الفصل السابع والثلاثون
هذه أهم الأحداث التي مرت علي من صباي إلى شيخوختي فأثرت في تأثير دائبا متواصلا حتى صيرتني كما أنا اليوم، وكان يمكن أن تكون غير ذلك فأكون غير ذلك، ولكن شاء الله أن تجري علي كما جرت فتصوغ مني ما صاغت.
لقد كتبت مرة مقالا في وصف صديق وكنت أستملي وصف هذا الصديق من نفسي، إذ عنيت به شخصي، وقد جاء فيه: لا صديق اصطلحت عليه الأضداد، وائتلفت فيه المتناقضات سواء في ذلك خلقه وعلمه.
حيي خجول يغشى المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته. ويصادف أول مقعد فيرمي بنفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين. وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاوده الهرب، حتى يحين موعد الانصراف فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء بعد أن أدركه الإعياء.
من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها إلا أن يكون مع الخاصة من أصدقائه.. يحب العزلة لا كرها للناس ولكن هروبا بنفسه.
ثم هو مع هذا جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجراءة أن يجرح حسهم، وينال من شعورهم، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.
يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أشد حياء من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أجرأ من أسد وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه.
وهو طموح قنوع، نابه خامل، تنزع نفسه إلى أسنى المراتب فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء وأكبر البلاء، وبينما هو في جده وكده وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشئونها، والنعيم والبؤس، والشقاء والهناء، فهزئ به وسخر منه واستوطأ مهاد الخمول، ورضي من زمانه بما قسم له؛ وبينما يأمل أن يكون أشهر من قمر ومن نار على علم، إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل، ويردد مع الصوفية قولهم «ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه».
يعجب من يعرفه، إذ يراه معرفة نكرة، محبا للشهرة والخمول معا.
وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره ويعدو طوره، ومتواضع ينخفض جناحه وتتضاءل نفسه، يتكبر حيث يصغر الكبراء، ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتيه على العظماء ويجلس إلى الفقراء يؤاكلهم ويستذل لهم، لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه للصغير.
يحب الناس جملة ويكرههم جملة، يدعوه الحب أن يندمج فيهم ويدعوه الكره أن يفر منهم. حار في أمره، وامتزج حبه في كرهه، فاستهان بهم في غير احتقار.
صحيح الجسم مريضه، ليس فيه موضع ضعف، ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة.
ورأسه كأنه مخزن مهوش أو دكان مبعثر وضع فيه الثوب الخلق بجانب الحجر الكريم، يتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب النشوء والارتقاء، ومذهب الجبر بمذهب الاختيار، وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة في موضوعات قديمة، قد أكلتها الأرضة ونسج الزمان عليها خيوطا، وأحدث الكتب الأوروبية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكن من هذين ظل في عقله وأثر في رأسه.
إن طاف طائف الإلحاد بفكره لم تطاوعه طبيعته، وإن شك حينا عقله آمن دائما قلبه، ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر والعابد، وكلهم على اختلاف مذاهبهم؛ يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد الكلام.
وأزيد على ذلك أني غضوب حليم، وكل من يراني يصفني بالهدوء والاتزان والحلم والسكينة، ولكني إذا غضبت تعديت طوري وخرجت عن حدي في قولي وتصرفي، فيظهر أن التربية هي التي خففت من حدتي، وضبطت من نفسي، أما مزاجي الطبيعي فعصبي غير هادئ، ولذلك أنفعل للحوادث أكثر مما ينفعل لها صحبي، فقد أكون جليسا لبعض الأصدقاء، فيأتينا خبر موت صديق أو كارثة نزلت بمن نعرف، فألاحظ أني أكثرهم انفعالا وأشدهم تأثرا.
ثم قد ورثت من أبي «حمل الهم» والخوف من العواقب، والحياة قلما تخلو من هم — هم الأولاد ودراستهم، والمعيشة وتكاليفها، والوظائف ومتاعبها ونحو ذلك، والناس حولي تعتريهم هذه الهموم وأكثر منها فلا يأبهون كما آبه، ولا يفزعون منها كما أفزع، ويضحكون وسط همومهم ملء أفواههم ولا أستطيع أن أسير سيرهم، حتى لو عرض علي عشر حوادث تسع منها تستوجب السرور، وواحدة تستوجب الهم لغلبت الواحدة التسع.
