الفصل الثامن والعشرون
أتيحت لي فرصة أخرى سنة ١٩٣٢ لأرى الغرب كما رأيت الشرق، وأرى المدنية الحديثة كما
رأيت
مدنية القرون الوسطى، وأرى من يسمونهم المتقدمين كما رأيت من يسمونهم المتأخرين، فيكون
لي
بدل العين عينان وبدل المنظر الواحد منظران، فاخترت عضوا في مؤتمر المستشرقين الذي ينعقد
في
ليدن بهولنده، وقررت السفر قبل الموعد بنحو شهرين، حتى أزور ما أمكنت زيارته من مدن أوربية،
فركبت البحر إلى مرسيليا مع صديقي الدكتور عبد الرزاق السنهوري — وقد خبر فرنسا خبرة
طويلة
ودقيقة وعرف أهلها وبلادها إذ أقام فيها سنين يدرس القانون — وزرنا مرسيليا وتجولنا فيها
وخرجنا إلى ضواحيها، ثم سافرنا إلى ليون ونزلناها وأقمنا فيها ثلاثة أيام رأينا فيها
معالمها وجامعاتها وخرجنا إلى ريفها، ثم سافرنا إلى باريس ونزلنا في أوتيل فوايو بجانب
مجلس
الشيوخ وأقمت فيه نحو عشرة أيام، وقد وضع لي صديقي برنامجا دقيقا وطويلا رتبه بإمعان
وبعد
طول تفكير، ليريني أهم ما في باريس من جد ولهو وعلوم وفنون وأبنية ضخمة وآثار رائعة،
ويريني
المدينة والريف والعاصمة والضواحي، فكان برنامجا شاقا صعبا، كل يوم رؤية صباحا ورؤية
مساء،
ولم يسمح لي أن أستريح ولو قليلا، ولا أن أتذوق ما أرى، وأنا رجل بطيء الحركة أحب أن
أتحرك
على مهل وأتذوق على مهل وأستطعم ما آكل، وأحب أن أتغدى ثم أغفو قليلا بعد الغداء فلم
يمكني
من شيء من ذلك، فيوما يريني ميدان الباستيل وشوارع باريس الكبيرة وكنيسة مادلين وميدان
الكونكورد ومنتزه الشانزليزيه، وفي المساء نذهب لمشاهدة رواية في الأوبرا، ويوما نرى
برج
إيفل ونصعد إليه، ونستمع للدليل يشرح لنا الغرض منه وكيفية تأسيسه ونزور الجماعات وبعض
المدارس، ويوما نزور غابة بولونيا وقصر فرساي وقاعاته ومتحفه، ويوما نزور معامل سيفر
المشهورة بعمل الصيني، ويوما نزور اللوفر ومتاحفه، ونخرج إلى حديقة لوكسمبورج وسرايها
وكنيسة نوتردام، ويوما نزور مونمارتر وملاهيه والمكتبة الأهلية ونلتقي نظرة عامة على
ما
فيها، ويوما نزور سوق باريس في الصباح المبكر لنرى منظراً غريبا في البيع والشراء، ويوما
نخرج إلى ضاحية بعيدة من ضواحي باريس نرى فيها ريف فرنسا وجماله، ويدعونا بعض أصدقاء
الدكتور لنرى بيوتهم وعائلاتهم ونتعشى معهم إلخ.. إلخ.. كل ذلك في عشرة أيام كنت فيها
متحركا لا أسكن، ونشيطا لا أخمد، ومجهدا لا أستريح إلا وقت النوم في أوتيل فوايو.
وأذكر مرة أننا نفذنا برنامجنا الصباحي ثم تغدينا في مطعم وجلسنا بعد الغداء نشرب
القهوة
لنستعد لتنفيذ برنامج بعد الظهر، ولكن السماء أمطرت في غزارة، وأحسست حاجتي الشديدة إلى
الاستقرار بعد الغداء فلم يسمح لي، وأبى إلا أن يطبق البرنامج بكل دقة، فكنا نمشي في
المطر
الشديد لنصل إلى حيث نريد طبقا للبرنامج، وقد أتخمت من هذه الأيام العشرة بالمعلومات
والمناظر والمعارض والأحداث حتى لكأنني أشاهد رواية سينمائية دام شريطها عشرة أيام واحتجت
إلى سنين بعدها أهضم ما أتخمت به؛ ثم ودعت صديقي ذاهبا إلى إنجلترا.
