الفصل التاسع عشر
وله علم بالكتب وموضوعاتها وقيمتها، وله ميزة عن غيره من تجار الكتب العربية بأنه يعرف الكتب العربية التي طبعها المستشرقون في أوربة، يستجلبها في سهولة ويسر لحذقه الكتابة باللغة الفرنسية، وناشرو هذه الكتب يثقون به لصدق معاملته، كما أن له ميزة أخرى وهي معرفته بهواة الكتب من زبائنه، فهذا الكتاب يناسب فلاًنا، وهذا الكتاب لا يناسب فلانا وإذا أتاه كتاب حجزه للذي يظن به الانتفاع منه؛ وله في ذلك طبع غريب فهو يرضى أن يبيع الكتاب لهاويه الذي ينتفع به بجنيه، ولا يرضي أن يبيعه لمن لا ينتفع به بجنيهين. وهو مشهور بين زملائه بالزندقة، لأنه لا يعترف بالأولياء ولا بالأضرحة ولا بزيارة القبور ونحو ذلك، ثم هو لا يكتم عقيدته في نفسه، بل يكررها في كل مناسبة؛ ركب مرة قطاراً من مصر إلى الإسكندرية، وجلس مع جماعة في صالون فلما وصل القطار إلى طنطا قال أحد الحاضرين: الفاتحة للسيد البدوي، فصاح هذا الكتبي: ومن يكون السيد البدوي وما كراماته وما قيمته! وطال لسانه فقام عليه الحاضرون وأوسعوه ضرباً. ولم ينج منهم إلا بعد عناء. وهكذا وهكذا من فصوله الغريبة. وهو أمين صادق المعاملة يقنع بكفاف العيش، وبساطة اللباس. إن ضاقت عليه الدنيا لبس جلباباً بدل البدلة. ولم يعبأ بأسرته الكبيرة لتغير من شكله.
ولست أنسى مرة حادثا غريباً في بابه حدث لي من جراء هذه المكتبة، وبعض أحداث الدنيا يحدث على غير انتظار ومن غير سابق مقدمات. وإذا كان الموت — وهو القاضي على الحياة قد يحدث فجأة في أشد أوقات السرور، فأولى أن تحدث الأزمات مما دونه من الحوادث. لقد كان عندي كتاب «نفح الطيب» طبعة برانية وأردته طبعة أميرية، ووجدت عند صاحبنا هذا نسخة لطيفة مجلدة تجليداً فخماً، فاشتريتها منه وهي أربعة مجلدات وضعتها تحت إبطي الأيسر، وأمسكت جريدة المؤيد بيدي اليمنى، وانتظرت عربة كانت تسمى عربة سوارس — عربة كبيرة تجرها الجياد من سيدنا الحسين إلى العتبة الخضراء — فجاءت مزدحمة، وركبتها فوجدت في ممشاها قفًَفا لفلاحات وأخراجاً لفلاحين ورفعت رجلي أتخطى قفة من القفف فمست سيدة جالسة تلتفع بملاءة لف وعلى وجهها برقع بقصبة، فصاحت بي وأمطرتني وابلا من السباب، فغضبت، وضربتها ضربة خفيفة بجريدة المؤيد على فمها أقول لها اسكتي، فراعني أنها صوتت صوًتا مرعباً لفت كل من في الشارع، ووقفت العربة واجتمع الناس يتعرفون الخبر، ونادت البوليس وصممت عليه فنزلت ونزلت وحضر البوليس وركبنا عربة إلى القسم، ودخلنا غرفة المعاون فسمع مني وسمع منها، ورأى المسألة بسيطة فطلب مني أن أعتذر وسألها أن تقبل العذر، فلم تقبل، فألح عليها فلم تقبل أيضاً، فاضطر أن يحرر بذلك محضراً رسمياً، وأخذ أقوالي وأقوالها، وألحت أن تحال على طبيب المحافظة لأن بها خدشاً في أنفها من ضربة الجريدة، ففعل وخرجِتْ وخرجتُ مضطربا مرتبكا خجولا خائفا، فقد كان هذا أول حادث من نوعه، فلم أدخل يوماً مركز البوليس فكيف والشاكي امرأة!! ولعنت الكتب ونفح الطيب وأشباه نفح الطيب مما جر علي هذا البلاء المبين، وبقيت أياماً قلًقا مضطرباً لا أدري ماذا يفعل بي، وإذا بإعلان يجيئني بأني اعتديت على السيدة اعتداء أحدث بها جرحاً قرر الطبيب لعلاجه واحداً وعشرين يوماً، فاعتبر الواقعة جنحة مغلظة، وحددت لها جلسة فارتجفت وقضيت ليلة أليمة لم تذق فيها عيني النوم، وفي الصباح ذهبت إلى صديقي أحمد بك أمين أستشيره فيما أفعل فذهب معي إلى وكيل نيابة الأزبكية وقصصنا عليه الأمر، فقال إن المسألة خرجت من يده لأن القضية أعطيت نمرة خاصة مسلسلة وسجلت في دفاتر النيابة وحددت لها جلسة وأعلن ذلك كله إلى المتهم فأصبح أمرها متصلا بالقاضي وخرجت بهذه الإجراءات من سلطان النيابة.
فزادني ذلك ارتباكاً واضطرابا بالنهار وأرًقا بالليل، وأخيراً ذهبت بعريضة الدعوة إلى عاطف بك وشرحت له القصة فضحك منها ومني وأخذني معه إلى وكيل وزارة الحقانية فتحي باشا زغلول فبذل في ذلك مجهوداً حتى انتهى الأمر؛ فويل للناس من النساء إذا انتقمن.
وأما المكتبة الإنجليزية فمكتبة مرتبة منظمة صاحبها كنا نسميه الأستاذ فرج ليس فيها موضع لجلوس ولا قهوة ولا تدخين، ولا حديث لصاحبها إلا كتاب يباع وثمن يدفع، قد صف فيها الكتب صفا فنيا؛ فهذا مكان القصص، وهذا مكان لكتب الاجتماع، وهذا مكان لعلم النفس وهكذا. وإذا سألت صاحبها عن كتاب اتجه يميًنا أو يساراً ونظر نظرة فاحصة في ثانية ومد يده فاخرج الكتاب أو قال لك ليس عندي، قد عشقت هذه المكتبة أول عهدي بالإنجليزية، وتلذذت من زيارتها — ولكل جديد لذة — أزورها فأقضي فيها وقًتا طويلا أتصفح فيها الكتب وأشتري منها ما يروقني، وقد كونت منها نواة لمكتبتي الإنجليزية، وأكثر ما اشتريت منها كتب في علم الأخلاق لأستعين بها على تحضير دروسي؛ وكتب في علم الاجتماع، إذ شوقني إليها قراءتي مع «مس بور» جمهورية أفلاطون، وكتب في مبادئ الفلسفة، إذ كانت الأخلاق والاجتماع فرعين من فروع الفلسفة، وكتب في المنطق لأني أردت أن أعرف كيف يكتب الإفرنجي في المنطق بعد أن عرفت كيف يكتب العرب، وكتب في الإسلاميات مما كتبه المستشرقون لأن هذا موضوعي.