شديد الحساسية للكلمة تمسني أو الفعل يجرحني، وقد لا أنام الليل لكلمة نابية سمعتها أو صدرت عني في حق صديق لي، ولكن كما أني شديد التأثر شديد التسامح، أغضب ممن يسيء إلي، ثم سرعان ما يصفو له قلبي ويتسع له صدري.
شديد الخوف على سمعتي الخلقية، فأتألم أشد الألم من كلمة تنشر إذا مست خلقي، ولكني واسع الصدر جدا فيما يمس آرائي وأفكاري. فليس يحزنني نقد كتبي ولا نقد آرائي، بل أرتاح له وأغتبط به إذا اقتصر على حدود الرأي والفكر، ولم يتعده إلى حدود الخلق.
نعم يسرني كل السرور أن يقدر الناس كتبي وأفكاري ولكن إذا نقدوها في أدب عددت ذلك ضربا من ضروب تقديرها والاهتمام بها.
لدي الشجاعة في قول الحق والتزام الصدق واحتمال الحرمان من مال أو جاه، ولكن ليس لدي الشجاعة في احتمال شوكة تصيب أولادي أو شيء يمس شرفي.
لست كثير الثقة بنفسي، ولا بما يصدر عني، فالكتاب أؤلفه أو المقال أكتبه لا أثق بحكمي عليه بأنه جيد أو رديء حتى يقرأه الناس فيحكموا بجودته أو تفاهته، قد ألمح فيه الجودة أو التفاهة، ولكني لا أثق بحكم نفسي على نفسي حتى يؤيد الناس ظني أو يكذبوه. وأذكر مرة أني أعددت يوما — وأنا مدرس بمدرسة القضاء — محاضرة موضوعها «دقة الملاحظة» وكان من عادتنا أن نعرض ما نكتب على عاطف بك بركات ناظر المدرسة فيجيزه أو لا يجيزه، وقل أن تخلو محاضرة يقرؤها من ملاحظات عليها يقيدها بالقلم الأحمر، فبعد يوم رد إلي المحاضرة، وليست عليها أية إشارة، فأيقنت أنها لم تعجبه جملة، ولم يرض عن شيء فيها، وأسفت لذلك أسفا شديدا، وجعلت أبرر حكمه عليها، وأقول ماذا تحتوي هذه المحاضرة من أفكار: فكرة كذا تافهة، وفكرة كذا مسبوقة، وفكرة كذا ليست بذلك. وهكذا حتى استسخفت كل ما فيها. ويوم الثلاثاء وهو موعد المحاضرة استدعاني صباحا وسألني: لم لم أعلن عن محاضرتي؟ فقلت: إنك استسخفتها. فقال: من قال لك ذلك؟ قلت كل الدلائل، فلم تحدثني بشأنها. ولم تؤشر عليها وأرسلتها إلي مع الساعي، ونحو ذلك. فقال: إني وجدتها كاملة فليس لي انتقاد عليها فلم أؤشر على شيء فيها، وسألت عنك فقيل لي إنك في الدرس فأرسلتها مع الساعي، والمحاضرة قيمة جدا. فأخذت أستعيد في ذهني نقطها وأقول إن فيها فكرة كذا وهي جيدة وفكرة كذا وهي جديدة، وفكرة كذا وهي قيمة، وألقيتها فاستحسنت فعددتها حسنة.
وهذا عيب في لم أدر كيف نشأ، فخير للإنسان أن يثق بنفسه من غير غلو ويقدر إنتاجه على حقيقته من غير إفراط أو تفريط.
أحب النظام حبا شديدا، فكل شيء في موضعه وكل شيء في وقته، كما أحب البت السريع في الأمور من غير تردد طويل، وأفضل سرعة البت ولو أنتج الخطأ على طول التردد ولو تبعه الصواب.
