الفصل العشرون
وكان لي بجانب هذه المدرسة من الأصدقاء — ذوي الثقافة الإنجليزية — جمعية من أصدقاء آخرين ذوي ثقافة فرنسية غالبا، عميدها صديقي المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان شيخاً للأزهر فيما بعد، ومن بينهم الدكتور منصور فهمي والمرحوم الأستاذ عزيز مرهم والأستاذ محمد كامل البنداري، والدكتور محمود عزمي وغيرهم وكان مكانها في بيته، وكان أكثر أعضائها من خريجي الجامعات الفرنسية ومما ألف بينهم إقامتهم في فرنسا وتعلمهم بها؛ وإذا كان يكثر في الجامعات الأولى ذكر شكسبير وديكنز وماكولي وبرناردشو وهـ. ج ولز، فقد كان يكثر في هذه الجمعية ذكر جان جاك روسو وفولتير وراسين وموليير ودركهايهم، وإذا كانت الجمعية الأولى تغلب عليها المحافظة والاعتدال فهذه يغلب عليها التحرر والثورة على القديم — كنا نجلس في هذه الجمعية، وقد يحضر فيها أحياًنا بعض السيدات الفرنسيات زوجات بعض المصريين، وبعض العلماء من الأزهر، ويتشقق الموضوع ويثار الجدل، ويكون الحديث مزاجاً بين حرية فرنسية واعتدال إنجليزي ومحافظة أزهرية، نتحدث في السياسة وحرية المرأة، وفي المقارنة بين فرنسا ومصر.
وكان من أعجب من عرفت في هذه الجمعية شاب تثقف ثقافة قانونية امتاز بالشجاعة الأدبية والصراحة، فكان لا يقول إلا ما يعتقد، ولا يعمل إلا وفق ما يعتقد، على حين أن كثيراً من الشبان يرون الرأي ثم لا يقولونه، وإذا قالوه لا يعملون على وفقه، كالذي سمعت أن جماعة كانوا يجتمعون في منظرة في بيت وكانوا يتجادلون في سفور المرأة وحجابها، وكان صاحب البيت أكثرهم تحمساً للسفور ودفاعاً عنه وتأييداً له، فبينما هم في المناظرة إذا بصوت سيدة عجوز هي جدة صاحب البيت يصل إلى آذان المتناظرين في المناظرة فيخجل صاحب البيت ويصعد إلى جدته يؤنبها على علو صوتها وقد نسي محاضرته في السفور.
وفي هذا العهد كثر الحديث في مجالسنا عن الزواج والأزواج والزوجات وسعادة الزوجية وشقائها وضرورتها أو الاستغناء عنها والزواج بالأجنبيات والمصريات، ورويت الأحاديث المختلفة عن فلان المتزوج الذي سعد في زواجه وفلان المتزوج الذي شقي بزواجه، وفلان الذي أضرب عن الزواج واستمتع بالحياة في أولها وشقي في آخرها وهكذا، وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة والعشرين، فصممت أن أبت في الموضوع هل أتزوج أو لا أتزوج، وأخيراً وبعد تردد طويل قررت أن أتزوج، ولكن نشأت العقدة الثانية: من أتزوج؟ وكان السفور في هذا الزمن في أول أمره لم يجرؤ عليه إلا عدد محدود من المثقفات، فكان الزواج غالباً يخضع للتقاليد القديمة؛ يسمع الشاب من صديقه أو أحد أقاربه أن لفلان بنًتا في سن الزواج، وقد يبلغه هذا الخبر من محترفة لهذه الوظيفة وهي التي تسمى «الخاطبة» وهي امرأة تزور البيوت وتتعرف أخبارها وترى من فيها من الشابات في سن الزواج أو من الشباب الذين يريدون الزواج، وتكون واسطة بين أهل الزوج وأهل الزوجة في تعريف هؤلاء بأولئك، فيتقدم أحد أقارب الشاب إلى أبي الشابة أو ولي أمرها يعرض عليه الرغبة فإذا قبل أرسل الشاب أمه وبعض قريباته من النساء لرؤية الفتاة، فإذا وصفوها وصًفا اقتنع به تقدم للزواج من غير أن ينظرها ويعرف شكلها وطباعها وأخلاقها. وإنما يعرف ذلك كله بعد عقد العقد وبعد الزفاف.
