الفصل الثالث والعشرون
في فترة القضاء هذه مات أبي رحمه الله وأنا قاض في قويسنا عن نحو ثمانين عاماً إثر عملية جراحية، فقد أصيب «بفتق» وهو في نحو الأربعين من عمره فلم يفكر في عملية يعملها، وظل يلبس الحزام الجلد يضغط به على موضع «الفتق» يخلعه مساء ويلبسه صباحاً، ويعاني في ذلك مشقة كبيرة يتحملها في صبر. وكثيراً ما كانت تخر من الفتق بعض الأمعاء ويحاول إدخالها ولبس الحزام فيمتنع عليه ذلك فأسرع إلى الطبيب يعالجه، وكان هذا سبباً كبيراً في ضيق خلقه والتنغيص عليه وعلينا — يضاف إلى ذلك ما أصيب به من إمساك مزمن، فكان إذا طال به الزمن ساء مزاجه وتلمس أي شيء يغضب عليه — ولعل بيتنا مدين لهذين السببين في التنغيص عليه من حين إلى حين، وما حرمه من ضحك ومرح وسرور. وما كان من معيشة انفصالية يميل فيها أبي إلى العزلة والانفراد بنفسه وآلامه — وطالت به هذه الأمراض من غير أن يعرض نفسه على طبيب اختصاصي، فلما كبرت عرضته على أكبر طبيب فقرر أنه كان يجب أن يعمل العملية وهو في فترة شبابه، أما وقد تقدمت به السن إلى هذا الحد فلا يحسن عملها. وأخيراً اشتد به الألم وضجر من حالته، فانتهز غيابي في قويسنا وذهب إلى طبيب جراح في المرتبة الثانية أو الثالثة، وكان تلميًذا له قديماً فحسن له العملية، وتجرأ فعملها من غير أن أعلم أو يعلم أحد في البيت. ولم أدر إلا وتلغراف يأتيني بقويسنا يحمل الخبر، ففزعت لذلك وحضرت إلى مصر وذهبت إلى العيادة وطمأنني الطبيب أن العملية ناجحة، ولكن لم يمض يوم حتى أصيب بالتهاب رئوي قضى عليه في ساعات ومات وأنا بجانبه يوصيني أمي وأختي ويدعو لي «أن يكون الله في عوني».
وبذلك انتهت حياة حافلة شاقة ملئت بالكد الدائب والسعي المتواصل في طلب العلم وطلب الرزق، فقل أن يفارقه كتاب يقرؤه أو يكتبه، ورزقه متصل بعلمه من درس يدرسه أو كتاب يصححه أو نحو ذلك، لا يمنعه عن ذلك مرضه أو كارثة نزلت به، متدين أشد التدين، يكثر من الصلاة ومن قراءة القرآن والحديث، ويزكي ويصرف زكاته على الفقراء من أقاربه، ويصوم ويحج ويتهجد بالليل ويبتهل إلى الله. وإذا صدرت منه سيئة أو ما يظنها سيئة أكثر من الندم والاستغفار والتوبة؛ زاهد عن السعي في طلب الرزق إلا بمقدار ما تحتاج إليه أسرته، فإن زاد شيئًا فبقدر ما يدخره ليوم الحاجة — يكثر من ذكر الموت ويتبع ذلك بأحاديث يحفظها في تفاهة الدنيا وحقارة شأنها وهوانها على الله، وبنى مقبرة له يذهب إليها ويتلو عندها القرآن يرجو بذلك أن تكون منزلا مباركاً له عند وفاته. يهزأ بالدنيا وزخرفها ومباهجها، رأيته مرة يلبس كسوة تشريف ليذهب إلى حفلة المحمل ثم يقف في الغرفة قليلا متردداً ثم يخلعها ويرميها بيده إلى أركان الغرفة ويقول: إنما الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة، ويجلس بعد ذلك يتلو القرآن.
وهو في حيه محترم، إذ هو أكبر رجل ديني في الحي. يقوم له الناس إجلالا إذا مر عليهم، ويفزع إليه الأغنياء والفقراء في أمورهم الدينية وفي الفتيا في مسائل الزواج والطلاق والميراث، ويسأله أعيان الحي أن يقرأ لهم درساً دينياً في بيت من بيوت أحدهم، ويهدون له الهدايا الكثيرة في الأعياد والمواسم.
وهو بسيط في أكله وشربه ولبسه ونومه، حتى ليأكل ما قدم إليه من غير ضجر، وينام على حشية من غير سرير، ويلبس في دقيقة ملبسه البسيط في غير أناقة.
