الفصل السابع والعشرون
وفي السنة التي تليها رتبت كلية الآداب رحلة إلى العراق في إجازة نصف السنة اشترك فيها بعض أساتذة الحقوق وكلية الآداب وبعض الطلبة وعهد إلي أيضا الإشراف عليها، وكانت الرحلة أشق وأعنف، اجتزنا فيها الطريق الذي اجتزناه في الرحلة السابقة، إلى دمشق تقريباً، ثم ركبنا السيارات من دمشق إلى بغداد في نحو سبع وعشرين ساعة، قطعنا فيها بادية الشام، وهي بادية منبسطة فسيحة الأرجاء جدباء ليس فيها إلا قليل من الأعشاب، سرنا فيها ليل نهار لا نستريح في الطريق إلا قليلا لنأخذ أكوابا من الشاي أو أقداحا من القهوة، وسير السيارات في الليل المظلم والبرد القارس والريح العاصف مهيب مخيف، إلى أن لاح لنا نهر الفرات فبلعنا ريقنا بعد أن جف من منظر الصحراء، وعبرنا جسرا على نحو ما كان في عهد الرشيد والمأمون سفن ضم بعضها إلى بعض، فكانت جسراً، ووصلنا الأنبار وتسمى الآن الفلوجة، وكم نبغ من الأنبار هذه نوابغ في العلم والأدب يلقب كل منهم بالأنباري، وظللنا نسير فيما بين النهرين دجلة والفرات أكثر من ساعة في أرض طيبة خصبة، ولكنها مهملة مهجورة تنتظر اليد العاملة والرءوس المفكرة والأموال المدبرة حتى وصلنا بغداد — قارنت بين بغداد الرشيد والمأمون وبغداد العهد الحاضر، وخصب العراق ومزارعه في الماضي والحاضر، فحزنت، ولم أستطع أن أكتم حزني فكنت قليل الذوق في أول حفلة أقيمت لنا عقب وصولنا؛ إذ طلب مني الكلام فتكلمت فيما كان بين بغداد في القديم والحديث، وفيما مررنا عليه من أرض جيدة التربة، ولكنها جرداء كالصحراء، ودعوت إلى أن ينهض أهل العراق فيستغلوا كنوز الذهب في ديارهم، والمياه المتدفقة في أراضيهم، ولم أكن في هذا الحديث لبقا، إذ ليس هذا الكلام مما يصح أن يكون تحية القدوم، ولكن كان هذا أثرا للصدمة التي صدمناها عند رؤية ما بين الأنبار وبغداد، وقد أمكنني في خطبة أخرى في حفل آخر أن أتدارك هذا الخطأ، فأشيد بما فعل العراقيون من جهد جبار في إصلاح الأحوال، وكلا القولين حق، ولكن ما كل حق يقال.
تجولنا في بغداد وزرنا الإمام أبا حنيفة في مسجده بالأعظمية والإمام الكاظم والإمام الجواد في الكاظمية، والمتحف العراقي، إلخ، وأنسنا بلقاء الشاعرين الكبيرين جميل الزهاوي ومعروف الرصافي واستمعنا إلى شعرهما فيما أقيم لنا من حفلات. وقد أكرمنا العراقيون إكراماً فاق الحد فقلما خلت ليلة من دعوة وكنا في رمضان، حتى لقد دعينا ليلة واحدة إلى ثلاث دعوات اضطررنا إلى إجابتها.
وقد دعانا المرحوم الملك فيصل إلى الإفطار على مائدته ووجه إلي السؤال الآتي: هل من مصلحة بلد كالعراق أن يكثر من التعليم العالي؛ ولو أدى ذلك إلى كثرة العاطلين من المتعلمين، أو أن يقتصر فيه على قدر ما تحتاجه من موظفين؟ وهذا السؤال يستتبع مسألة أخرى نتيجة للجواب، وهي: هل ننشئ هنا مدارس عالية يكثر فيها الطلاب أو نكتفي بإرسال بعثات إلى أوروبا بقدر ما نحتاجه من غير داع إلى إنشاء مدارس عالية هنا؟ وقد وفقني الله فأجبت بأن مصلحة الأمة في كثرة المتعلمين تعلما عاليا وإنشاء المدارس العالية لهم في البلاد نفسها، ثم إرسال بعثة من النابغين، وأن التعليم العالي كله خير وبركة مهما كانت النتائج. وقد علمت بعد أن هذين الرأيين كانا يتصارعا في العراق وأتى هذا السؤال من الملك فيصل نتيجة لهذا الصراع.
