الفصل الرابع والثلاثون
ويوماً من الأيام، وكل شيء يسير على طبيعته والحياة تجري على سنتها، والآمال مفتحة كعادتها، والعمل يتبع نهجه المألوف، فأنا عاكف على القراء والكتابة والدرس والتحصيل والإنتاج، وإذا بي فجأة أرى كأن نقطة سوداء على منظاري، فأظنها أول الأمر نقطة ماء سقطت عليه فأمسحها، ثم أضعه على عيني فأرها كما كانت. وإذا العيب في العين وليس في المنظار، واليوم يوم وقفة عيد الأضحى والناس حتى الأطباء في شغل بأمر العيد، فأبحث عن طبيب فلا أجده ثم أعثر عليه بعد لأي.
هذا هو الطبيب يكشف على عيني وأنا واجف من النتيجة خائف أترقب، والطبيب يفحص ويطيل الفحص بأدواته، ثم تظهر في وجهه ملامح الكآبة ولا يلبث أن يقول:
– خير لي أن أصارحك أن المرض انفصال الشبكية.
– هل لها من دواء يا دكتور؟
– لا دواء إلا عمل عملية.
– هل هي قاسية؟
– نعم، إنها تحتاج إلى شهر ونصف أو شهرين مغمى العينين، متخذا وضعا واحدا.
اضطربت لهذا النبأ وأحسست خطورة الموقف. وأكبر ما جال في نفسي شعوري بحرماني من القراءة والكتابة مدى طويلا، وأنا الذي اعتاد أن تكون قراءته وكتابته مسلاته الوحيدة.
ولكن كثيرا ما يخطئ الطبيب فيشخص المرض على غير حقيقته، فلعله واهم. ولعله أخطأ التشخيص، وكثيرا ما يحدث، وكثيرا ما نسمع الأحاديث عن أطباء شخصوا فأخطئوا التشخيص وعالجوا فأساءوا العلاج، فلأذهب إلى طبيب ثان وثالث من كبار الأطباء حتى أستيقن المرض، وهكذا فعلت، ولكن — مع الأسف — كلهم أجمعوا على التشخيص وطريق العلاج.
بدأ الطبيب المعالج يباشر علاجه: فها أنا في المستشفى والطبيب يعصب عيني قبل العملية بأسبوع، وها أنا ذا في ظلام حالك ليل نهار، دنياي كلها ليل، بل أكثر من ليل، فالجلسة محرمة، والتقلب على الجوانب محرم، كأني قد شددت على السرير شداً، بل أصعب من الشد، لأن إرادتي هي التي تشدني، فاحتملت في صبر، وبدأت أفكر في الدنيا وهوانها وسخافة الناس الذين يشغلون أنفسهم بالتافه من أمورها، ويتحاربون ويتشاجرون على الحقير من متعها، وهي عرضة في كل وقت للزوال، ولو عقلوا لما تخاصموا ولا تحاربوا وكانوا إخوانا متحابين متعاونين، يأخذون الأمور بهوادة وحكمة وحسن تقدير وتفكير في العواقب.
حاولت أن يكون ظلامي مضيئًا، فلئن حرمت النور من العينين فليستنر قلبي، ولئن حرمت نور البصر فلتضئ بصيرتي، ولكن كنت أنجح في هذا حينا وأخفق أحيانا، فقد اختلف الإلف والعادة وكنت أشعر دائما أن العينين هما الكوتان اللتان تطل منهما نفس الإنسان على الدنيا، فإذا عدم النظر فقد أغلقت الكوتان، وحبست نفس الإنسان؛ وأحيانا كنت أتردد بين الأمل في عودتي إلى ما كنت عليه وأن تجري الأمور في المستقبل القريب كما جرت في الماضي، فأشعر بالطمأنينة والراحة، وبين اليأس والخوف من الظلام الدائم، فيستولي علي الفزع والهلع؛ وأرهب ما يكون إذا تقدم الليل وانقطع الزوار وانصرف الأهل، ونام الناس، واعتراني القلق، وشعرت بالوحدة، واستولت علي الأفكار المظلمة، فاجتمع علي ظلام الليل وظلام النفس.
