الفصل التاسع والعشرون
أعود بعد الرحلات إلى وصف حياتي العامة والخاصة، فقد رقيت في كلية الآداب من مدرس إلى أستاذ مساعد، فأمكنني بذلك أن أكون عضوا في مجلس إدارة الكلية، أتصل فيه بالأساتذة المصريين والفرنسيين والإنجليز والبلجيكيين، وأرى في كل جلسة كيف تعرض الأمور وكيف ينظر إليها وكيف تدخل النزعات والأغراض في تكوين الآراء. لقد تعلمت أن المنطق آخر أدوات الحكم على الأشياء؛ وأن النزعات والأغراض والبواعث هي التي تتحكم في المنطق لا التي يحكمها المنطق؛ فليس المنطق ما عرفنا تعريفه، من أنه آلة تعصم الذهن عن الخطأ في الحكم، ولكن هو القدرة على تبرير البواعث والنزعات والأغراض لتتخذ شكلا معقولا، وكان المجلس كبرج بابل يتكلم متكلم بالعربية وآخر بالفرنسية وثالث بالإنجليزية، وإذا حزب الأمر ترجمت كل لغة إلى اللغات الأخرى، وأحياًنا في الأمور العامة تلعب السياسة لعبها من وراء ستار، فالفرنسيون مثلا يريدون أن يسيطروا على قسم الفلسفة، والإنجليز يريدون أن يتدخلوا فيه وأن يسيطروا على الكلية بواسطة عميدها، وأكبر ما يتجلى هذا عند خلو كرسي من كراسي الأساتذة أو عند خلو مكان العميد.
وقد صاحبت التطور الذي حدث، من تحول عدد الأساتذة المصريين من قلة إلى كثرة، ومن قلة ما بأيديهم من توجيهات إلى أن ملكوا زمام الأمور في الكلية بتعيين عميد مصري لها، وعاصرت الصراع الشديد بين محاولة الحكومة التدخل في شأن الجامعة أحياًنا، ومحاولة الجامعة المحافظة على استقلالها، وأكثر حادثة من هذا القبيل هي حادثة نقل الدكتور طه حسين من كلية الآداب إلى وظيفة في وزارة المعارف من غير أخذ رأي الكلية ولا إدارة الجامعة واستقالة الدكتور طه وإضراب الطلبة عن الدروس، وانقسام الأساتذة إلى قسمين قسم مسالم وقسم مناهض وكنت إذ ذاك من المناهضين، وأوذيت في ذلك كثيرا حتى فكر في نقلي من الجامعة.
وحدث — وأنا أستاذ مساعد — أن منعت من أن أكون أستاذا لعدم حصولي على الدكتوراه أنا وبعض زملائي، وإن كان القانون يسمح أن يرقى الأستاذ المساعد في اللغة العربية بكلية الآداب والشريعة الإسلامية بكلية الحقوق إلى أستاذ من غير دكتوراه، فواجهت المسألة بروح رياضية، وقدمت طلبا لنيل الدكتوراه بالدخول في الامتحان، على النظام الذي يتبع مع الطلبة في الحصول عليها، وقدمت لذلك كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام كرسالة للمناقشة، واعترض إذ ذاك بأن الأساتذة بالكلية قد يحابونني لأنني أحدهم، فاقترحت أن يكون أكثر الممتحنين من الأساتذة الأجانب المستشرقين، فصمم وزير المعارف إذ ذاك على رفض هذا الطلب، وكان هذا أيضا تدخلا في شئون الجامعة لا مبرر له، فلم يتم امتحاني.
