن أتوسع فيها، ومن حولي من الأساتذة العصريين يستفيدون أكبر فائدة في مادتهم التي يحضرونها من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وقد أخفقت في تعلم الفرنسية، فلأجرب حظي في الإنجليزية.
واشتريت الكتاب الأول، وتولت تعليمي سيدة إنجليزية يظهر عليها أنها فقيرة الحال، تحسن الإنجليزية لأنها إنجليزية، وإن لم تكن مثقفة إلا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك مجهوداً شاقا، أقرأ في البيت وأحفظ في الطريق وأذاكر إذا كنت مراقباً في الامتحان أو مشرًفا على حصة ألعاب رياضية؛ والدراسة بهذا الشكل عسيرة إذ لم أكن في فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم أكن في بيئة تعود سمعي اللغة، ويقول لي الشيخ الخضري؛ لقد جرب هذه التجربة مئات من طلبة دار العلوم، فساروا خطوات ثم وقفوا، ولم ينجح منهم إلا من كان بعثة إلى إنجلترا؛ فقلت له سأجرب كما جربوا ولكن سأنجح إذا فشلوا.
ووقفت إلى سيدة إنجليزية كان لها أثر عظيم في عقلي ونفسي.
ابتدأت أدرس معها الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز، أقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما أخطأت، ثم أضع الكتاب وأحدثها وتحدثني في أي موضوع آخر يعرض لنا، ولا أدري لماذا لا يعجبها مني أن أضع العمامة بجانبي إذا اشتد الحر، بل تلزمني دائماً بوضعها فوق رأسي. ونستمر على ذلك نحو الساعتين أتكلم قليلا وتتكلم كثيرا، ١وتنفق أكثر ما تأخذه مني في أشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض أصحابها الإنجليز من رجال ونساء إلى الشاي، وتدعوني معهم لأتحدث إليهم ويتحدثوا إلي، فأسمع لهجاتهم ويتعود سمعي نطقهم، وأصغي إلى آرائهم وأفكارهم وأقف على تقاليدهم، ومرة ترسلني إلى سيدة إنجليزية صديقة لها أكبر منها سًنا قد عدا عليها المرض فألزمها سريرها لأتحدث إليها. تقصد بذلك أن هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجاً من كربتها، وأنا أجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام، فأستمع إلى قولها الإنجليزي الكثير رغم أنفي.
وتوثقت الصلة بيننا فكأنني من أسرتها، وهي لا تعنى بي من ناحية اللغة الإنجليزية وآدابها فحسب، بل هي تشرف على سلوكي وأخلاقي. لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على إصلاحهما، ووضعت لي مبدأين تكررهما علي في كل مناسبة.
رأتني شاباً في السابعة والعشرين أتحرك حركة الشيوخ، وأمشي في جلال ووقار، وأتزمت في حياتي، فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئا حتى من اللهو البريء وأصرف حياتي بين دروس أحضرها ودروس ألقيها، ولغة أتعلمها، ورأتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق، ورأتني لا أبتهج بالحياة ولا ينفتح صدري للسرور، فوضعت لي مبدأ هو: «تذكر أنك شاب» تقوله لي في كل مناسبة وتذكرني به من حين إلى حين.
والثاني أنها رأت لي عيًنا مغمضة لا تلتفت إلى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال انسجام وترتيب، فوضعت لي المبدأ الآخر: «يجب أن يكون لك عين فنية» فكنت إذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس وأتكلم في موضوعه صاحت في: «ألم تر في الحجرة أزهاراً جميلة تلفت نظرك وتثير إعجابك فنتحدث عنها؟» وكانت مغرمة بالأزهار تعنى بشرائها وتنسيقها كل حين، وتفرقها في أركان الحجرة وفي وسطها، ويؤلمها أشد الألم أن أدخل على هذه الأزهار فلا أحييها ولا أبدي إعجابي بها وإعجابي بفنها في تصفيفها.
ويوماً آخر أدخل الحجرة فأتذكر الدرس الذي أخذته في غزل الزهور فأحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل ما أحضرت من أزهار، فتلتفت إلي وتقول: «أليست لك عين فنية؟» أعجب من هذا الاستنكار، وقد حييت الأزهار، فتقول: ألم تلحظ شيئًا؟ فأجيل عيني في الحجرة وقد غير وضع أثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا، وكانت الأريكة هنا فصارت هاهنا، وتقول: قد سئمت الوضع القديم وتعبت عيني من رؤيته، فغيرت وضعه لتستريح عيني، وهكذا..
لازمتها أربع سنوات، استفدت فيها كثيرا من عقلها وفنها ولكني لا أظن أنني استفدت كثيراً من تكرارها على سمعي أن أتذكر دائماً أني شاب.
انتهيت من الجزء الثالث، واخترت أن أقرأ معها كتبا أخرى، في الأخلاق أحياًنا وفي الاجتماع أحياًنا، وفي آخر المرحلة قرأت معها فصولا كثيرة من جمهورية أفلاطون بالإنجليزية، فكان هذا الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها؛ فكنت أقرأ الفصل فتشرحه لي، وتبين ما طرأ على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه إلى اليوم، وكيف طبق هذا المبدأ في المدنية الحديثة في الأمم المختلفة، وهكذا.