أستجدي النوم فلا يجدي، وأفزع إلى الأفكار المطمئنة فلا تسعف، وأعد ساعة الجامعة بالقرب مني ربعا فربعا، وتغفو عيني غفوة فأظن أن الليل انقضى ببؤسه وشقائه، ثم أتسمع إلى حركة الشارع لعلي أتبين منها قرب النهار، فأسمع حركة عربات وسيارات ومارة، فأتساءل: هل الناس عائدون من آخر سهراتهم أو هم مستقبلون لبدء نهارهم؟ وهل هذه الحركة حركة متأخرة، أو حركة مبكرة؟ وأظل في هذا الشك زمنا بين رجاء أن يكون الصبح وخوف أن يكون الليل، وإذا بالساعة تدق الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فأجزع من أني مقبل على ليل ليس له آخر، وأنشد مع الشاعر:
وأعزي النفس بأن حولي في الحجر المجاورة في المستشفى مرضى يتألمون ولا أتألم، ويستغيثون ولا أستغيث، وأن بهم جروحاً ولا جروح بي، ولكن سرعان ما تذهب هذه التعزية لأن الآلام متنوعة، وقد يكون ألم النفس أشد وقعا من ألم الجسم.
لم يكن لي من العزاء أحسن من الإيمان، فهو الركن الذي يستند إليه المرء في هذا الوقت الرهيب، ومن دونه يشعر كأن الهاوية تحت قدميه.
لو أدرك الناس هذا ما ألحدوا، فالإلحاد جفاف مؤلم، وفراغ مفزع، ومحاربة للطبيعة الإنسانية التي فطرت على الشعور بإله، والارتكان عليه والأمل فيه، وإلا كانت الحياة جافة فارغة مفزعة منافية للطبيعة. وكان من المصادفة الحسنة أن حضر إلي أحد أبنائي الأوفياء وأحب أن يسليني بالقراءة لي بعض الوقت، فكان مما اختاره لي كتاب «اعترفات تولستوي» فوقع في نفسي موقعا جميلا، إذ رأيته يصور حياته وقد ركن أول الأمر إلى العقل وحده، وإلى العقل الواقعي لا غير، فأسلمه الاعتماد على المقدمات المنطقية المادية وحدها إلى الإلحاد، وعد الدين خرافة من الخرافات، ولكنه شعر بعد حين بأن الحياة لا قيمة لها وأنها فارغة من المعاني.
إن هذه الحياة المادية التي تركن إلى العقل الجاف وحده لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الآتية: ما قيمة الحياة؟ ما الذي يربط بين الحياة المادية المحدودة وبين الأبدية؟ وما الذي يربط بين حياة الإنسان الجزئية والإنسانية الكلية؟ إلى مثل هذه الأسئلة فكان لا يجد في قضايا العقل وحدها جواباً، وساءت نفسه وأظلم تفكيره، وأدرك أن الحياة على هذا الوضع نكتة سخيفة، وأنها لا تستحق البقاء، وحاول الانتحار مرارا، وفي كل ذلك كان يهزأ بالدين، ولا يريد أن يتجه إلى التفكير فيه؛ وأخيراً بعد الشقاء الطويل والعذاب الأليم اتجه إلى الدين لينظر كيف يحل الجزئية بالكلية، والنفس الفردية بالإنسانية، فاطمأنت نفسه وانقلب متدينا.
فكان في هذا الكتاب عزاء لنفسي ومجال لبعض تفكيري، وقارنت بين موقف تولستوي وموقف الغزالي، فقد كنت قرأت له كتاب «المنقذ من الضلال»، وكان مما حكى عن نفسه أنه مر بمثل هذا الدور؛ شك في كل التقاليد الدينية، واستعرض المذاهب المختلفة في الدين، وأحب أن يركن إلى الفلسفة وحدها فلم تسعفه، وإلى تعاليم الباطنية فلم يطمئن إليها، واستولى عليه الشك حتى غمره، ووقع في أزمة نفسية حادة، واحتقر سخافات الناس في التخاصم على المال والجاه والمنصب فنفر من كل ذلك.
وأخيرا بعد أن استحكمت أزمته النفسية وأخذت منه كل مأخذ مرض مرضا شديدا، ولا أشك في أن مرضه الجسمي كان نتيجة لمرضه النفسي، ثم أفاق قليلا قليلا وإذا هو يخرج من هذه الأزمة كما خرج منها تولستوي متدينا بالقلب لا بالمنطق، وبالشعور النفسي الغريزي لا بالمقدمات الفلسفية، وإن كان الفرق بينهما أن تولستوي آمن بعد إلحاد والغزالي آمن إيمان كشف بعد إيمان تقليد بينهما فترة شك.
