الفصل الحادي والثلاثون
ترك العمادة وعدت أستاذا وخلت يدي من كل سلطة إدارية، وأتت وزارة لا تعدني من رجالها، فلم يكن لي من شأن في علاوات وترقيات، وليس لي قبول في شفاعات، وإذ ذاك سفرت لي وجوه قبيحة من إنكار الجميل وقلة الوفاء.
هذا كان صديقي يوم كنت أستطيع نفعه، فلما سلبت مني هذه القدرة تلمس الوسائل ليكون عدوى، فإن لم يجد أسبابا اختلقها، وإن لم يجد فرصة لإظهار هذه الخصومة تعمد إيجادها، وهؤلاء الذين كانوا يتهافتون على إقامة حفلات تكريم لي يوم انتخبت عميدا، فأرفضها وأرفضها، لم يفكروا في إقامة حفلة وداع يوم تركت العمادة.
وهذه التليفونات التي كانت تدق كل حين للسؤال عن صحتي، وطلب موعد لزيارتي، لإظهار الشوق أولا، والاطمئنان على صحتي ثانيا، والرجاء في قضاء مسألة ثالثا، لم تعد تدق إلا للأعمال الضرورية التي ليس منها سؤال عن صحة، ولا إعلان أشواق.
وهذا صندوق البريد الذي كان يمتلئ بالخطابات المملوءة بالطلبات والرجاوات أصبح فارغا إلا من خطابات عائلية أو مسائل مصلحية.
وهذه أيام الأعياد التي كان يموج فيها البيت بالزائرين من الصباح إلى المساء يهنئون بالعيد، أصبحت كسائر الأيام، أجلس فيها على المكتب فأقرأ وأكتب، ولا سائل ولا مجيب.
وهذه صورة للناس لم تكن جديدة علي، فقد قرأت مثلها في المكتب كثيرا، وسمعت عنها في الأحاديث كثيرا، وشاهدتها في غيري كثيرا، ولكن لعل أسوأها أثرا في نفسي ما شاهدته من قلة الوفاء في بعض طلبتي، فقد كنت أعتقد أن الرابطة العلمية فوق كل الروابط، وأن حق الأستاذية فوق كل الحقوق، أما أن طالبا يخرج على أستاذ ويخاصمه، ويقدح فيه بالكذب والأباطيل فشيء لم أكن رأيته، فلما رأيته استعظمته، وحز في نفسي وبلغ أثره أعماق قلبي؛ لم أعد بعد ذلك أثق بالناس كما كنت أثق، ولا أركن إليهم كما كنت أركن، فكانت إذا حدثت فصول من هذا القبيل تكسرت النصال على النصال:
وعدت إلى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق.
ها أنا أعود إلى كتبي ومكتبتي، وأبدأ في إعداد الجزء الأول من ظهر الإسلام، والاشتراك في نشر كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وأضع — مع الأستاذ زكي نجيب — خطة في وضع كتاب قصة الفلسفة اليونانية، ثم قصة الفلسفة الحديثة في جزءين، ثم قصة الأدب في العالم في أربعة أجزاء، وأشارك في تأليفها وإنجازها، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك في المجالس العلمية والإشراف على أعمال لجنة التأليف والترجمة والنشر ونحو ذلك — حياة علمية هادئة لذيذة، لا خصومة فيها ولا رجاء فيها ولا أخذ ولا رد فيها. وهذا هو ما يتفق ومزاجي، فأنا لا أحب الجاه بالقدر الذي يجعلني أتحمل متاعب المنصب الإداري وما فيه من ضياع وقت واضطراب بال.
وقد كان بجانب عملي العلمي في البحث والتأليف والنشر أن اتجهت اتجاها أدبيا كان امتدادا لما بدأت به في الأيام الأولى من حياتي يوم اشتركت في تحرير السفور، في سنة (١٩٣٣) فكر الأستاذ أحمد حسن الزيات في أن يشترك مع بعض أصدقائه من لجنة التأليف في إخراج مجلة الرسالة، وكنت أحدهم، فكنت أكتب في كل أسبوع — تقريبا — مقالة، وكان هذا عملا أدبيا يلذ نفسي بجانب بحثي العلمي، فأنا كل أسبوع أفكر في موضوع مقال وأحرره، واضطرني ذلك إلى قراءه كثير من الكتب الإنجليزية أستعرض فيها ما يكتب وكيف يكتب، وأعتمد أكثر ما أعتمد على وحي قلبي أو إعمال عقلي أو ترجمة مشاعري، وكانت مقالاتي تتوزعها هذه العوامل الثلاثة.
