الفصل الخامس والعشرون
هيأت لي الجامعة فرصة جميلة لرحلات خارج القطر، وقد كاد ينقضي شبابي ولم أبرح القاهرة إلا حين عينت مدرساً بطنطا والإسكندرية، وحين عينت قاضياً في الواحات الخارجة، أما الرحلة خارج مصر فلم تخطر لي على بال، وما كننت أظن أن الزمن سيسمح بها. وقد هيئت لي مرة فرصة السفر إلى باريس، وذلك أن أحد باشوات القاهرة وأغنيائها أراد أن يرسل ابنه إلى باريس ليتعلم هناك، وأراد ألا ينسى ابنه اللغة العربية، فعرض علي أن أصحب ابنه وأقيم معه وأعلمه اللغة العربية وأدرس أنا اللغة الفرنسية فالقانون، وأعجبتني الفكرة ولكنها زهرة محفوفة بشوك، فمن الثقيل على نفسي جداً أن أكون موظًفا عند باشا ونفقتي عليه، وابنه سيدي يستدعيني للدرس إذا شاء ويهجرني إذا شاء. ومع ذلك استشرت عاطف بك في الأمر ففضل الرفض فرفضت، واختير غيري لهذا العمل فدرس القانون ورجع محامياً في المحكمة الشرعية والمختلطة، ولو قبلت لتغير وجه حياتي.
على كل حال لم تتح لي فرصة السفر خارج مصر إلا سنة ١٩٢٨، وأنا مدرس بكلية الآداب، ففي يوم استدعاني أستاذي لطفي السيد مدير الجامعة، وقال: إن البرنس يوسف كمال يود البحث في مكتبات الآستانة عن كتب جغرافية قديمة وبخاصة كتاب بطليموس في الجغرافيا، وأنه طلب مني أن أختار له اثنين فوقع اختياري عليك وعلى الأستاذ عبد الحميد العبادي — فترددت بعض الشيء وعاودتني فكرة التوظف عند الباشا، ولكن لطفي بك هون على الأمر، إذ أخبرني أنه قال للبرنس إنه يرحب بالفكرة ولكن يرجوه ألا يجرح شعور الأستاذين بإعطائهما أجراً على عملهما العلمي وإنما أجرة السفر وما إليها — فقبلت.
وشجعني على القبول أني منذ الصغر أسمع عن إستانبول وعظمتها وأبهتها. ولها صورة عظيمة فخمة في نفسي، فكل حين يذهب الخديو عباس إلى إستانبول ويعود من إستانبول، وأعيان مصر يفخرون بسفرهم إلى إستانبول، وشوقي في شعره يشيد بذكرها. ناهيك عن الباب العالي والقصر الشاهاني والبسفور وبحر مرمرة والسلطان عبد الحميد في قصر يلدز ونحو ذلك — كل هذا شوقني إلى رؤيتها.
أضف إلى ذلك ما وصل إلينا حديًثا من ثورة مصطفى كمال وقلبه النظام الاجتماعي رأساً على عقب وما كان له من أثر، فكنت أسمع ذلك وأشتاق إلى معرفة كنه هذا الانقلاب ومداه وصلاحيته.
هذا إلى ما أعتقده في الرحلات من فوائد، فأنا أرى أن الشيء لا تمكن معرفته معرفة حقة إلا بالمقارنة، فالأبيض إنما يعرف بياضه بمقارنته بالأسود والأخضر والأصفر، والأمة لا يعرف أنها متأخرة إلا بقياسها بأخرى متقدمة، والنظام لا يعرف أنه فاسد إلا إذا عرف أو على الأقل تخيل بجانبه نظام صالح، وهكذا.. فما دمت في مصر ولم أر غيرها لم أستطع الحكم الصحيح عليه إلا عن طريق الكتب، وهي أقل جدوى من المشاهدة.
وما أكثر من رأيت من الشبان يركبون البحر ويعودون إلينا ممتلئين إعجاباً بما رأوا من مدنية وحضارة وعلم ومناظر طبيعية، ويملئون أفواههم بالكلام عما شاهدوا، والإعجاب بما رأوا، والاحتقار لما يرون في مصر، فإلى أي حد صدقت نظرتهم وإلى أي حد صح حكمهم؟ هذا ما لا أستطيعه إلا إن رأيت ما رأوا؛ وكم قرأت من كتب في الرحلات، ولكن الرحلة إذا تحولت إلى كتاب ذهبت حياتها وقل خيرها وأصبحت عقلا لا قلباً، ومعلومات لا إحساسات والرحلة الحقة ما جددت النفس وأحيت القلب.