ولمست في العراق الانقسام بين الشيعة والسنية، وقد زرت النجف وكربلاء وغيرهما، وهي حصون الشيعة، وصادف ذلك أيام العزاء وذكرى مقتل الإمام علي بن أبي طالب، ورأينا العامة في كربلاء يضربون صدورهم ضرباً شديدا حتى ليدموا أجسامهم حزًنا على الإمام، ومنهم من يضربون أنفسهم بالسيوف، ومنهم من يضربون ظهورهم بسلاسل من حديد، والنساء يولولن على نحو ما كان معروفا من عمل الشيعة في القاهرة إلى عهد قريب. وقد أسفت لهذه المناظر وحملت مسئولية ما يعمل في هذا الباب علماء الشيعة، وفيهم فضلاء أجلاء مسموعو الكلمة يستطيعون أن يبطلوا كل هذا بكلمة منهم، ولكن لا أدري لماذا لا يفعلون.
وهذا الخلاف بين السنية والشيعة في العراق جر عليه كثيرا من المصائب والمحن — وبذل جهود ضاعت فيما لا يفيد، لو صرفت في خير الأمة وتقدمها — بقطع النظر عن سني وشيعي — لعادت على أهلها بالخير العميم؛ ولأن الخصومة بين أصحاب علي وأصحاب معاوية معقولة في زمنهما أو بعد زمنهما فلم تعد معقولة الآن، إذ ليس هناك اليوم نزاع على خلافه ولا إمامة، وإنما هو نزاع على أيهم أفضل أبو بكر وعمر أم علي؛ وهذه لا يبت فيها إلا الله، ومن السخافة أن نضيع أوقاتنا في مثل هذا الكلام، وكل العقلاء متفقون على أن كلا من الثلاثة رجل له فضله ومزاياه، والله وحده هو الذي يتولى مكافأتهم على أعمالهم، ويزنهم بالميزان الصحيح ويقدرهم التقدير الحق، وما عدا ذلك فالخلاف بين الشيعة والسنية كالخلاف بين حنفي وشافعي ومالكي لا يستدعي شيئا من الخصومة؛ ولكن أفسد الناس ضيق العقل وعواطف العامة ومصالح بعض رجال الدين وصبغ المسائل السياسية بالمسائل الدينية.
ولما أخرجت كتاب «فجر الإسلام» كان له أثر سيئ في نفوس كثير من رجال الشيعة، وما كنت أقدر ذلك، لأني كنت أظن أن البحث العلمي التاريخي شيء والحياة العملية الحاضرة شيء آخر، ولكن شيعة العراق والشام غضبوا منه وألفوا في الرد عليه كتبا ومقالات شديدة اللهجة لم أغضب منها، ولما لقيت شيخ الشيعة في العراق الأستاذ آل كاشف الغطاء عاتبني على ما كتبت عن الشيعة في فجر الإسلام. وقال: إني استندت فيما كتبت على الخصوم، وكان الواجب أن أستند إلى كتب القوم أنفسهم، وقد يكون ذلك صحيحا في بعض المواقف، ولكني لما استندت على كتبهم في «ضحى الإسلام» ونقدت بعض أرائهم نقداً عقليا نزيها مستندا على كتبهم غضبوا أيضا، والحق أني لا أحمل تعصبا لسنية ولا شيعة، ولقد نقدت من مذاهب أهل السنة ما لا يقل عن نقدي لمذهب الشيعة وأعليت من شأن المعتزلة بعد أن وضعهم السنيون في الدرك الأسفل إحقاقا لما اعتقدت أنه الحق.
وقد حدث وأنا في بغداد حادث خطير، فقد دعينا لنشهد مجلسا من مجالس العزاء يقيمها الشيعة في ليالي مقتل الإمام علي، فذهبنا إلى «الحسينية» بالكرخ — ضاحية من ضواحي بغداد — فرأينا دارا واسعة احتشد فيها عدد لا يقل عن أربعة آلاف، وقد سرى في القوم أن وفد مصر حضر، فازدحموا على استقباله، وأخليت لنا ناحية جلسنا فيها، وخطب بعض الخطباء لتهنئتنا ورد عليهم الأستاذ عبد الوهاب عزام التحية بمثلها، ثم قام خطيب الليلة الأستاذ كاظم الكاظمي، وهو خطيب طلق اللسان حسن التأثير في السامعين، فرحب بالوفد وبأحمد أمين ولكنه عرج من ذلك على كتاب فجر الإسلام وما فيه من تجن على الشيعة وأكثر الحاضرين من عوام الشيعة الذين تؤلمهم هذه الأقوال أشد الألم، ولا يمنعهم مانع أن ينكلوا بكل من يعتدي على عقيدتهم، ولكن الخطيب ماهر، إذ أحس هياج الجمهور وتحفزهم اقتبس جملة من فجر الإسلام فيها مدح الشيعة، وهكذا ظل الرجل يلعب بعواطف الناس بين مد وجزر وتهييج علي وتهدئة؛ فلما طال هذا وخشي بعض الحاضرين سوء العاقبة نصحنا ناصح أن ننسل من باب خلفي ففعلنا ونجونا بأنفسنا — وقد علمنا أن الأمر بلغ الملك فيصل، فغضب على الخطيب وشاء أن يعاقبه، ولكنا طلبنا من ناقل الخبر إلينا أن يرجوه ألا يفعل، فقد انتهى الأمر بسلام.