وأبرق إلي صديق لي
١ يعد لي مسكنا في لندن ويستقبلني في محطتها، ويصل القطار إلى كاليه، وأعبر بحر
المانش إلى دوفر، وأركب القطار إلى لندن فيستقبلني صديقي ويريني مسكني فيها؛ حجرة واسعة
لطيفة فيها سرير، مفروشة فرشا بسيطا لطيفا في بيت من بيوت الطبقة الوسطى وفي حي كذلك،
وتعد
صاحبته ما أحتاجه من فطور وعشاء أما الغداء ففي المطعم، وأتعرف في المنزل بفتاة إنجليزية
من
أصل ألماني سألتها أن تصحبني في الخروج إلى معالم لندن ومشاهدها فقبلت، فزرنا المتحف
البريطاني، واستعرضت فيه بعض المخطوطات، ودار بلدية لندن «جولد هول» وبنك إنجلترا
وبرلمانها؛ ومسلة كليوبترة، وجريدة التيمس وميدان الطرف الأغر وتمثال نلسن وكنيسة «وستمنسر
أبي» وجامعة لندن وقصر سنت جيمس وحديقة هايد بارك والمتحف الحربي إلخ.. وكنت في لندن
أشعر
ببعض الحرية وبعض الاستقلال، لمعرفتي اللغة الإنجليزية وقدرتي على التفاهم بها، على عكس
ما
كنت في فرنسا، إذا كنت عالة على صديقي لا أكاد أستطيع الحركة إلا معه، فإذا تخلى عني
لم يكن
أمامي إلا الجلوس في قهوة، أو السير في شارع من شوارعها الفسيحة كما يسير الأصم الأبكم؛
والمسافر من فرنسا إلى إنجلترا يشعر بالفرق الكبير، حين يطأ أول أرض إنجليزية؛ فمن ساعة
أن
يتلقاه الحمالون الإنجليز ليحملوا أمتعته ويوصلوه إلى القطار يشعر بالهدوء التام والنظام
الشامل وسير الأعمال فيها كأنها آلة دقيقة منظمة كل جزء منها منسجم مع ما حوله.
وأحببت أن أزور الريف الإنجليزي فرتب صديقاي الأستاذ حافظ وهبة وزير المملكة العربية
السعودية في لندن والمرحوم الأستاذ أمين جمال الدين مدير البعثات في لندن رحلة إلى ويلز
في
عربة الأستاذ حافظ يسوقها الأستاذ جمال الدين، فكانت رحلة ممتعة عرفنا فيها الريف
الإنجليزي، وكنا نسير على مهل، فإذا جاء وقت الغداء تغدينا في مطعم في الطريق، وإذا جاء
المساء بحثنا عن بيت في الريف لقروي يضيفنا، ومازلنا في رحلتنا حتى وصلنا إلى كارنارفون
فأقمنا فيها أياما.
وأقمت في إنجلترا نحو أربعين يوما، اهتممت فيها أن أرى أكثر ما يمكن أن أرى، وأتعرف
من
أحوالها الاجتماعية بقدر ما أستطيع، ولكن شيئًا واحدا أسفت له أشد الأسف، وهو أني كنت
حضرت
بحثي الذي اعتزمت إلقاءه في مؤتمر المستشرقين باللغة العربية، وقد قيل لي بعد إن لغة
الإلقاء لا بد أن تكون بالإنجليزية أو الفرنسية، فشغلت نفسي وأنا في لندن بالاستعانة
بمترجم
إلى الإنجليزية، وبكتابة ذلك على الآلة الكاتبة، فاستغرق مني ذلك مجهوداً كبيرا وأضاع
على
زمًنا كان يجب أن أصرفه في معرفة الحياة الإنجليزية في نواحيها المختلفة، والاستمتاع
بمناظرها ومباهجها، وأخيرا سافرت إلى ليدن بهولنده حيث ينعقد المؤتمر.
رأينا ليدن وكأنها دير كبير يتعبد فيه رجال العلم، تموج بالعلماء والمكاتب وفيها مطبعة
بريل الشهيرة التي كان لها الفضل الكبير في طبع كثير من الكتب العربية، وكنا قد كتبنا
إلى
سكرتارية المؤتمر بحجز أمكنة لنا، فلما رأيناها لم تعجبنا كثيرا لأنها كانت أشبه بمساكن
الطلبة، ففضلنا أن نسكن في لاهاي وننتقل كل يوم إلى ليدن، وكان يصحبني في هذه الرحلة
الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الذي آنسني بمصاحبته، وخفف عني بعض أعبائها، فجزاه الله
خيراً.