وقد مكثت في رحلتي هذه إلى الآستانة أربعين يوماً. أخذنا الباخرة «رشيد» يوم السبت ٢ يونيه (حزيران) سنة ١٩٢٨، وقد اعتزمت من يوم أن سافرت أن أدون لي مذكرات يومية، فكنت أسجل قبل أن أنام ما فعلته كل يوم مؤرخاً بتاريخه، ولا أطيل على القارئ بذكر هذه اليوميات إلا على سبيل المثال.
لم أر البحر قبل إلا من شاطئ، أما داخله وعظمته وتقلباته فلم أرها إلا اليوم — رأيت البحر عظيماً جميلا أنيساً في النهار، ورأيته جليلا مهيباً موحشاً في الليل، ورأيتني أشعر نحوه بذلة أليمة أو ألم لذيذ، كشأني عند رؤية أي منظر طبيعي جليل، كغروب شمس أو جبل ضخم أو أمام السماء في ليلة تلمع نجومها. ولعل سبب اللذة ما أشعر به في هذه المناظر من جمال، ولعل سبب الألم ما أشعر به نحو نفسي أمام هذه المظاهر من ضعة.
كأن البحر استدرجنا، فهو في اليومين الأولين هادئ وديع، فلما ألفناه كشر لنا عن أنيابه وهاج في اليوم الثالث فأصابني دوار وما يتبع الدوار. وأطلت الرقاد في سريري خاضعاً مستسلما، وفي اليوم الثالث نزلنا أزمير وأخذنا سيارة تجولنا في شوارعها مع بعض ركاب السفينة، وفي اليوم الرابع وصلنا إلى الآستانة.
تجولنا في أنحائها، وسكنا في بيت من بيوتها، وصدمت في أول الأمر عند رؤيتها فلم أجد لها من الجلال والروعة ما سبق أن رسمه الخيال، إنما أيقنت بجمالها وروعتها لما شاهدت ضواحيها، وركبت البحر إلى أطرافها. وأعجبني في الأتراك خلقان لطيفان: نظافتهم وهدوءهم. فأما النظافة فقد تدخل بيت الفقير الذي يعيش أكثر أيامه على البقول الجافة فتراه قد فرش فرشاً بسيطاً ولكنه نظيف، وقد تفرش الحجرة بالحصير. ولكن لا يسمح التركي لنفسه ولا لضيفه أن يدوس بنعله. وقد ركبنا القطارات والترام وأكلنا في مطاعم المدينة على اختلاف أنواعها من الدرجة الأولى إلى الرابعة، وجلسنا في مقاهي الصناع والحمالين فما وجدنا في كل ذلك إلا نظافة يحمدون عليها. وأما هدوؤهم فقد أمضينا أربعين يوماً لم نجد فيها نزاعاً في شارع أو خصاماً في ترام. وتدخل المقهى مملوءاً بالناس، فإذا أغمضت عينيك حسبت أن ليس به أحد، فهم في الحق كما يقولون في هذين الأمرين إنجليز الشرق. ولعل ما لفت نظري إلى هذين الخلقين سوؤهم في مصر، فعنايتنا بالنظافة ضعيفة، وإذا رتبت الأمم في النظافة لم نجد أنفسنا في أعلى القائمة ولا أوسطها، ويفوقنا فيها من الشرقيين اللبنانيون والسوريون وكذلك الشأن في الهدوء، فبلدنا حرمت هذا الهدوء في القهوة وفي الشارع وفي الترام وفي كل مجتمع حتى في البيت.
رأيت مذكراتي مملوءة بالذهاب كل يوم صباحاً أو صباحاً ومساء إلى مكتبات الآستانة، وقد كان هذا عملنا الرسمي في الرحلة وما أثقل الرسميات! إنها عمل آلي لا دخل للقلب فيها وإن استفدنا كثيراً منها، فقد قلبنا الكتب وتغلغلنا في المكتبات وفتحت لنا منها ما لم تفتح لغيرنا، ودونا أسماء الكتب القيمة التي عثرنا عليها ووصفناها وقيدنا أرقامها، ولما عدنا إلى مصر قابلناها بما في دار الكتب واستبعدنا الموجود وكتبنا تقريراً بما عثرنا عليه من جديد، وأودعنا منه نسخة في دار الكتب لتستفيد منه وقدمنا نسخة أخرى لسمو الأمير صاحب الفضل على الرحلة ولكن ليست هذه هي الرحلة فلا أطيل على القارئ بتفصيلها.