وشعر بعض إخواني من أساتذة الجماعة وأعضاء لجنة التأليف بعدم عدالة هذا التصرف، فأقاموا حفلة تكريم لي، وكان ذلك سنة ١٩٣٥، وانتهزوا فرصة مرور عشرين سنة على لجنة التأليف والترجمة والنشر ورياستي لها طوال هذه المدة، فسألتهم العدول فلم يقبلوا، وسألتهم أن تكون الحفلة صامتة فلم يقبلوا أيضا، وأقاموا بالفعل حفلة ضخمة دعوا إليها أعضاء لجنة التأليف وكبار رجال المعارف وكبار رجال السياسة من مختلف الأحزاب، وأقاموها في «سنت جيمس» وقسموها إلى موائد، وعلى كل مائدة رئيس من علية القوم، فمائدة يرأسها مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وأخرى المرحوم أحمد ماهر، وثالثة المرحوم الدكتور على إبراهيم، ورابعة المرحوم إبراهيم الهلباوي، وخامسة المرحوم عبد العزيز فهمي، وسادسة المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والمستشرق الكبير نللينو، وقد افتتح خطبته بقوله «إن عند الرومانيين قولة مشهورة: أنه يحق لكل إنسان أن يجن مرة، وأريد أن أجن هذه المرة فأخطبكم باللغة العربية»، كما كان من الخطباء الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور عبد السلام الكرداني والأستاذ محمد كرد علي، ورددت عليهم آخر الأمر خجولا متواضعا شاكرا، ومما قاله الدكتور علي إبراهيم في هذه الحفلة: إنه لو استطاع أحد أن ينظم مثل هذا الاحتفال ويجمع رؤساء الأحزاب والسياسة كما جمعوا في هذا الحفل، ويؤلف بينهم في موضوعات الخلاف كما ألف بينهم اليوم لكان هذا نجاحا سياسيا باهرا. وقد أثرت هذه الحفلة في نفسي أكبر الأثر، واغتبطت بها أكبر الاغتباط، وعددتها مكافأة أكبر من نجاحي في الدكتوراه.
ولكن لا يصفو الزمان حتى يكدر، ولا يحسن حتى يسيء، فعقب هذا الحفل بأيام شعرت بخمود شديد في جسمي، وانقباض في صدري فعرضت نفسي على الطبيب فقرر أني أصبت بالبول السكري، وألزمني الصوم عن الأكل إلا السوائل أياما، ثم السير بعد ذلك على نظام في الأكل دقيق تتجنب فيه النشويات والسكريات، ومن ذلك الحين دخلت في حياتي حقن الأنسولين، وقد صحبني هذا المرض — إلى الآن — خمس عشرة سنة، أحاوره ويحاورني، ويصادقني أحيانا ويعاديني، وأمتنع من أجله عما أشتهي، وأتجنب الجهد الشاق على غير رغبتي، وأحيانا يرميني بالأفكار الحزينة وألوان الحياة القاتمة، وأحمد الله إذ لم يكن من الشدة كما هو عند غيري.
وبعد ذلك أريد أن يمنح غيري الأستاذية من غير دكتوراه، وأحرم أنا لمواقفي السابقة في المحافظة على استقلال الجماعة، فطلبت أن تؤلف لجنة لبحث مؤلفاتي، فاختيرت لذلك لجنة من الأستاذين المستشرقين الدكتور شاده والدكتور برجستراسر، فقرآ فجر الإسلام وضحاه، وقدما تقريرا باستحقاقي الأستاذية على هذين الكتابين، وقالا: إن عيبي الوحيد في تأليف هذين الكتابين هو أن هناك بحوثا في بعض موضوعات الكتابين عرض لها بعض الأساتذة الألمان، ولو اطلع عليها المؤلف لبنى عليها ولم يتعب نفسه في بحث أساسها؛ ولكن وزارة المعارف أخفت هذا التقرير لأنه مخالف لما كانت تأمل، فطلبت من العميد أن يطلب التقرير من الوزارة، فماطلت، ثم بعثته وعطلت أثره في مجلس الجامعة، ولم أحصل على الأستاذية إلا بعد عناء وبعد أن هدأت النفوس وبعد أن قدمت استقالتي لأني لم أعامل معاملة زملائي.
ووقع علي الاختيار لأكون ممثلا لكلية الآداب في مجلس الجامعة، فاستمررت على ذلك نحو عشر سنين، وقد مهد لي ذلك السبيل إلى سعة اختباري وكثرة تجاربي؛ فمجلس الجامعة يتكون من عمداء الكليات وبعض كبار الأساتذة من كل كلية ومن وكيل وزارة المالية ووكيل وزارة المعارف وبعض كبار البلد يعينون لخبرتهم العلمية، من رؤساء الوزارة أو وزراء سابقين، أو نحو ذلك، فكان هذا المجلس يمثل أعقل مجلس بمصر، شاهدت فيه العقليات المصرية الكبيرة كيف تتصرف بالأمور، وكيف تتكون لديها الآراء، والعوامل التي تعمل في اتجاهاتها وتكوينها، وكيف يتناقشون وكيف يحتجون. والحق أنه كان يستولي علي الوهم أن الرجل إذا كان ذا منصب كبير في الماضي أو الحاضر فذلك عنوان عبقريته ودليل نبوغه، وأن له من الآراء ما يفوق كل رأي، ومن الأفكار ما يتضاءل أمامها كل فكر، فزال هذا الوهم بهذا المجلس، ورأيت هؤلاء الكبراء يفكرون كما يفكر الناس ويخطئون كما يخطئ الناس، وتتغلب عليهم الأهواء — أحيانا — كما تتغلب على سائر الناس.