وانعقد المؤتمر واستمعنا فيه إلى أبحاث المستشرقين في الإسلاميات والأدب العربي والهنديات
والصينيات وما إلى ذلك، وجاء يوم بحثي، وكان موضوعه «نشأة المعتزلة» وكان يوما عسيرا
فلم
أعتد في حياتي أن أخطب أو أحاضر باللغة الإنجليزية، وقد كنت وجهت أكبر اهتمامي عند تعلمي
لها إلى الإجادة في فهم ما أقرأ من كتب والترجمة منها إلى العربية، لا في الكتابة
بالإنجليزية ولا بانطلاق اللسان في الحديث بها، وكان رئيس اليوم الذي ألقيت فيه محاضرتي
هو
الأستاذ مرجوليوث، وقد استأذنته في إلقاء المحاضرة باللغة العربية فأبى، وقال إن أكثر
المستمعين لا يفهمون العربية إلا قليلا، وخير أن تلقيها بالإنجليزية، فألقيتها في خجل،
لا
من الموضوع ولا مما كتب، ولكن لأنها أول تجربة لي من هذا النوع، وما إن انتهيت من إلقائها
حتى بلعت ريقي وتنفست الصعداء. ورجعت من هولنده إلى فرنسا وأقمت فيها أياما أخرى في باريس
واستقبلني فيها صديق آخر
٢ لم يكن عنيفا كالصديق الأول، بل كان رفيقا بي، وأراني ما لم أكن رأيت، واستمتعت
فيها بالراحة والهدوء والأحلام أكثر مما كنت استمتعت وأخذت السفينة
٣ من مرسيليا إلى مصر فانكسرت في الطريق واضطرت أن تعرج على إيطاليا، واستغرق
إصلاحها أياماً، فانتهزت هذه الفرصة لزيارة المدن الإيطالية القريبة كميلانو وجنوة فشاهدت
كنائسها الضخمة وأبنيتها الفخمة ومقبرتها الجميلة وفنها البديع، ثم عدت إلى مصر بعد أن
شاهدت معالم المدنية الحديثة ووقفت على بعض أسرار تقدم هذه الأمم، وكنت في أكثر ما أرى
يشتغل ذهني في المقارنة بين الشرق والغرب — أذكر ذلك إذا رأيت الآلات والمصانع وتقدمها،
والشوارع والبيوت ونظافتها، والناس ونظامهم، والمرأة وأهمية مركزها في الحياة الاجتماعية،
حتى لو نسب الفضل الأكبر في المدينة الحديثة لكان أكثره يرجع إلى المرأة. فالمرأة التي
تربي
الأمة وهي التي تعود أبناءها النظام والأخلاق، والمطر هو الذي يهيئ الطبيعة ويصوغها صياغة
جميلة ويكسو الجبال الصخرية بالأشجار والنبات فيكون من ذلك منظر بديع. وعلى الجملة فالمرأة
والمطر من وراء كل مظهر من مظاهر المدنية، حتى لو قلت إن مقياس رقي الأمم التي شاهدتها
هو
درجة المرأة في الرقي وانهيار الأمطار في أوقات مختلفة لم أكن بعيدا عن الصواب؛ أعجبني
في
فرنسا ذكاء أهلها ونشاطهم وكثرة حركتهم، وأعجبني في إنجلترا نظامهم وتعقلهم وضبط عواطفهم
وهدوؤهم في أعمالهم، وأعجبني في هولنده نظافتهم ونجاحهم في الحياة وجدهم وعلمهم، وأعجبني
في
إيطاليا فنهم.
وعلى الجملة فلا أستطيع أن أحصر ما استفدت من هذه الرحلة فقد اختزنت منها كثيرا، وفي
كل
مناسبة كنت أستخرج من هذا المخزن ما أستفيد منه مما لم يكن يخطر لي حين الرحلة على بال،
وأهم ما استفدته هو تمكني من المقارنة بين الشرق والغرب، فقد كانت رحلتي إلى الغرب معادلة
رحلتي إلى الشرق، فكنت دائما أنظر إلى هذا نظرة وإلى ذاك نظرة، وأستخرج الحكم بعد المقارنة،
وكنت قبل ذلك لا أرى إلا لونا واحدا ولا أسمع إلا صوتا واحدا.