ولا أدري ما الذي انتابها فقد رأيتها تكثر من القراءة في كتب الأرواح، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر لي أنها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها، أو تجرب تجربة أخرى أن ترسل من روحها إشارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه أن يحضر أو لا يحضر، وأن يعد كذا أو لا يعد، وهكذا، وقد نجحت في بعض الأحوال دون بعض فلم تشأ أن تعتقد أن هذا مصادفة؛ ولكنها اعتقدت أن ما نجحت فيه فإنما نجحت لأن الأمر قد استوفى شروطه، وما لم تنجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وأمعنت في تركيز روحها، كل ذلك وأنا أنصحها ألا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لأنها تأمل أن تصل من ذلك إلى نجاح باهر.
وذهبت إليها يوماً فرأيتها مصفرة الوجه مضطربة الأعصاب خفاقة العينين، فسألتها عما بها، فأخبرتني أنها ذهبت اليوم صباحاً إلى كوبري قصر النيل وهمت أن ترمي نفسها في النيل، ثم رأيتها تذكر لي أنها أخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة أخرى، فخرجت من عندها آسًفا باكياً، واتصلت بطبيب للأمراض العقلية فحضر ورآها، وأخبرني أنه لابد من إرسالها فوراً إلى مستشفى المجاذيب، وكذلك كان. وكنت أعودها من حين إلى حين، فإذا جلست إليها تحدثت كعادتها حديًَثا هادئًا معقولا، وسألتها مرة: ماذا بها؟ فقالت، لا شيء بي إلا أنني فقدت الإرادة فإذا أطلق سراحي الآن لا أدري أين أتجه، ثم تولت أمرها القنصلية الإنجليزية فأسفرتها إلى بلدها. وأخيراً — وبعد نحو سنتين — جاءني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع إيطالي ففضضته فإذا هو من «مس بور» تخبرني أنها شفيت من مرضها، وأنها الآن في روما، تتمتع بجمال مناظرها ودقة فنونها وروعة كنائسها، فرددت عليها فرحاً بشفائها، ثم انقطعت عني إلى اليوم أخبارها رحمها الله.
وفي هذه الفترة التي كنت أدرس فيها مع «مس بور» جاءني صديق وقال إنه يعرف أسرة إنجليزية تتكون من زوج وزوجة يريدان أن يتعلما العربية وأنا أعلم الزوج فهل لك أن تعلم الزوجة؟ قلت: لا أعلمها بمال ولكن أتبادل معها، فأعلمها العربية وتعلمني الإنجليزية، وعرض عليها ذلك فرضيت.
وكنت أرتقب موعد هذا الدرس بشوق ولهفة، وكانت هذه السيدة تغذ عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما كانت «مس بور» تغذي عقلي بثقافتها وإطلاعها وتجاربها.
كنت أحدثها يوماً، وقد قامت الحرب العالمية الأولى فزل لساني ونقدت الإنجليز نقداً خفيًفا أمامها، فما كان منها إلا أن دمعت عينها وقالت في رقة: «أتعيب قومي وأمتي»! فخجلت خجلا شديداً وقدرت طينتها التي يجرحها النسيم، ولم أعد بعد لمثلها، واستمررت على ذلك أكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدراً لا بأس به من العربية. وكان يصعب عليها النطق بالعين فكانت تقول: إن عينكم تؤلمني، كنت أقول في نفسي مثل قولها. وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية — نقد لا ندركه نحن لأنها لغتنا. نشأنا فيها ورضعناها مع لبن أمنا وألفناها منذ صغرنا. قالت لي مرة: إن اللغة العربية غير منطقية، ألا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر وهو لطيف وديع: فأولى أن نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا. وقالت مرة: ألا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب، وتقول ألف كتاب، وكان الأولى ما دامت تقول ثلاثة كتب أن تقول ألف كتب. وهكذا من طرائفها الظريفة. واشتدت الحرب فجند زوجها، وانقطع عني خبره وخبرها.
ماذا كنت أكون لو لم أجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فأصبحت ذا عينين، وكنت أعيش في الماضي فصرت أعيش في الماضي والحاضر، وكنت آكل صنًفا واحداً من مائدة واحدة فصرت آكل من أصناف متعددة على موائد مختلفة، وكنت أرى الأشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها ألوان أخرى وطعوم أخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد، لو لم أجتز هذه المرحلة ثم كنت أديباً لكنت أديباً رجعياً، يعنى بتزويق اللفظ لا جودة المعنى، ويعتمد على أدب الأقدمين دون أدب المحدثين، ويلتفت في تفكيره إلى الأولين دون الآخرين، ولو كنت مؤلًفا لكنت جماعاً أجمع مفترًقا أو أفرق مجتمعاً من غير تمحيص ولا نقد. فأنا مدين في إنتاجي الضعيف في الترجمة والتأليف والكتابة إلى هذه المرحلة بعد المراحل الأولى، وهذه الزهرة الجديدة ألفت باقة مع الأزهار القديمة.