إنما كان أهم ما في الرحلة يوم نخرج لا لغاية، ونتجول في الشوارع لا لغرض، ونزور القرى والضواحي ليتفتح قلبنا، ونرى الناس غادين رائحين ونحن مندمجون فيهم لا نعرف أحداً ولا يعرفنا أحد، فيعجبنا منظر نقف عنده ما شئنا ونسير حتى نتعب ونركب حتى نمل ونخزن في أنفسنا ما نعي وما لا نعي. وقد نسمع كلمة عابرة من رجل تدلنا على الشيء الكثير.
زرنا مرة مسجد السلطان أحمد وهو مسجد كبير عظيم، وقابلنا بوابه فوقف يرثي لحاله وحال الدين في العهد الجديد ويقول بلسانه التركي: بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما كان. يقولها ويلتفت عن يمينه ويساره خوًفا من أن يسمعه احد.
وهذا الشيخ «رشيد الحواصلي» سوري الأصل عاش في الآستانة زمًنا طويلا؛ وصاحب السيد جمال الدين يوم كان فيها وسمع الكثير من أحاديثه، ورأى الآستانة في عهدها القديم وعهدها الجديد، وعرك الدهر وعركه الدهر، وهو إلى جانب ذلك تاجر في الكتب ماهر، يعرف كيف يبيع وكيف يشتري وكيف ينتهز الفرص — وجدناه فرصة لنا نعرف منه أحوال الآستانة قديمها وحديثها والانقلاب الحديث وموقعه في نفوس الناس، إلى آخر ما عرفنا من شخصيات.
خير أوقاتنا ما نخرج فيه من الآستانة إلى الضواحي، فيوماً نركب وابور البحر في البسفور إلى شرشر صو، وكانت رحلة ممتعة رأينا فيها جمال البسفور وما حوله، والمساكن منتثرة في الجبال المزروعة على شكل مدرج، والجبال مكسوة بالأشجار، أشجار الكريز، والبندق، والجوز، وعيون الماء تنبع فيه فيخرج منها ماء بارد عذب زلال لذة للشاربين، وفي الطريق بلاد يمر عليها وابور البحر، فيقف عندها، فنجد سوًقا نظيًفا فيه ما يحتاج الإنسان من فاكهة نظيفة وفطائر وبقول ونحو ذلك.
الأطفال الصغار والرجال الكبار في غاية النظافة، وأكثر المبيعات تعرض من الداخل، فالجزار مثلا لحمه في داخل دكانه.
ومرة ركبنا باخرة إلى جزيرة الأمراء؛ وهي جزر ثلاث، ذهبنا إلى أكبرها، وهي جبل مدرج يحيط به الماء كسي بالأشجار والنبات، بنى الناس فيه مساكن ظريفة على البحر، وقد صعدناه إلى قمته وتغدينا هناك، ومتعنا نفوسنا بالمنظر الجميل والجو الجميل.
والأتراك حريصون على أن يقضوا يوم الجمعة في الضواحي إذ هو يوم العطلة الرسمية، تغلق فيه الحوانيت وتعطل الأعمال، فيخرجون زرافات ووحدانا إلى المنازه ومعهم أكلهم، وقد يكون معهم موسيقاهم، مرحين مبتهجين. ومرة خرجنا والجو صحو جميل، فلما وصلنا إلى ضاحية من الضواحي أمطرت السماء مطراً غزيراً على المتنزهين، فجروا كل يبحث عن ملجأ يلجأ إليه، وهم يتضاحكون مستبشرين يسخرون من الجو الذي سخر بهم، ويضحكون من السماء التي تضحك منهم، فكان يوماً جميلا ومنظراً رائعاً.
والنساء فتن بالحرية الجديدة والسفور الجديد، فهن يمرحن ويبالغن في المرح، والفتيات يرقصن حتى في الشارع، ويغنين في المقاهي، وكأنهن سجناء خرجن من سجنهن بعد طول العذاب، ورأين أهلن بعد طول الغياب، إلى آخر ما رأينا من مناظر طبيعية وغير طبيعية، وفنية وغير فنية.