يشتد على أولاده فلا يعطيهم من المال إلا بقدر الحاجة حتى لا يفسدوا، ويحاسبهم على تعلمهم محاسبة عسيرة، فهو يمتحنهم دائماً في حفظ القرآن وحفظ المتون وفي فهم دروسهم، فإذا أخطئوا حسبل وحوقل وقد يغضب ويضرب، وكل صحبتنا له صحبة درس جديد أو امتحان في درس قديم. ولا أذكر أنه مزح معنا وقل أن ضحك في وجوهنا. ولذلك كان اطمئناننا ومرحنا القليل ساعة يغيب عن البيت، وخوفنا ورهبتنا وحبس أنفاسنا ساعة يحضر؛ ومن مزاياه أنه كان يرى تعليم البنت كما يعلم الابن، فأرسل أختي الكبرى إلى المدرسة السيوفية وكانت المدرسة الوحيدة المصرية لتعليم البنات، في حين أن أكثر الناس كان يرى تعليم البنت في المدارس جريمة لا تغتفر.
دنياه التي يعرفها أزهره ومسجده وكتبه ومن يتصل به من أهل حيه. أما السياسة والاحتلال وأما شئون الاقتصاد وأما الحياة الاجتماعية والمدنية مما يجري وراء حيه فلا يعلم عنها شيئًا، فهو لا يقرأ الجرائد إلا إذ وقعت في يده عرضاً، ولا يجتمع بالناس يتكلمون في الشئون العامة إلا قليلا.
يحب الريف ويحن إليه، وفي بعض الأيام كان عندنا حمار يركبه ويركبني معه فيخرج به إلى الجزيرة أو الجيزة، ونقضي النهار تحت شجرة أو بجوار ساقية أو على شاطئ النيل ومعه كتاب يقرؤه، ثم يعود وقد غذى عواطفه، وهذه هي كل رياضته. فإذا لم يكن حمار فمشي على الأقدام إلى كوبري قصر النيل حيث يختار مكاًنا يجلس إليه.
وله صديقان من الفلاحين في جزيرة أمام مصر القديمة يزورهما — وأنا معه — من حين إلى حين وبخاصة في موسم الشمام والبطيخ، فنقضي هناك اليومين والثلاثة بين المزارع وعلى شاطئ النيل، ولا ندخل البيوت — حتى الليل نقضيه تحت سقف السماء — كأنه لما حرم مزارعه في بلده كان يعوضها بمثل هذه الجولات.
ذكي يجيد فهم الكتب الأزهرية، وله شوق إلى قراءة الكتب الأدبية والتاريخية من غير تعمق فيها أو قراءة منظمة لها؛ يقرض الشعر أحياًنا في مناسبات ولا يقرضه حتى يتخير قصيدة من ديوان شعر يحاكيها في الوزن والقافية ويتخير من معانيها فتأتي أشعاره متكلفة لا روح فيها. ولا أدري لماذا لم يحاول التأليف في أي فرع من فروع العلم مع توفر الأسباب لديه.
ومع شدته على أولاده كان رحيماً بهم، وتظهر رحمته في قلقه على ولده إذا مرض، وحرقة قلبه إذا مات، وحنينه إليه إذا غاب ونحو ذلك.
وكان يؤثرني على إخوتي في العناية لما كان يظهر له من استجابتي وطاعتي؛ فإليه يرجع أكبر الفضل في أساس تعلمي من يوم أن ذهبت إلى الكتاب إلى يوم أن دخلت مدرسة القضاء، ولولاه لم أنجح في دراستي الأزهرية لصعوبتها وكثرة العوائق فيها، فقد سهلها علي بأسلوبه وقرب عبارته ووضوح معانيه، ولولا نجاحي على يده في العلوم الأزهرية ما نجحت في الدخول في مدرسة القضاء؛ بل منه تعلمت الصبر على الدرس واحتمال العناء في التحصيل. ومنه كسبت وضوح العبارة وبساطة الأسلوب، ومن مكتبته المتنوعة الغنية بكتب الأدب والتاريخ نبت في نفسي حب الأدب والتاريخ؛ وعلى الجملة فقد ورثت منه — إلى حد ما — كثيراً مما لي من مزايا وعيوب.
لهذا كله بعد أن كبرت ودخلت مدرسة القضاء وتحررت من رعايته لي وقسوته علي بدأت أشعر بفضله، وينقلب خوفي منه إلى حب وإجلال له، وبعد أن أصيب بفقد ولديه زاد عطفي عليه وبذل كل جهد في عمل ما يرضيه. ومن جانبه بادلني عطًفا بعطف وحناًنا بحنان، وترك لي التصرف في ماله وشئونه، وتفرغ لحزنه ومرضه، ودينه.