وكان من تجاربي أن رأيت أكثر الناس يسيرون مع العظماء في آرائهم وأفكارهم ولو اعتقدوا بطلانها، ولكن إذا تشجع أحد ودافع عن الحق وجهر به وصمم عليه تبعه هؤلاء وانضموا إلى جانبه ضد العظماء فليس عندهم من الشجاعة ما يبدئون به قول الحق، ولكن ليس عندهم أيضا من السفالة ما يناهضون به قائل الحق.
وقد استفدت من هذا المجلس تجربة أخرى، وهي أن كثيرا من الناس يتضايقون من المعارض وقد يحاولون إيذاءه والتنكيل به، ولكنهم إذا تيقنوا أنه إنما يدافع عما يعتقد، وأنه إذا دافع بأدب، وفي لياقة ولباقة، من غير أن يمس شعورهم وكرامتهم كان موضع الاحترام والإجلال والكرامة من مؤيديه وخصومه معا.
وكثيرا ما كانت تعرض مسائل شائكة، فأقف فيها — مع بعض إخواني — الموقف نفسه؛ يجتمع المجلس — مثلا فيقرر فصل طلبة لأنهم مشاغبون، ومن حزب غير حزب الحكومة، فإذا جاء حزبهم وتولى الحكم عرض على المجلس إرجاعهم والعفو عنهم فيرجعون، فكنت شديد المعارضة لهذا التصرف مما يغضب هؤلاء وهؤلاء.
ومرة أوعز إلينا بمنح درجات دكتوراه فخرية لبعض الأجانب الأوروبيين وهم في الخارج، وكان إيعازا قويا، ولم أتبين أنا وزملائي وجه الحق في هذا المنح، فوقفنا نعارض في منحهم هذه الدرجات، وأخذ القرار بمنحهم بالأغلبية ولكني غضب على غضبة شديدة. وفكر في إخراجي من مجلس الجامعة بل من الجامعة كلها، ثم لا أدري ماذا حدث حتى انتهت المسألة بسلام.
ولا أنسى مرة قرر مجلس الجامعة إرسال خطاب شكر للطفي باشا السيد عقب أن ترك مجلس الجامعة، ولكن الحكومة كانت غاضبة عليه، فلم يرسل الخطاب إليه، ثم تبدلت الحكومة، وجاءت حكومة أخرى مؤيدة للطفي باشا، فأرسل الخطاب، فوقفت في المجلس ويدي ترتعش وصوتي يتهدج، ألوم القائمين بالأمر على هذا التصرف، وأستحث الأعضاء على احترام كلمتهم والحرص على تنفيذ آرائهم، وهكذا وهكذا، فكانت كل جلسة درسا مفيدا وأحيانا درسا قاسيا.
وقابلني مرة الأستاذ مكي الناصري، المغربي المراكشي، وأخبرني أن المنطقة الخليفية وعاصمتها تطوان قد رأت من الخير أن ترسل بعثة إلى مصر من الطلبة المغاربة المراكشيين وأنه يريد مني الإشراف عليها وأنه يمد المشروع كل شهر بما يلزمه فقبلت.
واستأجرنا مكانا لبعثة الطلبة وكانوا نحو عشرين بعضهم يتعلم في كلية الآداب وبعضهم في دار العلوم وبعضهم في مدارس صناعية، ورتبت لهم معيشتهم في البيت ومن يشرف عليهم، ومن يشرف على صحتهم، وأجرت لهم ناديا للاجتماع ولإلقاء المحاضرات المناسبة وربطت المشروع بلجنة التأليف فنشرت كتبا كثيرة على حساب بيت المغربي هذا: مثل أكثر أجزاء «أزهار الرياض، للقاضي عياض» وترجمة كتاب «الحضارة الإسلامية» للأستاذ متز وكتاب في النهضة الغربية وأسسها، وأزمعت إخراج أطلس جغرافي يشمل بلاد المغرب جميعها، ورجوت المختصين في هذا الموضوع أن يقوموا به. ولم يمنع من إخراجه إلا قيام الحرب العالمية الثانية، وغلاء الورق، والطبع، وأخيرا حارب المشروع دولتا إسبانيا وفرنسا، فقضيتا عليه. فكان هذا أيضا مما استنفد مجهودا كبيرا مني.