ومن خير المصادفات أن رأيت في الآستانة «علي بك فوزي» أستاذنا القديم في مدرسة القضاء، وكان قد استقال من منصبه الحكومي، وخرج من مصر لأنه لم يطق أن يرى الجندي الإنجليزي يحتل بلاده، والجرسون اليوناني في القهوة يتمتع بامتيازات لا يتمتع هو بها، فخرج من وطنه هارباً، وطوف بالبلاد وحط رحاله في الآستانة، يقنع بخمسة وعشرين جنيهاً معاشاً له، يصرف أقلها على نفسه وأكثرها على الفقراء من حوله. ظللت أبحث عنه في الآستانة طويلا حتى وجدته، فوجدت لقيتي، لأني أعلم أنه أقدر الناس على أن يشرح لي الانقلاب الحديث في تركيا ونتائجه وما فيه من خير وشر.
لقد أعلم أن قد حدثت في تركيا انقلابات اجتماعية خطيرة تثير اهتمامنا، لأن تركيا أول بلد إسلامي نزعت هذا المنزع وجربت هذه التجارب؛ فقد خلعت الخليفة وألغت الخلافة. وحرمت الخليفة المخلوع وأفراد أسرته وأصهارهم من الإقامة في الجمهورية التركية، وحولت الخلافة إلى جمهورية، وحولت كثيراً من أملاكهم ومباني القصور وملحقاتها إلى الأمة، وذهب العقلاء في ذلك مذاهب شتى، منهم من يحبذ هذا العمل ومنهم من ينقده.
وألغت وزارة الأوقاف، وجعلت تدبيرها لرئيس الأمور الدينية وهيئة علمية استشارية بجانبه، وألغت المحاكم الشرعية، ووحدت القضاء.
وألغت المدارس الدينية ووحدت المدارس، وقد كانت المدارس الدينية كثيرة منتشرة متنوعة في البلاد، وكان بعضها يتبع وزارة الأوقاف وبعضها يتبع وزارة الشئون الشرعية، فجعلتها كلها تابعة لوزارة المعارف، تعلم تعليما مدنيا واحدا، ومن شاء أن يعلم ابنه تعليما دينيا فليتكفل بذلك على نفقته، وقصرت التعليم الديني على كلية اللاهوت التي تتبع الجامعة، وهذه هي التي تخرج رجال الدين.
وألغت الطرق الصوفية وأغلقت الزوايا والتكايا، وحرمت الألقاب الصوفية من درويش ومريد وأستاذ وسيد وشلبي ونقيب.. إلخ، وحرمت العرافة والسحر والتنجيم وكتابة التعاويذ والأحجبة وأعمال كشف الغيب والإخبار بالمستقبل، وعاقبت كل من يثبت عليه شيء من هذا بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسين ليرة، وحولت الزوايا والتكايا إلى مدارس مدنية.
ومنعت الإسراف في الجهاز والزواج فلا ينقل جهاز علانية. ولا تقام أفراح أكثر من يوم واحد ولا تقام مآدب عامة في الأفراح. وسنت قانوًنا مدنياً عممته بدل مجلة الأحكام الشرعية وبدل الأحوال الشخصية اقتبسته من القوانين الأوروبية.. منعت فيه مثلا تعدد الزوجات وخولت لكل من الزوجين الحق في رفع قضية الطلاق لأسباب معينة.
وحررت المرأة من حيث سفورها ومساواتها بالرجل، سياسيا واجتماعيا ومدنياً، وفتح لها مجال الكسب والتوظف في الوظائف. ولم يكن السفور بقانون، وإنما كان دعوة دعا إليها مصطفى كمال وألح فيها، فاستجابت المرأة إليه، أما مساواتها بالرجل اجتماعياً فقد شرعت في القانون المدني، فسوي بينها وبين الرجل في الميراث، واعتبر الزواج شركة تتألف من جزءين متساويين. وأخيراً شرع للمرأة مساواتها بالرجل في الحقوق السياسية، من إعطائها حق أن تنتخب وتنتخب. وعني بتعليمها، وتوسع في ذلك توسع تعليم الذكور. وفصل الدين عن الدولة، فلم يستخدم الدين في التشريع ولا في الحكم ولا في الإدارة ونحي رجال الدين عن أي تدخل في الشئون الدنيوية.
وغيرت كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية.
هذا أهم مظاهر الانقلاب الذي حدث في تركيا؛ والذي أردت أن أفهم أثره وأطيل التفكير به، أيها يصلح لمصر وأيها لا يصلح، وهل تستطيع أن تسير في هذا الإصلاح إلى آخر الخطوات أم لا؟
ولأعرض الآن بعض مذكراتي اليومية التي كتبتها:
الاثنين ١٨ يونيه سنة ١٩٢٨
ذهبنا صباحاً إلى طوب قبو سراي وبحثنا في مكتبتها وعثرنا فيها على كتب قيمة، وفي المساء قابلنا علي بك فوزي ومكثنا معه نحو ثلاث ساعات تحدثنا فيها في شئون مختلفة.