وكان يوما أيوم، يوم «سر من رأى» وقد شاء الله أن تكون «سِيء من رأى» ذلك أننا اعتزمنا زيارة سامراء، وقد قيل لنا إن المسافة بين بغداد «وسامراً» نحو ساعتين، فقدرنا أن نزورها ثم نعود ونتناول الإفطار على مائدة قنصل مصر في العراق، ولكن ساء سير السيارات فلم نصلها إلا قبيل الغروب، وأبرقنا إلى قنصل مصر أن يجعل إفطارنا سحورا، ومررنا في الطريق على قنوات معطلة، وأرض زراعية فسيحة مخربة. وآثار عمران عظيمة مهدمة، وعبرنا نهر دجلة إلى «سامرا» ورأيناها وأطلالها القديمة، وشاهدنا جامع المعتصم فيها، وقد بني على نمط جامع ابن طولون بمصر وبخاصة منارته، وشاهدنا بعض آثارها الباقية، فلما حاولنا الرجوع وقد أظلم الليل، قيل لنا إن ذلك مستحيل، لأن الطريق غير مأمون فألححنا على رئيس البلدية فقبل وأرسل معنا سيارة مسلحة تخفرنا.
وكنا كلما سرنا مسافة ارتطمت سيارة في الوحل فتعطلنا حتى ننقذها ونصلحها، وسمعنا في الطريق أن لصوصا قد سطوا على قوم يمرون أمامنا، فدخلنا الرعب، ووصل الخبر إلى بغداد بأن السطو حدث علينا نحن في الطريق، فخرج مدير شرطة بغداد ببعض الجنود لاستطلاع الخبر وإنجادنا فلقيناهم في الطريق، ولم نصل إلى بغداد إلا بعد الفجر، وفاتنا الفطور والسحور، وكان يوماً خالد الذكر في حياتنا لا ننساه، لما رأينا من بلواه.
ويوما قررنا السفر إلى الموصل ووصلنا بالقطار إلى كركوك وبتنا فيها ورأينا منابع البترول وكيف تحفر الآبار، وعاقنا المطر الغزير عن متابعة السير إلى الموصل فعدنا من كركوك إلى بغداد وودعنا أهلها وأخذنا طريقنا إلى تدمر، فجسنا خلالها ورأينا قبورها وآثارها، ووقفنا على أطلالها، ولفت أنظارنا جمال أهلها، وذكرنا الزباء وما قال العرب والإفرنج عنها، وبتنا فيها ليلة، ثم قفلنا إلى دمشق ومنها إلى بيروت مخترقين جبال لبنان العالية وحولنا الثلج، وعدنا إلى مصر سالمين. وقد انطبعت في نفوسنا صور شتي من صور العالم العربي فلسطين وسورية والعراق ولبنان — كلها بلاد تتقارب في الحياة الاجتماعية وتقف على درجات من سلم واحد، فكلها تتوزع مزايا الشرق وعيوبه، هذه مصر تتقدم الجميع في مظاهر المدنية والحضارة والثروة، وهذا لبنان يمتاز بجد أهله ونشاطهم وثقافتهم وتقدم المرأة عندهم، وهذه الشام تمتاز بالنشاط والنجاح التجاري الذي عرف فيهم من عهد الآراميين، وهذا العراق يشعر بثقل الدين القديم، فينهض أهله، وبخاصة شبانه بتأسيس نهضة جديدة تستغل فيها موارد البلاد معيبة بالبطء الحكومي في تصريف الشئون، وضعف الابتكار، والحاجة إلى الأجنبي النزيه في رسم الخطط للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وكلها معيبة في نظام الحكم وعدم رعاية حقوق الشعب، وقلة شعور الشعب بحقوقه وواجباته وإن اختلفت درجاتها في ذلك، ولكل أمة من هؤلاء مشاكلها. فمشكلة لبنان انقسام أهله إلى مسلمين ومسيحيين، واختلاف نزعاتهم بين ميل إلى فرنسا وكره لها، ومشكلة القدس الخلاف بين زعمائه وأحزابه على الغلبة والرياسة، مع أن الصهيونية تنخر في عظامهم، ومشكلة العراق تقسم أهله بين سنية وشيعة وبدو وحضر، وهكذا رأيت كل هذه المناظر واختزنتها في نفسي وأثرت في تفكيري.