فلما مات أحسست لذعة أليمة وركًنا تهدم ولم يعوض، وفراغاً لم يملأ — رحمه الله.
وبعد قليل من وفاة أبي يموت أبي الروحي الثاني (عاطف بركات) فأحزن عليه حزًنا قريباً من حزني على أبي، وأقف على قبره عند دفنه وأرثيه بكلمة أودعها قلبي، وأنظر إليه في كفنه وهم ينزلونه إلى قبره فيصفر وجهي ويسيل دمعي وأحز بأسناني على سبابتي فأكاد أقطعها، وينظر أقرباؤه إلي فيجدونني أحزن أكثر مما يحزنون، وألتاع أشد مما يلتاعون فيرثون لحالي ويشفقون مما بي.
لقد تسلمني من أبي بعد أن رباني التربية الأولى فرباني التربية الثانية، وقد عاشرته نحو ثمانية عشر عاماً من سنة ١٩٠٧ إلى وفاته سنة ١٩٢٥ منها أربعة وأنا طالب وهو ناظر وأستاذ، وعشرة وأنا مدرس وهو — أيضاً — ناظر وأستاذ، وأربعة وهو يشتغل بالأمور السياسية وأنا أتلقى عنه دروسها — فبعد خروجه من المدرسة على النحو الذي أشرت إليه قبل، تفرغ للسياسة وانضم إلى الوفد ونفي إلى «سيشل» ولما عاد وتولى سعد باشا الوزارة عين «عاطف» وكيلا لوزارة المعارف، وتولى أمر الوزارة كلها، وقد عرض علي إذ ذاك أن أكون مفتشاً في الوزارة معه فاعتذرت، ثم عرض علي أن أكون أستاًذا للشريعة في مدرسة الحقوق وقبلت، واتصل بناظر الحقوق واتفق معه على ذلك واختبرت دروسي ولكنه مات قبل أن يتم ذلك، فقلب لي ظهر المجن، وقطعت إجراءات التعيين وعين غيري، وانتهى كل شيء كأن لم يكن شيء.
ولم يطل أمده في وزارة المعارف، فقد دب داء السرطان إلى رأسه، وعاني من الآلام المضنية الشيء الكثير. لقد كان يخصني برعايته منذ كنت طالباً، فلم كنت مدرساً أتبعني به في دروس الأخلاق، فكنت ألازمه في دروسه وقد أقضي النهار معه في بيته بمصر الجديدة، ولما نفي في عزبته بجمجرة كنت أقضي معه فيها الأيام. وكان يراسلني من سيشل ويبعث إلي بصورته؛ ولما مرض لم يكن يسمح بزيارته إلا لأقاربه واثنين من أصدقائه كنت أحدهما، وهذا ما مكنني من الاستفادة منه.
كانت أكبر ميزة له في عقله قوة التحليل وسلامة التفكير، وحرية الرأي وقوة الحجة، والإلحاح في الإقناع وسعة الصدر للرأي المخالف — وكانت حريته في تفكيره أقوى من حريته في عمله، فهو في إصلاحه متحفظ، يقدر كل الظروف المحيطة ويعمل في حذر؛ وأكبر ميزة له في خلقه أداء الواجب لأنه واجب من غير أي اعتبار، وعدله التام ولو لقي في ذلك العناء، في بلد تسره المجاملة ولو بالظلم، ويفرح بالوعد ولو بالكذب؛ وحبه للنظام الدقيق، فكان يشيد بذكر «كانت» إذ كان يرى أداء الواجب لذاته، وإذا كان الناس يضبطون ساعاتهم على موعد خروجه؛ وصدق في القول حتى لم يأخذ عليه طالب ولا أستاذ كذبة، وحدثني أنه وهو طالب في إنجلترا دخن يوماً سيجارة في حجرة لا يسمح فيها بالتدخين، فلما أتم تدخينها دخل مراقب المدرسة عليه وعلى صحبه فقال: إني أشم رائحة دخان فمن الذي دخن «فسكت عاطف» ثم كرر المراقب القول وكرر «عاطف» السكوت، ثم خرج المراقب فنظر الموجودون إلى «عاطف» نظرة ازدراء، فعاهد الله من يومه ألا يكذب؛ ورجولة تامة فهو يكره سفاسف الأمور وتوافه القول، إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه، فكان بذلك مهيباً جليلا.
إن عيب عليه شيء فهو قلة مجاملته حتى حيث لا تضر المجاملة بالخلق، وصراحته التي قد تجرح، في موقف لا يدعو إلى الصراحة فيه دفاع عن حق، ثم نظامه العسكري في غير ترفيه. رحمه الله فما أكثر ما نفع وأصلح.