سألته عن الحالة الاجتماعية في تركيا، فقال: يجب أن ترقبوا التطور الحادث في تركيا مراقبة دقيقة، فمصر مرتبطة بتركيا ارتباطاً كبيرا من الناحية الاجتماعية، وكثير من عادات المصريين وتقاليدهم مأخوذة عن تركيا، فإذا تغيرت تركيا يوشك أن تتغير مصر، أضف إلى ذلك أن الآستانة هي البوغاز الذي تمر منه المدنية الغربية إلى مصر. ورأيي أن التيار الغربي لا يمكن مقاومته، فخير أن نستعد للسير معه قبل أن يجرفنا رغم أنوفنا.
إن أكبر مظهر للانقلاب التركي هو السفور، وقد أفاد الأمة التركية من حيث إصلاح الزواج، فكل من الزوجين يرى صاحبه ويأنس به قبل عقد الزواج، ثم إن السفور مكن المرأة من معرفة كثير من شئون الدنيا وكانت تجهلها. والسفور في صالح المرأة فالحجاب كان يحيط المرأة بهالة تمكن الرجل من الإمعان والتخيلات والجري وراء التصورات، ولذلك كثر الغزل في الأدب العربي وأمعن الغزلون في التخيلات.
وسألته عن القبعة فحبذها، وقال إنها أفضل من الطربوش للرأس والعين، وإنه يكره الطربوش ولا يحس له طعماً، وحبذ تقليم الحكومة لأظفار رجال الدين لأنهم كانوا نصراء الرجعية وأداة في يد السلاطين الظالمين، ينكلون بالأمة بواسطتهم، وكان سلطانهم كبيراً على الناس، وقد استخدموا هذا السلطان في غير مصلحة الأمة، وقال إنه كان يندس بين رجال الدين من لا يتصلون بالدين، وكثير من الناس كانوا يلبسون العمامة ويغرون بها الناس، فالمتسول والمنجم وكاتب الأحجبة والدجال كل هؤلاء كانوا يلبسون العمامة ويتزيون زي رجال الدين، فما فعلته الحكومة التركية من تحريم لبس العمامة إلا لرجال الدين الرسميين عمل نافع قطع دابر كثير من وسائل التخريف والتدجيل. ولابد لكل إصلاح من ضحايا، ولابد عند منح الحرية أن يعقبها إفراط، فالتشديد على رجال الدين استتبع بعض أخطاء، وسفور المرأة استتبع بعض الزلات، ولكن الزمن كفيل بإصلاح ذلك.
قال: ومن الإفراط في الثورة الدينية ما قرأته اليوم في بعض الجرائد التركية من دعوة إلى تنظيم المساجد والصلاة تنظيماً يتفق مع المدنية الحديثة، فالرجل يلبس الجزمة ويصعب عليه خلعها والرجل يلبس القبعة ويصعب عليه أن يسجد بها.
قال: وقد دهش العالم الغربي من ثورة تركيا وتمام هذا الانقلاب الخطير من غير سفك دم، وقال: إن كثيراً من الأوربيين نقموا على هذا الانقلاب لسببين: فبعضهم كرهه لأنه كان يعد الأتراك في ملبسهم وعاداتهم وتقاليدهم متحًفا يستمتع به ويذكره بالقرون الوسطى، وكثير منهم كرهه لأنه سلبه الامتيازات التي كان يتمتع بها في العهد السابق.
سألته: هل يعتقد أن تركيا ستستمر في سيرها في طريقها نهضتها؟ فقال: إن كل الظواهر تدل على ذلك، فالجيل الجديد يؤيد الحركة ويحافظ عليها، والناس جميعاً أسعد حالا في ظل هذا العهد منهم قبله.
وانتقلنا من هذه الأحاديث الاجتماعية إلى أحاديث شخصية فسألته: هل لا يزال يحن إلى مصر؟ فقال: إن حنينه شديد، ولكنه يفضل الإقامة في تركيا، فقد جرب وفاء الأصدقاء فرأى في مصر ما آلمه، وخير له أن يكون بعيداً فيقاطعوه من أن يكون قريباً منهم ويقاطعوه. قال: وقد فضلت تركيا لأنه إسلامي مستقل، وفيه الصدر الرحب الشرقي، والأوربي — على العموم — متقدم في المدنية ويفوقنا في كثير من الأمور ولكن فيه جانباً وحشياً — وقد عشت في إنجلترا وفرنسا وألمانيا فلم أجد هذا الصدر الرحب الحنون الذي أشعر به في إقامتي في تركيا، وإذا كنت في الآستانة فموطني الحي الشرقي منها وأكلي في مطعم شرقي، ولا أذهب إلى الحي الأوربي إلا نادراً، ويسرني أن أكون في حي مملوء بالمآذن.