وفي أول إبريل سنة ١٩٣٩ كان قد خلا مركز عميد كلية الآداب بعد أن تولاه من المصريين الدكتور طه حسين والدكتور منصور فهمي والأستاذ شفيق بك غربال، ونظام الجامعة يقضي بأن مجلس الكلية يختار ثلاثة من بين الأساتذة يعين أحدهم وزير المعارف، فاختير ثلاثة وكنت أكثرهم أصواتا فيعينني المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا عميدا، وقد عجبت أنا نفسي من هذا الاختيار، فأنا رجل دخيل على الجامعة بحكم تربيتي الأزهرية الأولى وتربيتي شبه الأزهرية في مدرسة القضاء، وأنا رجل لم أتعلم في جامعة مصرية ولا أجنبية، وأنا رجل لم يتعلم لغة أجنبية إلا ما تعلمته من اللغة الإنجليزية بعناء وبقدر محدود، فكيف أختار لهذا المنصب وأرأس الأساتذة الأجانب والأساتذة المصريين ممن تعلموا في الجامعات الأوروبية ونحو ذلك؟ الحق أني أكبرت هذا كله وشعرت بالمسئولية الكبرى الملقاة على عاتقي، ولكني تذكرت قول المرحوم الشيخ محمد عبده: «إن الرجل الصغير يستعبده المنصب، والرجل الكبير يستعبد المنصب» أو ما معناه ذلك.
ها أنذا في عمادة كلية الآداب، قد شغل وقتي كله بأعمال إدارية أكثرها لا قيمة له، فكل الأوراق تعرض علي حتى شراء مكنسة، وكل أعمال الطلبة والأساتذة تعرض علي حتى الكلمة النابية يلفظها طالب، إلى شكاوى الطلبة وما أكثرها! وتزاحم المدرسين والأساتذة على العلاوات والدرجات وتسوية الحالات وما أصعبها! فكان هذا يشغل وقتي، حتى لا أستطيع أن أفرغ للعلم إلا قليلا، ولا أن أفرغ للنظر في المسائل الأساسية كمناهج التعليم وطرق التربية إلا بقدر، وهذه عدوى من نظام الحكم في مصر حيث تتركز الأعمال كلها في يد رئيس المصلحة، وما كان أحرى الجامعة أن تتخلى عن ذلك، وتوزع الاختصاص ويتفرغ العميد للمسائل المهمة، ولكن أنى لنا ذلك!
مكثت على هذه الحال سنتين وأنا آسف على ضياع وقتي ووقوف عملي العلمي، فلم أؤلف في هذه الفترة كتابا، ولم أتمم بحثا، وأنا ضيق الصدر بكثرة الطلبات والشكايات والعلاوات والدرجات، ولكن أحمد الله إذ لم أكن أقل شأنا من غيري في إدارة الكلية بشهادة غيري.
وكانت مدة العمادة ثلاث سنوات حسب القانون، ولكن حدث بعد سنتين أن اختلفت وجهة نظري مع وجهة نظر وزير المعارف إذ ذاك، فتصرف في أمر هام من أمور الكلية من غير أخذ رأيي، فاعترضت على ذلك فاعتذر، وتكرر هذا الأمر ثانية فكان شأنه كذلك، ثم قرأت في الجرائد أن عددا كبيرا من مدرسي كلية الآداب وأساتذتها صدر قرار بنقلهم إلى الإسكندرية من غير أن يكون لي علم بشيء من ذلك، فقدمت استقالتي من العمادة وصممت عليها فقبلت، وحمدت الله أن تحررت منها ورجعت أستاذا كما كنت، وبدأت أتمم سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام على النحو الذي رسمت، فأخرجت الجزء الأول من ظهر الإسلام.
وشاعت مرة شائعة بعد تغير الوزارة أني سأعود عميدا وسألني صحفي عن ذلك فقلت: «إنني أصغر من أستاذ وأكبر من عميد».
وحاولت أثناء عمادتي أن أحقق ثلاث مسائل لم أنجح فيها كثيرا.
الأولى: تنظيم الحياة الاجتماعية في الكلية، فقد رأيت أن الحياة فيها مقتصرة على دروس تلقى ودروس تسمع من غير أن يكون هناك حياة اجتماعية ترفه عن الطلبة وتوثق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وتقلل من إضرابهم، فاتجهت إلى نادي الكلية أجهزه بمختلف الوسائل ليكون أداة صالحة لتنظيم الحياة الاجتماعية، وعهدت إلى بعض الأساتذة ممن تعلموا في جامعات أوروبة أن يحاضروا الطلبة محاضرات عامة في نظم الجامعات الألمانية والفرنسية والإنجليزية، وبخاصة في نظم الحياة الاجتماعية ونحو ذلك.