وأتممت الاستفادة من هذه الرحلة برحلة أخرى إلى أوروبة نفسها سنة ١٩٣٨، فقد اختارتني
الجامعة أيضا عضوا في مؤتمر المستشرقين في بروكسل، وزرت إيطاليا وفرنسا مرة أخرى، واستعدت
ذكريات ماضية، وأردت أن أستفيد جديدا فذهبت إلى سويسرا وأقمت فيها أياما فنزلت في مدينة
لوسرن، وركبت بحيرتها واستمتعت فيها بجمال مناظرها الباهرة.
ويوما ركبت بحيرة لوسرن مع صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام، فأعجبنا منظر قرية على
البحيرة
اسمها كيرسبتن، نزلناها وتجولنا فيها وصعدنا في مرقاتها إلى أعلاها فوجدنا فندقها وبيوتها،
فطفناها وتوغلنا فيها، فرأينا غابات جميلة ورأينا في مدخل إحدى الغابات بيتا صغيرا لطيفا
زرعت أمامه أشجار التفاح، فسألنا أصحابه: هل يقبلوننا نزلاء فيه؟ فقبلوا ونقلنا أمتعتنا
من
فندق لوسرن إلى هناك — وأقمنا فيه أياما ننعم بمنظر الغابات ومنظر الجبال المزروعة،
والأبقار ترعى في الحقول وكل بقرة تحمل جرسا يناسب حجمها، فتتكون من أصوات هذه الأجراس
موسيقى جميلة تأخذ بلب السامع في هذا الفضاء الواسع والسكون الشامل، ونرى بيت هذه الأبقار
فنتمنى لو تيسر مثل هذه البيوت لفلاحينا في مصر: نظيفة جميلة أضيئت بكهرباء وفرشت بألواح
الخشب، وحدد لكل بقرة منامها ومجرى ما يخرج منها، فلا ترى في بيوتها إلا نظافة وأناقة،
وكنا
في أغسطس، وكان الجو باردا كصميم الشتاء في مصر. وخرجنا من سويسرا بعد أن امتلأنا روعة
من
جمالها وصحة ونشاطا من طيب هوائها، واتجهنا إلى بروكسل حيث المؤتمر، وقد تعلمت من الدرس
الماضي في لندن فآليت ألا أحاضر إلا باللغة العربية، وكان من حظي أن أكثر المستمعين
يجيدونها، وكان موضوع محاضرتي «أبو حيان التوحيدي وكتابه الإمتاع والمؤانسة» وقد تحدثت
وأنا
مالئ يدي من موضوعي ومن لغتي فنجحت وحدثت لي حادثة طريفة في بروكسل، فقد ذهبت إلى حلاق
لا
يعرف كلمة إنجليزية وأنا لا أعرف كلمة فرنسية فكان كلما حدثني وأنا
Oui وإذا حدثته بالإنجليزية قال لي
Yes بالفرنسية قلت لا أفهم ما يقول، وهو لا يفهم ما
أقول حتى رأيت آخر الأمر رأسي وليس بها إلا شعر خفيف جدا قصير جدا والدنيا برد، وأنا
مضطر
عند دخولي قاعة المؤتمر أن أخلع قبعتي، فلا أجد بها شعراً يقاوم بردا ولا يجمل منظرا،
وقصصت
القصة على زميلي الدكتور طه حسين والدكتور عبد الوهاب عزام فضحكا وأغرقا في الضحك، وقال
الدكتور طه: إني سأضع رواية اسمها «حلاق بروكسل» على نمط «حلاق إشبيلية» ونظم الدكتور
عزام
قصيدة أذكر منها:
ونظر الأستاذ في (المرايه)
فلم يجد في رأسه (شعرايه)
ورأيت في هذه الرحلة الناس في بلجيكا وفرنسا وقد عراهم الذعر مما يرونه من طوالع الحرب
وكثرة الحديث عنها وكثرة الاستعداد لها، حتى لقد أسرعنا في العودة خوف أن تقفل الطريق
أمامنا.
ولئن كانت الرحلة الأولى قد أطلعتني على جوانب من المدينة الغربية، فهذه الرحلة قد
نمتها
وثبتتها.