ويأتي الطبيب بعد خمسة عشر يوما من العملية فيذكر لي أنه سيكشف عن قاع العين غدا، فأسأله: ما هي الاحتمالات المنتظرة؟ فيقول: هناك احتمالان: إما أن تكون أعصاب العين لم تقو على الالتحام، وإذ ذاك تكون العملية قد أخفقت، وإما أن تبدأ في الالتحام فيكون هناك الأمل في النجاح.
أربع وعشرون ساعة تساوي أربعة وعشرين شهرا أو تزيد، انتظار للخيبة أو الرجاء، وتردد بين اليأس والأمل، ثم لا ينفع بعد ذلك أيضا إلا الإيمان.
أحيانا أقول للنفس: ما هذا الجزع؟ وما أنت والعالم وما عينك في الدنيا؟ هلا قلت كما جاء في الحديث: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت).
إن الذي يوقعك في هذا التكفير المحزن هو انطواؤك على نفسك وتقويمك لها قيمة أكبر مما تستحق، وهل أنت إلا ذرة صغيرة على هذه الأرض ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وهل الأرض كلها إلا هنة من هنات العالم، فلتتسع نفسك وليتسع تفكيرك ولتقدر نفسك قدرها ولتفكر في خارجك أكثر مما تفكر في داخلك؛ فإذا أنا استغرقت في مثل هذه التفكير هدأت واطمأننت؛ ولكن سرعان ما تذهب هذه الصورة كما يذهب المنظر في فيلم السينما، وتحل محلها صورة كئيبة حزينة جزعة، ولا تزال الصور تتعاقب، وكل صورة تطرد أختها، والصورة مختلفة الألوان مختلفة الأشكال، بين هادئة وعنيفة، وباسمة وباكية.
ونمت عندي حاسة السمع لتعوض ما أصاب أختها حاسة البصر، فكنت أعرف كل إنسان من صوته ومن أول كلمة ينطق بها، فلا أحتاج إلى تعريف، حتى لأذكر أن صديقا قديما انقطعت بيني وبينه الأسباب منذ نحو خمسة عشر عاما، لم أره ولم يرني، زارني فما نطق بالسلام حتى عرفت من هو وهتفت باسمه.
وتكاثر الزوار وكانوا موضع الملاحظة والنقد والتقدير: هذا زائر يحدثك الحديث فهو بلسم هموم، وموضع الماء من ذي الغلة الصادي، فيؤنسك ويسليك ويقول ما يحسن أن يقال؛ وهذا زائر قد عدم الذوق، فهو يراني في هذه الحال ويطلب إلي إذا زارني صديقي فلان أن أرجوه في أن يمنحه الدرجة الرابعة، ويشكو إلي تأخره عن زملائه ووقوع الظلم عليه، ثم هذا زائر كريم قد أنساه ما أنا فيه ما بيننا من خصومات عارضة فداس هذه الخصومات بقدميه، وكان وفيا كريما، قد نسي الحديث التافه في الخصومة، وذكر القديم القويم من الصداقة، وزائر يحز المنظر في نفسه فتكاد دموعه تسيل على خديه لولا أنه يجاهدها، وآخر يتجلد ويتصنع الثبات فإذا خرج سمعت نشيجه، إلى ما لا يحصى من مسموعات، وكل هذا يخزن في النفس طول النهار وتستعيده الذاكرة طول الليل.
وأستعرض أحيانا أحوال من فقد بصره فأتأسى به. وأقول إن المسألة ليست مسألة بصر، بمقدار ما هي مسألة نفس تتلقى الحادث، هذان مثلان بارزان: بشار بن برد وأبو العلاء المعري فأما بشار فقد واجه فقد بصره في ثبات. وعاش كما يعيش ذوو الإبصار، يمزح ويضحك ويقول إنه إذا عدم العشق بالنظر فيعشق بالإذن، ويستمتع في الحياة المادية ويستغرق في الشهوات كأقصى ما يفعله بصير، وهو قوي جبار لا يمسه أحد بسوء إلا نكل به وانتقم منه، وهو عنيد فاجر، لا يأنف أن يصف في شعره كل الصور التي لا يستطيع وصفها إلا البصير، من غبار النقع وجمال العين ولطف القوام، فلا تكاد ترى في شعره أثرا من حزن على عين، أو بكاء على حرمان منظر.