سألته: هل هو راض عن خطته التي اختطها في امتناعه عن الزواج؟ فقال: إنه آسف على هذه الخطة، ويود لو عاد إلى الشباب فتزوج، فالزواج هو الذي يبعث الأمل في الحياة، وأنا الآن — من غير زواج — في شيخوخة بائسة تنتظر الوفاة.
وانتقل الحديث إلى الأدب التركي، فقال: حبذا لو تعلمتم التركية لا لأن أدبها واسع وأرقى من الآداب الأخرى الشرقية، ولكن لتروا كيف استخدم الأتراك لغتهم وأدبهم في إصلاح شئونهم الاجتماعية والعقلية والنفسية — لا أمل في إصلاح مصر ما دام هناك لغة للعلم ولغة للكلام، فإما أن ترقى لغة الكلام وإما أن تنحط لغة العلم حتى تتحدا، وحينئذ فقط يكون التفكير الصحيح واللغة التي تستمد روحها من الحياة الواقعية.
الخميس ٥ يوليو
قضينا الصباح في المكتبة السليمانية، وبعد الظهر زرنا فؤاد بك كوبرلي تلبية لدعوته في منزله قرب مسجد السلطان أحمد.
بيت قديم عظيم يظهر أنه بيت الأسرة، في غاية النظافة والنظام، فرشت سلالمه بالسجاد الفاخر، ووصلنا إلى حجرة كبيرة صففت في جوانبها دواليب الكتب على أجمل وضع، ووضعت في وسطها مائدة كبيرة للمطالعة.
استقبلنا فيها فؤاد بك وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره مملوء نشاطاً وأدباً، يلمع في عينه الذكاء، وقد كان يحضر موضوعاً لمؤتمر المستشرقين. تحدثنا في جامعتنا وجامعتهم والنشرات والكتب التي تنشرها الجماعتان، ثم تكلمنا عن المستشرقين وما يؤدونه من خدمة للعلم لولا لعب السياسة بعقول بعضهم، وانتقلنا إلى الفرق الإسلامية وصعوبة الوصول فيها إلى حقيقة، لأن الذين يكتبون فيها إما مؤيد غال، أو معارض غال وسألني: هل الإسلام شجع الصوفية أو ناهضها؟ وكان من رأيي أنه شجعها.
وكنت أعلم أن فؤاد بك أحد دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي القائم الآن في تركيا، فأثرت هذا الموضوع مرتين لأعلم ما عنده وعند أصحابه من قواعد يبنون عليها إصلاحهم، فكان في كل مرة يغلق هذا الباب في مهارة، وينقل الحديث إلى موضوع آخر.
الأحد ٨ يوليو
ذهبنا صباحاً إلى مكتبة «شهيد علي» فوجدنا المكتبة غنية بالكتب القيمة المخطوطة، ولكن — مع الأسف — وجدنا الرطوبة قد أثرت فيها بشكل عرضها للتلف، وعلمنا أن سبب ذلك أنها أغلقت أربع عشرة سنة لأن جاسوساً أخبر السلطان عبد الحميد أنه يجتمع قوم يتكلمون في السياسة.
وكان أمين المكتبة أفغانيا فتحدثنا عن السيد جمال الدين الأفغاني واستفسرنا منه عن موقع قبره في الآستانة، فأرشدنا إليه، فذهبنا عصراً إلى جهة يقال لها «متشكه»، وصلنا إليها بالترام وتصل لها الباخرة أيضا لأنها قريبة من محطة «برجة السراي» قريباً من مدخل البسفور. رأينا مقبرة قريبة من البحر تبلغ نحو خمسين متراً في مثلها، وقد سورت بسور له باب، سألنا البواب عن مقبرة الشيخ جمال الدين فلم يعرف، ولكنه أحضر لنا شيخ المقبرة فسألناه فدلنا على القبر. قبر عادي ليس فيه ضريح ولا حوله بناء، ويظهر أنهم عند دفنه تعمدوا ألا يشيدوا بذكره، وأن يدفنوه كما يدفن أي رجل عادي، ولكن أخيراً وضع على القبر تركيبة من الرخام حولها سور صغير من حديد وقرأنا على التركيبة اسم الشيخ جمال الدين وتاريخ ولادته ووفاته، وفي ناحية أخرى سطران تركيان ترجمتهما: «أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم، الرجل الخير الأمريكاني المستر تشارلس كرين سنة ١٩٢٦».