وسافرت إلى الحجاز للحج سنة ١٩٣٧ مع بعثة الجامعة المصرية، ولا أطيل في وصف الطريق والمراحل التي يقطعها الحاج، فقد ذكرت كثيرا قبل، وكل ما أريد ذكره أن عادة الحجاج أن يغمرهم الشعور الديني، فلا يشعروا بما تحملوا من متاعب، ولا بما صادفوا في الطريق من عقبات، ولا ما شاهدوا من فوضى وعدم نظام ونحو ذلك، أو يشعرون بها ولكن يحملهم الورع الديني ألا يفوهوا بها، ولا ينطقوا إلا بما رأوا من محاسن، أما أنا فقد غمرني أيضا الشعور الديني وكان في الحج مواقف اهتز لها قلبي ودمعت لها عيني، وأروعها — على ما أذكر — مشاهدة الكعبة وطوافي طواف الناس حولها، ثم وقوفي بعرفات وعشرات الآلاف من الحجاج يلبسون لباسا أبيض بسيطا كأنهم تجردوا من الدنيا ونعيمها وطرحوا زخارفها. ووجهوا قلوبهم كلها إلى خالقهم يبتهلون إليه أن يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم، وأن يعينهم على حياة جديدة ملؤها الطاعة والتقوى، ثم زيارتي للحرم المدني في المدينة ووقوفي أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أستحضر تاريخه ومواقفه وعظمته، فكل هذه المواقف كانت جميلة حقا رائعة حقا.
ومع ذلك فكان عقلي مفتحا أيضا لرؤية المتاعب ومنشئها وإدارة الحج وتقدير إحسانها أو إساءتها، وتدوين كل ذلك في مذكرتي؛ فهذا الزحام يشتد في أيام الحج وتضطرب حركة السير، وبخاصة عند نزول الناس من عرفات إلى منى، وفي الإمكان تنظيمه وترتيبه بشيء من العناية، وهناك قلة الماء في منى وصعوبة الحصول عليه، وفي الإمكان ترتيب ذلك. وهناك عدم العناية بالنظافة حول الحرم المكي والمدني وفي المساكن والشوارع. وهناك سوء الطريق بين جدة والمدينة إلى كثير من أمثال ذلك، ألمت لها، وفكرت في وجوه الخلاص منها، وأيقنت أن إدارة الحج بمعاونة العالم الإسلامي لها تستطيع بجهد قليل أو كثير أن تتلافى هذه العيوب وتريح الحجاج مما يلحقهم من أذى قد يصرفهم في كثير من الأحيان عما حجوا لأجله، من فراغ للعبادة واتصال بالله.
ورأيت من واجب الخاصة أن يدرسوا ما رأوا ويفكروا في العلاج ويقترحوا سبل الخلاص من الأدواء ويرفعوا صوتهم بها، فذلك خير من السكوت عليها. من أجل هذا كتبت تقريرا عن كل ما رأيت من داء وما أصف من علاج، ولم أبخس فيه الإدارة الحجازية فضلها في بسط الأمن ونشر الطمأنينة بين الحجاج على أنفسهم وأموالهم؛ ورفعت نسخة من هذا التقرير إلى وزارة الخارجية المصرية والجامعة، وتحدثت بخلاصة ذلك في الإذاعة المصرية، فكلمني المرحوم طلعت باشا حرب بأنه يريد مني أن أقابله ففعلت، وكان من رأيه ألا أثير هذه المسائل الشائكة، ولا أذكر هذه المعايب والمتاعب، لأنها تصرف كثيرا ممن يريدون الحج عنه، وتسيء إلى الإدارة الحجازية من غير داع، فشرحت له وجهة نظري في أن الإعلان عن هذه العيوب يدعو إلى إصلاحها، وما دمنا ساكتين فلا أمل في الإصلاح؛ وأخيرا تقاربت وجهة نظرنا واتفقنا على أن أكتب تقريرا مفصلا لا أذيعه في محطة الإذاعة ولا أنشره في الجرائد، ولكن أقدمه إليه وهو يرفعه إلى الإدارة الحجازية ويعمل ما وسعه في التفاهم معها ومع الحكومة المصرية على بذل الجهد في الإصلاح.