أما حياتي اليومية فإنها تكاد تكون حياة رتيبة كأني قطار لا ينحرف عن السير على قضبانه، فلا مغامرات ولا مفاجآت؛ أصحو قبل الشمس دائما مهما تأخرت في النوم، وتلك عادة اعتدتها منذ كان أبي يوقظني في طفولتي لأصلي معه الفجر؛ فإذا طلعت الشمس أفطرت فطورا خفيفا غالبا عماده اللبن، وإذا كان لدي عمل خرجت إليه، وإلا ذهبت إلى مكتبتي أو حديقتي أقرأ وأكتب إلى ما بعد الظهر، وهذا خير الأوقات عندي فائدة وأكثرها إنتاجا، فإذا تغديت نمت بعد الغداء، وهي نومة تكاد تكون مقدسة، إذا لم أنمها تعكر علي سائر يومي. وكثيرا ما كانت هذه النومة سببا لمتاعب كثيرة، فأنا لا أنام إلا في هدوء تام، وأي صوت ينبهني، وأي حركة تقلقني، فإذا بكى طفل أو حدثت حركة في البيت ذهب عني النوم، وغضبت وأغضبت، وكثيرا ما ثرت فآلمت، ويكفيني في هذا النوم نصف ساعة أو ما دونه، فإذا صحوت شربت قهوتي، وإذا لم يكن ثمة داع إلى الخروج عدت إلى مكتبي لأقرأ لا لأكتب، فقلما ألفت في المساء لأني إذا كتبت هاج مخي، فإذا ما نمت بعد الكتابة لم أنم نوما هادئا، وظل عقلي يحلم ويحلم، ويبدي ويعيد فيما كنت أكتب؛ وليس الحال كذلك إذا اقتصرت على القراءة. ولذلك اعتدت أن أفكر وأقرأ مساء ثم أكتب صباحاً غالبا.
ولا أستطيع الكتابة إلا في هدوء تام، فأي صوت يزعجني، وكم تمنيت أن يكون للأذن غطاء خاضع لإرادة الإنسان كما هو الشأن في العين.
وقد أستريح يوم الجمعة فأخرج إلى حلوان أو الأهرام أو القناطر الخيرية أو نحو ذلك لأنسى القراءة والكتابة؛ وأصيف في الإسكندرية أو رأس البر، فأحمل أهم كتبي معي وأشتغل بها كما أشتغل في أيام عملي، فلا أستمتع إلا بحسن الجو والسير أحيانا على شاطئ البحر، ولم أعتد — ولله الحمد — كيفا إلا الدخان أدخنه ولا أبتلعه، كما لم أعتد أن أضيع وقتي في الجلوس إلى مقهى إلا لمقابلة في عمل، فإن ملت إلى اجتماع بالناس فمع أصدقائي في لجنة التأليف، كما لم أعتد ضياع وقت في لعب نرد أو شطرنج.
وكنت في بدء حياتي العملية كثير الفراغ، أصرفه في القراءة والكتابة، فألفت «فجر الإسلام وضحاه» ثم قل فراغي باشتغالي بكثرة المجالس واللجان، فأنا عضو في المجمع اللغوي وفي مجلس دار الكتب ومجلس كلية الآداب ودار العلوم، ورئيس لجنة التأليف والجامعة الشعبية إلخ. إلخ، ومذيع في الراديو، وكل هذه أكلت من وقتي، وبعثرت زمني، ووزعت جهدي، مع قلة فائدتها فيما أعتقد. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لرفضت كل هذه الأمور ونحوها وفرغت لإتمام سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره وعصره، فقد كان ذلك أجدى وأنفع وأخلد، ولكن للظروف أحكام.
ولست أميل إلى الاجتماع كثيرا، ولا أحب يوما يمر دون أن أخلو فيه إلى نفسي بعيدا عن أهلي وولدي.
وأستمر في القراءة إلى نحو الحادية عشرة فأنام، وقد وضعت مصباحا كهربائيا بجانب سريري أقرأ عليه حتى يغشاني النوم، ولما أصبت في عيني منعني الأطباء من القراءة ليلا فاستعنت على ملء وقتي بمن يقرأ لي.
وإذا علقت فكرة بذهني كانت شغلي الشاغل — أقرأ الكثير عنها وأفكر فيها وأحلم بها، وقد يخطر لي فيها خاطر إذا صحوت أثناء الليل، فأذهب إلى مكتبتي وأضيئها واستحضر الكتاب الذي أظنه يعالجها وأقرؤه لتحقيق الفكرة والوصول فيها إلى نفي أو إثبات ثم أعود إلى فراشي.