وأما أبو العلاء فأصابته الكارثة نفسها فحزن واسترسل في الحزن، فأعرض عن لذات الحياة الدنيا، وبكى نفسه وبكى الناس وبكى كل ما حوله وتحول هذا الحزن إلى سخط على الناس من الأصناف والألوان، من أمراء وقادة ورجال دين ونساء ووعاظ ومنجمين، فلم يسره شيء في الدنيا لأنه فقد السرور بالعين وحبس نفسه في البيت إذ لم ير نفسه صالحا لأن يظهر أمام الناس وهو فاقد العينين، بل أضاف إليه محبسا آخر وسمى نفسه رهين المحبسين: محبسه بفقد نظره ومحبسه في بيته؛ ومع ذلك كله ملأ الدنيا بأثره. فقد انطوى على نفسه يستخرج منها كنوزا من معارفه وتأملاته وتفكيراته، فاستضاءت بصيرته بأكثر مما كان يضيء نظره، وتألم هو فلذ الناس. وفقد البصر فبصر الناس، وكانت حياته نفعا جما في الإملاء والتأليف والتعليم والتفكير الحر الطليق الذي لم يستطعه بصير.
وأنا لو أصبت في عيني — لا قدر الله — لكانت طبيعتي أشبه بطبيعة أبي العلاء لا بطبيعة بشار، على بعد الفرق بيني وبينه في أنه خصب النفس غزير التفكير متعدد النواحي قوي النقد؛ ولعل فقد البصر في الصبا أخف وقعا من فقده في الكبر، فالصبي مرن، نفسه كأعضائه. سرعان ما تتشكل حسب الوظيفة وحسب الظروف، والكبير نفسه كعظام الهرم إذا صدعت صعب أن يجبر صدعها، وما أبعد الفرق بين فقير عاش فقيرا طول حياته وفقير أصابه الفقر بعد أن عاش عيشة طويلة في الغنى.
أحاطوني بأنواع من المتع؛ فهذا الراديو بجانبي ولكني لا أستسيغ الغناء كما كنت أستسغيه قبلا، ولا تهتم نفسي بالمحاضرات كما كانت تهتم بها، إنما هو شيء واحد كنت أستمتع به في الراديو وهو دلالته على الصباح في أول إذاعته وسماع القرآن يهدئ الأعصاب فيبعث الطمأنينة.
هذا هو الطبيب بعد طول انتظار يفحص عيني ليرى نتيجة العملية وما يخبئه الغد وليقول كلمته الحاسمة. ثم يقول بعد طول الفحص: إن العين قد بدأ التحامها والحمد لله، ولكن الأيام الآتية أيام دقيقة تحتاج إلى شدة عناية وقلة حركة والتزام للنوم على جانب واحد، إذ أقل مخالفة تفسد ما تم. فأهوي على الطبيب أقبله، ثم لا ألبث أن أستصعب الأوامر الجديدة وافتتاح درس في الصبر جديد بعد طول الصبر القديم، فإلى الله أشكو وأضرع.
هذه هي الأيام تمر، وتبدأ النفس تفقد كثيرا من قوتها، فهي تتأثر بما لم تكن تتأثر به وتجزع مما لم تكن تجزع منه: هذا ابن يصاب بالزكام فلم أصيب؟ وهذا ابن دخل الدور الثاني في الامتحان فماذا تكون النتيجة؟ وهذا ابن تخرج من مدرسته ولا يجد عملا فلم لم يوظف؟ وهذا ابن تأخر عن موعد حضوره فلم تأخر؟ وأصبحت الدنيا أوهاما وتأثرات مفتعلة، وإذا دنيا الإنسان ليست إلا مجموعة أعصاب، إن سلمت وقويت ابتهج بالحياة ولم يتأثر بأحداثها، وإن تلفت تهدم كيانه وخار بنيانه.
ها هو الطبيب يرفع الرباط عن العين السليمة بعد نحو أربعين يوما وهي في ظلام حالك، ويبقى الرباط على العين المريضة، فحتى هذه العين السليمة لا تكاد ترى إلا بصيصا، من طول ما حرمت من أداء وظيفتها فلا تميز الباب من الشباك، فما بال العين المريضة حين يرفع عنها الرباط؟ وأشكو ذلك إلى الطبيب فيقول: إن هذا طبيعي فالعين تسترد وظيفتها شيئا فشيئا وقليلا قليلا.