وأكثر ما اتجهت في هذه المقالات إلى نوع من الأدب تغلب عليه الصبغة الاجتماعية والنزعة الإصلاحية، فهذا أقرب أنواع الأدب إلى نفسي وأصدقها في التعبير عني، وخير الأدب ما كان صادقا يعبر عما في النفس من غير تقليد، ويترجم عما جربه الكاتب في الحياة من غير تلفيق، ولقد اطمأننت إلى هذا النوع من الكتابة، إذ كان يفتح عيني للملاحظة والتجربة. ويسري عن نفسي بالإفراج عما اختزنته من حرارة. فكنت أشعر بعد كتابة المقالة كما يشعر المحزون دمعت عينه أو المسرور ضحكت سنه. وكنت أحس كأن نحلة تطن في أذني لا تنقطع حتى أكتب ما يجيش في صدري، فإذا استولى موضوع المقالة على ذهني فهو تفكيري إذا أكلت أو شربت، وحلمي إذا نمت؛ وعمل لاوعيي الباطن إذا شغلت، ولهذا انقلبت هذه الظاهرة إلى عادة، ومن عادة إلى (كيف) متسلطن كما يشعر مدمن الدخان أو مدمن الخمر.
ولي تجربة في هذا الباب؛ وهي أني إذا عمدت إلى إعداد بحث علمي كفصل من فصول فجر الإسلام أو ضحى الإسلام فأنا أرى كل وقت صالح لهذا العمل ما لم أكن مريضا، أما في المقاولات الأدبية فلست صالحا في كل وقت، بل لابد أن تهيج عواطفي بعض الهياج، وتهتز نفسي بعض الاهتزاز، وأنسجم مع الموضوع كل الانسجام، فإذا لم تتيسر لي كل هذه الظروف كنت كمن يمتح من بئر أو ينحت من صخر.
وأحيانا أرى القلم يجري في الموضوع حتى لا أستطيع أن أوقفه، وأحيانا يسير في بطء وعلى مهل حتى لا أستطيع أن أستعجله، وأحيانا يتعثر فلا أجد بدا من الإعراض عن الكتابة. ومن الصعب تعليل ذلك، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه، وقد يكون قوة الدواعي وضعفها، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه.
واعتدت منذ أول عهدي بالقلم أن أقصد إلى تجويد المعنى أكثر مما أقصد إلى تجويد اللفظ، وإلى توليد المعاني أكثر من تزويق الألفاظ، حتى كثيرا ما تختل (ضمائري) فأعيد الضمير على مؤنث مذكرا وعلى مذكر مؤنثا، لأني غارق في المعنى غير ملتفت إلى الألفاظ، ولا أتدارك ذلك إلا عند التصحيح، وقد يفوتني ذلك أيضا. ولتقديري للمعنى أميل إلى تبسيطه، حتى لأسرف أحيانا في إيضاحه، لشغفي بوصوله إلى القارئ بينا ولو ضحيت في ذلك بشيء من البلاغة.
وقد تعودت من الأدب الإنجليزي الدخول على الموضوع من غير مقدمة، وإيضاح المعنى من غير تكلف، والتقريب — ما أمكن — بين ما يكتب الكاتب وما يتكلمه المتكلم، وعدم التقدير للمقال الأجوف الذي يرن كالطبل ثم لا شيء وراءه. ومن حبي للإيضاح أفضل اللفظ ولو عاميا على اللفظ ولو فصيحا إذا وجدت العامي أوضح في الدلالة وأدق في التعبير، وأفضل الأسلوب السهل ولو لم يكن جزلا إذا وجدت الأسلوب الرصين يغمض المعنى أو يثير الاحتمالات، ويدعو إلى التأويلات.
ومن أجل هذا تشكك في بعض الأدباء: هل يعدونني أديبا أو عالما! ولم أقم لهذا الشك وزنا، فخير لي أن أصدق مع نفسي ومع غرضي ومع ميلي من أن أزوق أسلوبي وأكذب على نفسي ليجمع الناس على أدبي.
وقد اعتدت — عند كتابة مقال — أن أرسم الموضوع إجمالا لا تفصيلا، وإذا رسمته أبحت لنفسي أن أغيره وأبدله إذا جد جديد. وكثير من المعاني التفصيلية تأتي وأنا أكتب لا وأنا أفكر قبل أن أكتب، ولهذا لما أصبت في عيني ونهاني الأطباء عن الكتابة زمان صعب علي الإملاء، ولم أجد من غزارة المعاني ما كنت أجد عند مزاولة الكتابة بنفسي.