وهكذا كان الزواج في عهدي في مثل طبقتي، وكنت شاباً لا بأس بشكله ولا بأس بأسرته، فأنا وبيتي نعد من الأوساط وأنا أحمل شهادة عالية، ومرتبي نحو ثلاثة عشر جنيهاً وهو مرتب لا يستهان به في ذلك العصر، وكنت أتلمس الزواج في أمثالي من الأوساط. لا أطلب الغنى ولا أطلب الجاه، ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في الطريق، فكم تقدمت إلى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي، ولكن لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك، فكم قيل لي أن ليس عندهم مكان لعمامة. ورضي بي قوم أولا وأحبوا أن يروني، فأحببت أن أريهم أني متمدن، وذهبت إليهم أحمل كتاباً إنجليزيا، وجلست إليهم وجلسوا إلي وتحدثت عصرياً على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات إنجليزية فاستغربوا لذلك. وفهمت أنهم أعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني أن الفتاة أطلت على من الشباك وأنا خارج فرأت العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضاً باًتا أن تتزوجني رغم إلحاح أهلها. وشاء القدر أن تتزوج هذه الفتاة — فيما بلغني شاباً أنيًقا كاتباً في وزارة ولكنه سكير معربد أذاقها المرار في حياتها الزوجية ثم طلقها، ومازال سوء حالها حتى تزوجت بعامل في التلغراف وجاءت إلي وأنا قاض في محكمة الأزبكية تطلب من زوجها النفقة.
وهكذا لقيت العناء في الزواج، فكلما دلني صديق على فتاة فإما أن أجد مانعاً منها وإما أن تجد مانعاً مني، فمن أرضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا أرضاه. وأخيراً دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على بيت رضيني ورضيته، فأرسلت أمي وأختي وزوجة الأستاذ لرؤية الفتاة فرأينها ووافقن عليها، وجعلت أسأل أمي وأختي أسئلة عن شكلها وملامح وجهها وطولها وعرضها وفراستها في أخلاقها ونحو ذلك، وأستمع لإجابات لا تصور شكلا ولا توضح حقيقة وأجلس إلى نفسي وأعمل خيالي فيما سمعت، فأصوغ من ذلك شكلا. وقد أجلس معهما مرة أخرى أسمع منهما حديًثا آخر ووصًفا آخر، فأتخيل من ذلك صورة أخرى وهكذا، وأخيراً سلمت الأمر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم الخيال، وتم عقد الزواج يوم ٣ إبريل سنة ١٩١٦، وقد أخذت يوم العقد مائة جنيه إنجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة، وانتظرت نحو أربعة أشهر حتى يتم أهل الزوجة الجهاز.
وكانت هذه الأشهر الأربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والأحلام اللذيذة، وبناء القصور على الآراء الفلسفية أو النظريات المدونة في الكتب، فأنا أزور المكتبة الإنجليزية وأبحث عما كتب في الزواج، فأعثر — مثلا — على سلسلة من الكتب أحدها فيما ينبغي للزوج أن يعلم، وثانيها فيما ينبغي للزوجة أن تعلم وهكذا. ثم أجد كتاباً في الزواج السعيد وآخر في الأسرة، وثالًثا في تربية الطفل فأقرؤها وأفكر فيها وأستخلص منها ما يجب أن أعمل لأسعد وعلى أي الأسس أبني أسرتي وهكذا.
وقد ذهبت بعيد الزواج إلى مصور صورني صورة تذكارية احتفظت بها، ووجدتني قد كتبت على ظهرها العبارات الآتية: «هذه صورتي أخذت يوم الجمعة ٧ إبريل سنة ١٩١٦ وسني تسع وعشرون سنة وستة أشهر، عقب عقد زواجي بأربعة أيام، وقد اتخذت الكتب شعاراً لي في الصورة، فوضع المصور أمامي كتبا من عنده وأمسكت بيدي اليسرى كتاب «مبادئ الفلسفة» وكنت قد عربت أكثره وأوشك على الانتهاء. وقد لاحظت أن أصور صورة في غاية البساطة فلم أتعلم شيئًا إلا اختيار الثوب الذي اخترته يوم عقد الزواج، وربما كان الباعث لي على هذا التصوير ما أشعر به من أني قادم على حياة جديدة ومرحلة جديدة، فقد أنهيت حياة الوحدة وسأقدم على حياة الأسرة، وأنا مقتنع أن هذه البيئة الجديدة سيكون لها أثر كبير في نفسي وجسمي وعقلي، وسأقارن بين المعيشتين وأثرهما إذا كان في الأجل متسع — ومن البواعث على هذا التصوير أيضاً علمي أن السنة المتممة للثلاثين تختم حياة الصبا والفتوة وتفتح حياة يغلب عليها العقل والروية، على أني — والأسف يملأ فؤادي — لم أنتفع بزمن الصبا والفتوة كم كان يجب. فلم يجد المرح والنشاط واللهو — ولو كان بريئًا — ولا الحب إلى قلبي منفًذا، بل تشايخت منذ الصبا — وهذا ولا شك أثر التربية المنزلية، فقد كانت تربية أساسها التخويف والإرهاب، ولم يكن في بيتي أي مظهر من مظاهر البهجة والسرور، وإني في هذه السنة أحس شيئًا من النشاط على أثر دروسي الإنجليزية مع مدرسة إنجليزية كانت تصلح من نفسي كما تصلح من لساني، وكانت تنتقد في الهدوء والسكينة، كما كان لدروس الأخلاق مع عاطف أثر كبير في نفسي؛ ومما أحسه أيضاً أنني أكثر حرية في الفكر وأكثر نقداً لما يعرض لي؛ وأكثر ميلي هذه السنة إلى القراءة في عملي الأخلاق والاجتماع مع ما أجد من الصعوبة في فهم ما أقرأ، لقرب عهدي بتعلم الإنجليزية، فقد بدأت تعلمها في يناير سنة ١٩١٤ فلي الآن نحو سنتين ونصف سنة وهي مدة لم تكف في التبحر فيها.