وأضيق ذرعا بالمستشفى وحياته الرتيبة، فما يجري في يوم يجري كل يوم، والأصوات هي الأصوات والطعام هو الطعام، والأنين حولي من كل جانب، والأجراس تضرب من حين إلى حين والحركات لا تنقطع ليلا ولا نهارا.
وفي المستشفيات نقص لا يلفت إليه. فالأطباء يعنون بمقياس حرارة الجسم وتحليل ما يريدون منه، كما يعنون بنوع الغذاء الذي يلائم المريض أو لا يلائمه، ولكن يفوتهم شيء هام جدا ربما كان أهم من ذلك كله، وهو معالجة النفس. فلماذا لا يكون في المستشفى ممرضات للنفس كممرضات الجسم، يؤنسن المريض بأحاديثهن أو يقرأن له ويكون لهن من الثقافة ومن الحسن ما يكون بلسما للنفوس وشفاء لما ينتابها من ضيق وكآبة. وذكرت ذلك لمدير المستشفى فأقرني على ملاحظتي واستصعب تنفيذها لأسباب ذكرها.
لذلك سألت الطبيب أن ينقذني من المستشفى في أقرب وقت ممكن، مع كل ما كان يحمد فيه من نظافة ورعاية ودقة وإتقان، وصرح لي الطبيب أن أخرج على شرط أن يحاط الخروج بكل عناية، فلا حركة عنيفة، ولا اهتزاز يرج الجسم، حتى إذا وصلت إلى البيت حملت في محفة إلى أن وضعت على السرير وضعا، وكنت إذا تحركت فحركة خفيفة في أناة وهوادة، ثم بدأت أتعلم المشي كما يتعلمه الطفل؛ فلا أكاد أخطو حتى يعتريني الدوار فأعود إلى السرير ثم أعاود المشي. وفي يومين أو ثلاثة استطعت أن أمشي مترين أو ثلاثة، ولا يسمح لي بالخروج من الغرفة.
ثم يسمح لي بالانتقال إلى غرفة مجاورة، ثم يسمح لي أن أمشي في مستوى واحد، فلا أنزل سلما ولا أطلع سلما، وأنتهي من هذا الدور كله وتضيء العين تدريجا ويشفى الجسم تدريجيا، ولكني أجد نفسي مستعصية على الشفاء، فهي متبرمة من كل شيء منقبضة أشد الانقباض، فأستدعي طبيب الجسم مرة ومرتين وثلاثا فيفحص ويطيل الفحص ثم يقول إن الجسم سليم. فضغط الدم جيد والصدر جيد والأعضاء كلها على أحسن حال. ولكن المسألة مسألة نفسك أنت وأنت القادر على مداواتها، غير أني لا أجدلها دواء. وأحلل أسباب ذلك فأرجعها إلى أمرين: أولهما أمن طول الرقدة مع الظلام قد هد أعصابي، وثانيهما أن طبيب العيون لا يزال يمنعني من القراءة والكتابة وكانت حياتي كلها قراءة وكتابة، فلما حرمتهما أحاطني فراغ رهيب مخيف، والفراغ أدهى ما يمنى به الإنسان. فليس في الحياة سعادة إلا إذا ملئت بأي نوع من أنواع الامتلاء، جد أو هزل، وعمل أيا كان نوعه. فإذا طال الفراغ فالوبال كل الوبال، إن فارغي العقل معذورون في أن يملئوا فراغهم بنرد وشطرنج أو أي حديث ولو كان تافها لأنهم يشعرون بثقل الفراغ، والحياة لا تلذ إلا بنسيانها، وخير لذة ما نسي الإنسان فيها نفسه واستغرق فيها حتى نسي التلذذ بها؛ فلو فكر لاعب النرد والشطرنج في أنه يتلذذ بهما لفقد لذته، وخير أنواع اللذائذ العقلية ما استغرق فيها الإنسان بتأمله وتفكيره حتى مر عليه الوقت الطويل دون أن يشعر، ففراغي هو أهم أسباب ضيقي، وأهم أسباب أزمتي النفسية.