وقفنا عند قبر الأستاذ نستحضر حياته وثورته وجهاده وأنه أول من بذر نواة الإصلاح في مصر، فتأثرت نفوسنا بذكراه وقرأنا له الفاتحة وترحمنا عليه وفارقناه ونفوسنا مملوءة بالذكريات.
وقد كنا سألنا الشيخ الأفغاني — خازن مكتبة شهيد على — عن قبر عبد الله نديم فأخبرنا أنه في جهة «بكطاش» ولكن لا يدري بالضبط موضع دفنه.
الخميس ١٢ يوليه
ذهبنا صباحاً إلى القنصلية المصرية وودعنا من فيها، ثم ذهبنا إلى جامع بايزيد وتغدينا في مطعم بجواره بدعوة من علي بك فوزي ثم ودعناه وداعاً مؤثراً، فقد كان الرجل قد وجد فينا أنساً من وحشته ورائحة من وطنه في غربته. فلما استأذناه في السفر قال: إنكم تستأذنونني في فقد حياتي، فدمعت عيني سماع هذه الجملة.
والرجل — من غير شك — شخصية غريبة لم أر مثلها، يحب بلده مصر من صميم قلبه، ويحب المسلمين ويرثي لحالهم، ويتدين تديًنا مزيجاً من قلبه وعقله، فهو يصوم مثلا على طريقة خاصة، فيفطر على كوب من اللبن عند شروق الشمس، ولا يحرم عليه الماء، ويبقى على ذلك إلى موعد الإفطار، فيفطر، ويعني بصيامه عدم كثرة الأكل، والامتناع عن أكل الأشياء الدسمة، والامتناع عن الأقوال والأعمال المؤذية.
ومما دعاه إلى ذلك أنه كان يسكن في إستامبول، فوق جماعة من الإفرنج، يخشى إن هو تسحر في رمضان أن يزعجهم بحركاته، فهو يصوم هذا الصيام الذي ذكرنا من غير سحور.
أهداني يوم وداعه مجلة إنجليزية كان يصدرها عنايت خان في سويسرة في التصوف، يدعو فيها إلى التصوف العام من غير تقيد بتفاصيل دين خاص، ولذلك كان من أعضائها المسلم واليهودي والنصراني.
وقد أخبرني علي بك فوزي أنه عرض عليه بعد وفاة عنايت خان أن يرأس هذه الجمعية فأبي، لأنه لا يحب أن يتقيد بالتقاليد والشعائر على أي شكل كانت.
منشأ عذاب هذا الرجل وشقائه، رقة إحساسه ودقة شعوره إلى حد بالغ.
السبت ١٤ يوليو
ذهبنا عصراً إلى «يلدز» قصر السلطان عبد الحميد، وقد كان كعبة القاصدين وملعب السياسيين ومخبأ الدساسين، تصدر عنه القرارات الهامة التي تحرك العالم الإسلامي وترسم خططه وتقرر مصيره. يلتقي فيه دهاة الغرب بدهاة الشرق، بالدجالين والمخرفين، بالمصلحين والمفسدين، وتسرح فيه الغانيات الجميلات والمماليك السود والبيض.
سراي كبيرة على البسفور، أقيم عليها من جانب البحر سور ويلي السور شارع وعلى جانبي الشارع أقيمت أمكنة للحرس، ثم السراي.
كان دليلنا عبد الله أفندي رجلا سودانيا طويل القادمة، خدم في السراي أربعين سنة، وهو يترحم على الأيام الماضية، أيام العز والمجد، ويأسف لضياعها وضياع الإسلام، سراي فخمة، وحدائق لا يرى الطرف منتهاها؛ وتمشي من أولها صاعداً نحو ثلث ساعة حتى تصل إلى باب البناء، هذا بناء أعد للضيفان والزائرين، رأينا منه حجرة كانت معدة لأكل الضيوف في عهد السلطان، وهي حجرة بديعة في حليتها وجمال صنعتها، قد عريت من أثاثها فلم يبق فيها إلا مرآة كبيرة، وأشار عبد الله أفندي إلى حجرة أخرى أكبر منها تسع أضعاف ما تسعه الأولى ولكنها مغلقة، وأخبرنا أن كل أثاث السراي قد نقل، وأن بناء الحريم الذي كان يسكنه السلطان قد احترق أيام الحرب.