وإذا حدث حادث سياسي أو اجتماعي — قومي أو إنساني — تأثرت به تأثرا يغطي على تفكيري العلمي، وها أنذا في هذه الأيام مرتاع لما أصاب البلاد العربية من أحداث فلسطين. يقلقني جد الصهيونيين وهزل العرب، واجتماع كلمة الأولين وتفرق الآخرين ووقوف الأولين على أساليب السياسة الأوروبية والأمريكية والروسية، وفهمهم الدقيق للأوضاع واستغلالهم الفرص السانحة، وجري الآخرين على سياسة الارتجال، وجهلهم بما يجري خلف الستار. وتقصيرهم في جمع كلمتهم وتوحيد خططهم. ويفزعني ما أحرزه الصهيونيون من نجاح لم يكن يتوقعه حتى أكثرهم تفاؤلا وأوسعهم أملا، وأكرر السؤال على نفسي ماذا سيكون المصير لو استمر الصهيونيون في جدهم واستعدادهم وتكاتفهم، واستمر العرب في هزلهم وتخاذلهم؟ وكثيرا ما أحاول الكتابة في موضوع علمي أو أدبي ثم أصرف عنه بهذا الحزن وهذا الجزع، وأقول إني كنت أعجب من ضياع الأندلس من يد المسلمين وسائر الأقطار لا تحرك ساكنا للإغاثة ولا تمد يدا للمعونة، واليوم بعد قرون طويلة تتجدد المأساة فتضيع فلسطين من يد المسلمين ولا عبرة من الأحداث ولا استفادة من التاريخ، ويغيث المسلمون شكل إغاثة لا حقيقة إغاثة، ويعاونون معاونة كان خيرا منها عدمها، فيالله للمسلمين …
ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر في بعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي ويهتز لها قلبي، وأكبر ما يتجلى هذا عند شهود المناظر الطبيعية الرائعة، كالمزارع الواسعة، والأشجار اليانعة، والنجوم اللامعة، وطلوع الشمس وغروبها، والبحار وأمواجها، والطيور وتغريدها، فأشعر — إذا ذاك — بميل إلى احتضانها، وأود لو ركزت في كأس فأشربها، وأحس بنشوة إذ أراها وأرى الله فيها، ولكني — مع ذلك — أشعر بأسف على أني لم أنم هذه النزعة كما يجب، ولم أتعهدها وأرعها كما كان ينبغي.
ومزاجي فلسفي أكثر منه أدبيا؛ حتى في الأدب، أكثر ما يعجبني منه ما غزر معناه ودق مرماه، فيعجبني الحريري والقاضي الفاضل والصاحب بن عباد وطريقته، والعماد الأصفهاني ومدرسته، ويعجبني المتنبي لولا إغرابه أحيانا وتكلفه، والمعري لولا تعالمه، وأفضلهما على أبي تمام وتقعره، ولا يعجبني من البحتري إلا قصائد معدودة، ولا يهتز قلبي لأكثر شعر الطبيعة في الأدب العربي، لبنائه على الاستعارة والتشبيه لا على حرارة العاطفة ولهذا كان لي ذوق خاص في تقدير الأدب، فضلت اتباعه مجتهدا — ولو كنت مخطئا — على تقليد غيري في تقديره ولو كان مصيبا.
•••
لو استعرضت حياتي من أولها إلى آخرها لكانت «شريطا» فيه شيء من الغرابة وفيه كثير من خطوط متعرجة، فما أبعد أوله عن آخره، وما أكثر ما فيه من مفارقات، وتغير في الاتجاهات، ومخالفة للاحتمالات، فمن كان يراني وأنا في مدرسة أم عباس الابتدائية يظن أنني سأكمل دراستي الابتدائية والثانوية، وقد أكمل الدراسة العالية وأشغل الوظيفة التي تتفق ونوع الشهادة: معلما أو قاضيا أو مهندسا أو نحو ذلك. ثم تغير هذا الاتجاه فجأة إلى الأزهر، فمن كان يراني في الأزهر يظن أني إما أن أنقطع عن الدراسة فأكون إماما في مسجد، وإما مدرسا في مدرسة أهلية أو نحو ذلك، وإما أتممها فأكون عالما في الأزهر، له كرسي بجانب عمود من عمده يجلس عليه بعمامته الكبيرة وجبته الواسعة، يشرح المتن والشرح والحاشية، ثم تغير هذا الاتجاه أيضا فجأة إلى مدرسة القضاء، فكان أكبر الظن أن أكون كزملائي قاضيا شرعيا يتنقل في مناصب القضاء حتى يكون رئيس المحكمة الشرعية العليا أو قريبا منه، ولكن تغير أيضا هذا الاتجاه فاتصلت بالجامعة، وكنت أستاذا بكلية الآداب وعميدا لها.
وتغيرت عقليتي تبعا لهذا التغير، فلم تعد عقليتي تنسجم مع العقلية الأزهرية؛ بل ولا مع زملائي من مدرسة القضاء. ومنذ قليل قابلت صديقا كان من أحب الأصدقاء إلي في مدرسة القضاء وأقربهم إلى عقلي، فحادثته وأطلت الحديث معه، فإذا أنا في واد وهو في واد.