ولقد اعتدت أن أعتمد على الكتب أتخير مؤلفيها، وأصغي إلى حديثهم، وأستلهم ما يقولون، وأفكر فيما يعرضون، فلما عدمت هذا عدمت الركن واحتجت إلى دعامة أخرى أستند عليها. وتلمستها فيمن يقرأ لي ويكتب لي، ولكن لابد من زمن حتى آنس بهذا الاعتياد الجديد، ثم هذا كله لا يغني غناء الاعتماد على النفس، فقد أحتاج إلى قارئ في وقت فألتمسه فلا أجده، وقد يكون القارئ الكاتب موجودا ولا رغبة لي في قراءة ولا كتابة، وقد أحتاج إلى قارئ من نوع معين ولا أجده؛ على كل حال ارتبكت النفس وطال اضطرابها. وأدخل المكتبة لذكرى الماضي فيزيد ألمي. غذاء شهي وجوع مفرط، وقد حيل بين الجائع وغذائه، وأتساءل: هل يعود نظري كما كان فأستفيد منها كما كنت أستفيد؟ وهذه الآلاف من الكتب آلاف من الأصدقاء، لكل صديق طعمه ولونه وطرافة حديثه، وقد كان كل يمدني بالحديث الذي يحسن حين أشير إليه، فاليوم أراهم ولا أسمع حديثهم، ويمدون إلي أيديهم ولا أستطيع أن أمد إليهم يدي.
ثم إني أشعر شعوراً غريبا بحب الضوء وكراهية الظلام، فأحب النهار وأكره الليل، وأحب من الألفاظ كل ما يدل على الضوء، وأكره منها كل ما يدل على الظلام، وأحب النهار تطلع شمسه، وأكره السحاب يغشى الشمس؛ ومن أجل ذلك وضعت بجانب سريري زرا كلما شعرت بالظلام ضغطت عليه فأضاءت الحجرة.
وأهم ما لاحظته اختلال ما كان عندي من قيم لشئون الحياة، فأستعرض كثيرا مما كنت أقومه فلا أجد له قيمة، وتعرض علي متع الحياة المختلفة فلا أجد لها وزنا، وتعرض علي أخبار الناس يسلكون في الحياة سبلا مختلفة، فأهزأ بكل ذلك.
ثم لما فقدت قيم الأشياء التي اعتدتها لا أزال حائرا في وضع أسس جديدة لقيم جديدة ولما أستقر بعد على رأي.
لقد أفادتني هذه التجربة المرة أن خير هبة يهبها الله للإنسان مزاج هادئ مطمئن، لا يعبأ كثيراً بالكوارث، ويتقبلها في ثبات ويخلد إلى أن الدنيا ألم وسرور، ووجدان وفقدان، وموت وحياة، فهو يتناولها كما هي على حقيقتها من غير جزع؛ ثم صبر جميل على الشدائد يستقبل به الأحداث في جأش ثابت، فمن وهب هاتين الهبتين فقد منح أكبر أسباب السعادة.
وأخيرا لم أستفق مما أصابني من تدهور حالتي النفسية إلا بعد سنة تقريباً. أما عيناي فاليمني منهما قد استردت قدرتها كما كانت وهي السليمة التي لم تجر فيها عملية، وأما اليسرى وهي التي أجريت فيها عملية الشبكية، فقد قال الطبيب إن عملية الشبكية قد نجحت، ولكن يمنعها من الإبصار أن بها مرضا آخر وهو الماء الأبيض أو ما يسمونه «الكاتاراكت» وأنه لا يصح عمل عملية فيها إلا بعد أن يتجمد هذا الماء، وتجمده ليس له زمن محدود، وهو يختلف بإختلاف الأشخاص وأن العين ستزيد ظلاما كلما تحرك الماء نحو إنسان العين، وفعلا قد مضى الآن على العملية نحو سنتين وزادت العين ظلاما حتى كادت لا ترى، والطبيب يخبرني أنها قاربت التجمد وبعدها يجري العملية، وقد عرضت عيني على طبيب آخر مشهور فقال إن العملية لم تنجح أو على أحسن تقدير إن الشبكية التأمت أولا ثم انفصلت ولا أمل في العين والعوض على الله.
من أجل ذلك ضعفت قدرتي على القراءة والكتابة مع الرغبة الشديدة فيهما، واضطررت أن أستعين بعض الوقت بمن يقرأ لي ويكتب، وقد اعتدت الإملاء بعض الشيء ولم أكن أحسنه أول الأمر، لأني طول حياتي العلمية كنت لا أعتمد إلا على نفسي فيهما. وذهني يدرك بالعين ما لا يدرك بالسمع، وأفكاري ترد على قلمي أكثر مما ترد على قلم غيري، وذهني كثير الشرود عندما أسمع وقراءة العين تحصره؛ وفكري بطيء إذا أملى، وكنت إذا أمسكت القلم تواردت علي المعاني وأسرع قلمي في تقييدها.