ظللت أكتب المقالات في مجلة «الرسالة» فلما حالت الحوائل دون الاستمرار فيها أخرجت لجنة التأليف مجلة «الثقافة» وعهدت إلي أن أكون مديرها، فكنت أقرأ أكثر ما يرد إليها من مقالات وأحرر فيها مثل ما كنت أحرر في «الرسالة». وكان خيرا لي لو جربت قلمي في أنواع الأدب الأخرى غير المقال لأجرب ملكاتي وأقف على موضع القوة أو الضعف فيها، كالقصة مثلا، وقد عالجت ذلك في بعض الأحيان ولكني لم أستمر فيه، وكان من الخير أن أستمر وأنتقل من القصص القصيرة إلى القصص الطويلة، فإما نجحت وإما أخفقت، ولكن فات الأوان.
وبعد أن كتبت هذه المقالات في «الرسالة» و«الثقافة» طلب إلي أن أكتب في مجلات أخرى: الهلال والمصور وغير ذلك ففعلت، ولما كثرت مقالاتي جمعت بعض ما كتبت وزدت عليها وأودعتها ثمانية أجزاء سميتها «فيض الخاطر».
وعلى هامش هذا طلب إلي أن أذيع أحاديث في محطة الإذاعة فأذعت، وكانت أحاديثي أشبه ما تكون بمقالاتي من حيث موضوعاتها وأسلوبها، إلا أنني تعمدت في هذه الأحاديث أن تكون أسهل موضوعا وأبسط تعبيرا، ونزلت في ذلك إلى أن دنوت من العامية لتناسب جمهور السامعين، ولم أر في ذلك بأسا بل لقد هممت أحيانا أن أتحدث بالعامية لأني أرحم الأميين وأشباههم ألا يكون لهم غذاء عقلي يستمتعون به. وأكره من الأدباء أرستقراطيتهم، فلا يكتبون إلا للخاصة ولا يتفننون إلا لهم. وواجب الأدباء أن يوصلوا غذاءهم إلى كل عقل، ونتاجهم الفني إلى كل أذن، فإذا لم يفعلوا فقد قصروا. وقد لفت نظري لهذا مرة أن حضر إلى مصر رجل كبير من مسلمي الصين، فتقابلنا مرارا وتحدثنا كثيرا، وفي مرة عرفته بالأستاذ توفيق الحكيم، وقلت له إنه أديب كبير، فسألني هل هو أديب شعب أو أديب أرستقراطي؟ فرن السؤال في رأسي، فلما قلت له هو أديب أرستقراطي، سألني: فمن من أدبائكم شعبي؟ فحرت جوابا، وآلم نفسي ألا يكون لجمهور الشعب أديب، وكثيرا ما شغلت ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحى واللغة العامية وأن صعوبة اللغة الفصحي — ولاسيما من ناحية الإعراب — تحول دون انتشارها في جمهور الشعب وبخاصة إذا أردنا مكافحة الأمية وتعميم التعليم، فنحن لو أردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا إلى زمن طويل، ولم نتمكن من إجادة ذلك كما نتمكن إلى اليوم من إجادة تعليم المثقفين إياها. فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي وأربع سنين في الجامعة ثم لا يحسن أكثرهم الكتابة والقراءة، وكثيرا ما يلحنون في الإعراب. ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية ننقيها من حرافيش الكلمات (على حد تعبير ابن خلدون) ونلتزم في أواخر الكلمات الوقف من غير إعراب، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور؛ ولا تكون اللغة الفصحى المعربة إلا لغة المثقفين ثقافة عالية من طلبة الجامعة وأشباههم، وإلا الذين يريدون أن يطلعوا على الأدب القديم ويستفيدوا منه وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحى معا، فاللغة الفصحى الآن لا تتغذى كثيرا من استعمال الكلمات اليوم، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت وفي المعاملات من طبيعته أن يكسب اللغة حياة أكثر من حياتها بين الدفاتر، وفي الأوساط الخاصة، ويكسب اللغة العامية رقيا يقرب من الفصحى، وهو يمكننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة، ويمكننا من تقديم غذاء أدبي لقوم لا يزالون محرومين منه إلى اليوم. وهو إجرام كبير كإجرام حبس البريء وتجويع الفقير، ولكن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة بل وتجريحا عنيفا.