والثانية: أني حاولت تحسين العلاقة بين الطلبة والأساتذة من ناحية الإشراف الخلقي، فأردت أن أخصص كل أستاذ لعدد من الطلبة يشرف عليهم إشرافا أبويا، يفضون إليه بمشاكلهم المالية والنفسية والاجتماعية ويحاول هو علاجها ويعينهم على ذلك من الناحية المالية بمال الاتحاد.
والثالثة: محاربة الطريقة التي يتبعها كثير من الأساتذة من قلبهم المحاضرات إلى دروس إملاء، فهم يملون على الطلبة ما حضروا، أو يوزعون عليهم مذكرات مختصرة، وكنت أرى في هذا إماتة للروح العملية الجامعية، وإنما المنهج الصحيح إرشاد الطلبة إلى مرجع الدرس ثم إلقاء الأستاذ المحاضرة وتقييد الطلبة بأنفسهم لأنفسهم النقط الهامة مما فهموا واعتمادهم على أنفسهم في ذلك.
وعلى كل حال لم أحقق من هذه المطالب الثلاثة ما كنت أتمنى.
هذا وقد ترددت طويلا في كتابة هذه الفصول الأخيرة لأن فيها لونا من ألوان التقريظ النفسي، وهو لون لا أحبه وقد لا يحبه القارئ، ولكنني فضلت أن أقوله لأنه — على الأقل — يصور للقارئ عقيدتي في نفسي.
وأثناء عمادتي وقع الاختيار علي لأكون عضوا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في عهد وزارة الدكتور محمد حسين هيكل فساهمت في العمل فيه ما أمكنني، وقد شاهدت فيه نوعا من المجتمع من طراز خاص، تسوده — بحكم طبيعته — نزعة المحافظة، وكراهة الثورة والتجديد، والبطء في العمل وكثرة الجدل، ومع هذا فقد فتح لي آفاقا في الوقوف على مشاكلنا اللغوية والأدبية، ومكنني من الإطلاع على كثير من آراء الباحثين والمفكرين.
وكانت مأساة العمادة أني فقدت بها صداقة صديق من أعز الأصدقاء وما أقل عددهم. كان يحبني وأحبه، ويقدرني وأقدره، ويطلعني على أخص أسراره وأطلعه، وأعرف حركاته وسكناته ويعرفها عني، ويشاركني في سروري وأحزاني وأشاركه، وكنت هواه وكان هواي، واستفدت من مصادقته كثيرا من معارفه وفنه ووجهات نظره، سواء وافقته أو خالفته، فأصبح يكون جزءا من نفسي ويملأ جانبا من تفكيري ومشاعري، على اختلاف ما بيننا من مزاج، فهو أقرب إلى المثالية وأنا أقرب إلى الواقعية، وهو فنان يحكمه الفن وأنا عالم يحكمه المنطق، وهو يحب المجد ويحب الدوي، وأنا أحب الاختفاء وأحب الهدوء، وهو مغال إذا أحب أو كره، وأنا معتدل إذا أحببت أو كرهت، وهو نشيط في الحكم على الأشخاص وعلى الأشياء وأنا بطيء، وهو عنيف إذا صادق أو عادى، وأنا هادئ إذا صادقت وعاديت، وهو واسع النفس أمام الأحداث، وأنا قلق مضطرب غضوب ضيق النفس بها، وهو ماهر في الحديث إلى الناس فيجذب الكثير، وليست عندي هذه المقدرة فلا أجتذب إلا القليل، وهو في الحياة مقامر يكسب الكثير في لعبة ويخسره في لعبة، وأنا تاجر إن كسبت كسبت قليلا في بطء وإن خسرت خسرت قليلا في بطء، يحب السياسة لأنها ميدان المقامرة وأنا لا أحبها إذ لا أحب المقامرة؛ ولعل هذا الخلاف بيننا في المزاج هو الذي ألف بيننا، فأشعره أنه يكمل بي نقصه وأشعرني أني أكمل به نقصي، جاءت العمادة مفسدة لهذه الصداقة، لأنه — بحكم طبيعته — أراد أن يسيطر وأنا بحكم طبيعتي أردت أن أعمل ما أرى لأني مسئول عما أعمل، ثم ولي منصبا أكبر من منصبي يستطيع منه أن يسيطر على عملي. فأراد السيطرة وأبيتها، وأراد أن يحقق نفسه بأن ينال من نفسي فأبيت إلا أن أحتفظ بنفسي، فكان من ذلك كله صراع أصيبت منه الصداقة، فحزن لما أصابها وحزنت، وبكى عليها وبكيت.