ورأينا فسقية كبيرة في الحديقة قال لنا عبد الله أفندي؛ إنه منذ أيام قليلة زارنا الخديو عباس، ووقف عند هذه الفسقية، وحكى لنا أنه حين ولي على مصر حضر إلى الآستانة وجلس مع السلطان عبد الحميد بجوار هذه الفسقية هو وأمير بلغاريا، وإذ ذاك أنعم عليهما السلطان، ثم ترحم على تلك الأيام، وظهر على وجهه الحزن والأسف، وهكذا الدنيا وهم خادع وظل زائل.
الاثنين ١٦ يوليه
قررنا السفر والعودة إلى مصر، فأخذنا السيارة إلى الجمرك ومنه ركبنا السفينة واسمها «الروضة» فكانت مدة إقامتنا بالآستانة نحو أربعين يوماً.
فلأنظر نظرة عامة في الرحلة، أنفقنا نفقات كثيرة في الأيام الأولى، لأننا كنا نجهل كيف نعيش، وكان يصحبنا دليل سوري أثقلنا بأحاديثه وتكاليفه فاستغنينا عنه.
كان جو الآستانة في الأربعين يوماً جميلا، فلم نشعر فيه بحر القاهرة، بل كنا أحياًنا نشعر بالبرودة، ولكن حدثنا بعضهم أن الحر في هذه السنة كان خفيًفا أقل من المعتاد، وفي بعض السنين يكون شديداً لا يطاق في بعض الأيام.
وقد أفادتني هذه الرحلة اتساعاً في أفقي، فأصبحت أنظر إلى مصر وحوادثها وشئونها من عل وكأني في طيارة، وغلبتني وأنا في الآستانة العاطفة الدينية، لا من ناحية كثرة الصلاة ونحوها، ولكن من ناحية الشعور القلبي.
أحسست عند مقارنتي لرفقائي في السفر أنني أكثرهم تحفظاً وأقلهم مرحاً وأشدهم حنيًنا إلى أهلي ووطني، واعتزمت أن أنصف أهلي وولدي عند عودتي فأكون معهم ألطف وأعطف وأرق وأحسن معاملة وأكثر مرحاً.
فكرت أن أبحث عند عودتي مشروعاً مفيداً وهو إنشاء مطبعة أنشر فيها خير الكتب القيمة التي عثرت عليها في الآستانة فيكون عملا مربحاً مادياً وأدبياً.
قلت في نفسي: إن الأربعين يوماً التي قضيتها في الآستانة موضوع لرواية جيدة بل روايات، ففيها المناظر وفيها الأشخاص، وفيها الأحداث ولا ينقصها شيء إلا المرأة والتحرير الروائي.
لاحظت كثرة الشيب في رأسي، فبدأ شعوري بكبر سني، وزاد هذا الشعور ما كان يبدو على بعض الشبان من تقديمي أمامهم في السير وإخلاء أماكنهم ليجلسوني، وكان كل هذا إكراماً لاذعاً.
لتمنيت أن تنقلب السفينة طائرة.
وختمت هذه الرحلة بمأساة سماها أستاذنا علي بك فوزي لما علم بها «آية الكرسي»؛ ذلك أنه قبل وصول الباخرة إلى الإسكندرية بيوم صعدت فوق ظهرها وأردت الجلوس على كرسي من قماش من النوع المعروف الذي يقفل ويفتح، وكان كرسياً قديماً فتحته وأخذت أجلس عليه مستنداً بيدي على خشبتيه الجانبيتين، فانفلتت خشبته الخلفية ووقعت إصبعي الخنصر من اليد اليمني بين الخشبتين فانقطع طرفها العلوي وتدلت لحمته وسال دمه، وذهبت إلى طبيب الباخرة فأعاد اللحمة المدلاة إلى مكانها وربطها ربطاً محكماً. واستثارت الحادثة عطف كل من كان في الباخرة. ولما حضرت إلى مصر ذهبت إلى الجراح فأمر بالكشف بالأشعة على عظمة الإصبع فوجدت والحمد لله سليمة، ولم يلتئم الجرح إلا بعد علاج طويل وقد ترك أثراً في إصبعي بيًنا.
كتب على السفينة (الروضة) في ١٦ يوليو سنة ١٩٢٨.