وكم من الفروق بين معيشتي الأولى ومعيشتي الأخيرة! وإن الفرق بينهما — كما قال الجاحظ — كالفرق بين امرئ القيس إذ يقول:
وقول علي بن الجهم:
كنت في البيت كالذي وصفته — أولا — في منتهى السذاجة والبساطة، لا ماء في المواسير، ولا آلة من آلات المدنية الحديثة، فأصبحت أسكن في بيت فيه الحديقة، وفيه أثاث المدنية الحديثة، فيه الراديو والتليفون وما إلى ذلك.
ولم أركب القطار في حياتي الأول إلا وأنا في السادسة عشرة من عمري، ركبته إلى طنطا فحزنت وبكيت، وفي آخر حياتي ركبت الطيارة من القاهرة إلى لندن وأنا مسرور مبتهج.
وكنت أمشي على رجلي من بيتي في المنشية إلى الأزهر، وأعود من الأزهر ومعي منديل كبير فيه (الجراية) أنقله بين يدي اليمني ويدي اليسرى، ومن كتفي اليمنى إلى كتفي اليسرى فأصبحت أنتقل حتى المسافات القصيرة في سيارة. وكان أبي يعلمني في كتاب كالذي ذكرت، فأصبحت أعلم أولادي في رياض الأطفال وما إليها. ولا يعجبهم أن ينتقلوا في الدرجة الأولى في الترام والأمنيبوس، ويتطلبون سيارة ينتقلون بها، وكنت أضرب على الشيء التافه الصغير فأحتمل، ولا أثور ولا أغضب، فصار أبنائي يغضبون من الكلمة الخفيفة والعتاب المؤدب، وكنت لا أؤاخذ أبي على حرماني من الضروريات، فصار أبنائي يؤاخذوني على حرمانهم من الإسراف في الكماليات. وكنت وصوت، وكنت وصرت مما يطول شرحه، فما أكثر ما يفعل الزمان.
لقد بدأت في شبابي أرسم حياتي المستقبلة من خيالي، وأرسم المثل العليا لي في خلقي ومسلكي وإصلاحي، ثم اصطدمت هذه المثل بالواقع، وبالبيئة التي حولي، وبالصعاب التي صادفتني، وبكثير من الناس أخلفوا ظني، كل هذا وأمثاله كان يأكل من البنيان بنيته للمثل الأعلى الذي وضعته، لقد حاولت أن أقف أمام هذه التيارات ولكني لم أستطع أن أثبت في مركزي، فجرفني التيار معه قليلا أو كثيرا، ومن أجل هذا كنت في شبابي خيرا مني في شيخوختي، وفي أول عهدي أكثر تفاؤلا مني في آخر عهدي. لكم تمسكت في شبابي بالمبدأ وإن ضرني، واستقلت من عمل يدر علي الربح لأني رأيته يمس كرامتي، وبنيت آمالا واسعة على ما أستطيعه من إصلاح وما أحقق من أعمال، ثم رأيت كثيرا من هذه الآمال يتبخر، وما أنوي من أعمال يتعثر، وها أنذا في شيخوختي قد أقبل ما كنت أرفض، وقد أتنازل عن بعض المبادئ التي كنت ألتزم؛ فالوسط وأحاديث الناس وكثرة الأولاد وتوالي العقبات وضعف الإرادة بطول الزمان قد تضطر الإنسان إلى التنازل عن بعض مثله العليا، ويعجبني قول من قال:
ومع هذا فإني أحمد الله إذ من علي بالتوفيق في أكثر ما زاولت من أعمال: فيما ألفت من كتب — في عملي بلجنة التأليف — في الجامعة الشعبية — في الجامعة المصرية — في الجامعة العربية — في عمادة كلية الآداب؛ كذلك كان الشأن في حياتي العملية والأدبية والمالية والعائلية: نعم من الله لا أستطيع أن أقوم بالشكر عليها.
وهي ظاهرة يصعب تعليلها العقلي، أو تفسيرها بالتحليل الاجتماعي والنفسي. فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومنوا بالإخفاق، ولا تعليل لها إلا أن ذلِك فَضلُ اللهِ يؤْتِيهِ من يشَاء واللهُ ُذو اْلَفضلِ اْلعظِيمِ.