وأنا الآن مدرس بمدرسة القضاء ومرتبي ١٣٢٠ قرشاً في الشهر ولم أمل التدريس ومازلت أفضله على القضاء — وأنا أرجو من الله أن يعينني على القيام بعمل عظيم أخدم به أمتي من الناحية الخلقية والاجتماعية». (كتب في ٢٠ يوليو (تموز) سنة ١٩١٦).
وليس لي تعليق على ما كتبته خلف الصورة إلا على قولي «إن الحب لم يجد إلى قلبي منفًذا» فهو تعبير غير دقيق وقوي لا يصدق إلا على رجل جامد العواطف، بل كانت عواطفي أقرب إلى أن تكون حادة ولاسيما في أيام الشباب الأولى ظهرت حدتها في العاطفة الدينية فقد كانت مشبوبة حادة، وفي حبي لأصدقائي فقد كنت آنس بقربهم وآلم لبعدهم، وفي عاطفة الرحمة والشفقة على الفقراء والبائسين ونحو ذلك من مظهر للعواطف، بل لقد تحركت في عاطفة الحب منذ الصبا، فقد أحببت وأنا في نحو الخامسة عشرة ابنة جار لنا والتهبت عاطفتي فأرقت كثيراً وبكيت طويلا، وكل ما كان من وصال أن أجلس أنا وهي على كرسيين أمام دارها نتحدث في غير الغرام، فلما وسوس الشيطان لأبيها حجبها عني وشقيت زمًنا بذلك ثم سلوت، ثم أحببت المدرسة الإنجليزية الشابة حباً ضنيت به ولم تشعر به، وكل ما سعدت به ساعات الدرس أتحدث إليها وتتحدث إلي وتنظر إلي بعينيها الصافيتين الأمينتين، ولكنه كان حبا يائساً، فهي متزوجة مخلصة لزوجها سعيدة بزواجها، فعاطفة الحب كانت في أعماق نفسي ولكنها مكبوتة، حال دون ظهورها وسطي، فالفتاة لم تكن سافرة سفور اليوم، وكان الشاب لا يعرف من الفتيات إلا أقاربه، وكانت تربيتي الدينية تعد الحب فجوراً والنظر إلى الفتاة وحديثها إغواء شيطانيا، ومدرستي كبيتي متزمتة متعنتة، لا ترتاح لأن يجلس طالب في قهوة، وتعاقب من وجد في صالة غناء. وحدث مرة أن شوهد متخرج حديًثا من المدرسة يجلس في مقهى الأزبكية مع صاحبيه من غير المدرسة وأمامهم كاسات من البيرة، فكان من سوء الحظ أن مر عليهم عاطف بك ورأى هذا المنظر، ومع أنه لم يتحقق من شرب هذا الشاب البيرة فقد حرمه من تولي القضاء سنين، ورفض كل رجاء في العفو عنه، ولم يعين بعد إلا بضغط عليه شديد أو رغماً عنه.
كل هذا لم يهبني مجالا للحب، بل كبته في أعماق نفسي إلى أن تزوجت.
وبعد العذاب في اختيار الزوجة وعقد العقد وإعداد الجهاز اخترت بيًتا أسكن فيه وحدي مع زوجي قريباً من بيت أهلي، وحرصت على ذلك حتى أتجنب الأقوال الشائعة والحكايات التي لا تنتهي في النزاع بين الزوجة والأم، وكذلك تمت هذه المرحلة.