الفصل الرابع
كان هذا البيت أهم مدرسة تكونت فيها عناصر جسمي وخلقي وروحي، فإذا تغيرت بالنمو أو الذبول وبالقوة أو الضعف، فمسائل عارضة على الأصل — لقد كانت أمي قصيرة النظر فورثت عنها قصر النظر، ولقيت من عنائه في حياتي الشيء الكثير، فإذا تقدمت للدخول في دار العلوم حرمت من ذلك لقصر نظري، وإذا تقدمت للدخول في مدرسة القضاء فكذلك إلا أن تحدث معجزة. وإذا أريد تثبيتي في وظيفة سقطت في امتحان النظر، ولم أَُثَبَّت إلا بمعجزة أخرى. وتحدث أحداث كثيرة مخجلة وغير مخجلة نتيجة لقصر نظري. فقد لا أسلم على أحد يجلس بعيدًا عني فيظن بي الكبر؛ وقد أكون على موعد في مقهى فأدخل ولا أرى من وعدتهم إلا أن يروني. وقد أمر في الشارع على من أنا في حاجة إليه، فلا أراه. وقد أحب أن أذهب إلى السينما أو التمثيل للاسترواح فلا أذهب — وهكذا وهكذا من أحداث سيئة لا تحصى صادفتني في حياتي إلى أن اضطررت من شبابي إلى أن ألبس نظارة، وكنت من سنة إلى أخرى أغير النظارة بأخرى أسمك منها، حتى صارت في آخر الأمر نظارة سميكة. واعتادت عيني هذه النظارة. وكانت لها كذلك سيئات. فإذا كسرت أو نسيتها في البيت، صرت كأني أعمى. وقد رأيتني فيما بعد أحتاج إلى نظارتين، نظارة للقراءة ونظارة للسير والعمل. ولا تسأل عن متاعب ذلك. ومع قصر النظر هذا، كان النظر القصير نعمة كبيرة إذا قارنت بينه وبين العمى. فكل الأشياء الجوهرية من رؤية أشخاص ورؤية مناظر جميلة، كان يكفى قصر نظري لإدراكها.
وربما كان هذا عاملا من عوامل حبي العزلة حتى لا أقع في مثل هذه الأغلاط، ولكن أحمد الله أن كان نظري على قصره سليمًا، فقد احتملني على كثرة قراءتي ومداومة النظر في الكتب حتى جاوزت الستين.
ثم إن كل خصائص البيت التي ذكرتها انعكست في طبيعتي وكونت أهم مميزات شخصيتي. فإن رأيت فيَّ في إفراطًا في جانب الجد وتفريطًا معيبًا في جانب المرح، أو رأيت صبرًا على العمل وجلدًا في تحمل المشقات، واستجابة لعوامل الحزن أكثر من الاستجابة لعوامل السرور، فاعلم أن ذلك كله صدى لتعاليم البيت ومبادئه. وإن رأيت ديًنا يسكن في أعماق قلبي، وإيماًنا بالله لا تزلزله الفلسفة ولا ُتشكك فيه مطالعاتي في كتب الملحدين، أو رأيتني أكثر من ذكر الموت وأخافه، ولا أتطلع إلى ما يعده الناس مجدًا ولا أحاول شهرة، وأذكر في أسعد الأوقات وأبهجها أن كل ذلك ظل زائل وعرض عارض، أو رأيت بساطتي في العيش وعدم احتفائي بمأكل أو بمشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي وإلقائي، وبساطتي في أسلوبي وعدم تعمدي الزينة والزخرف فيه، وكراهيتي الشديدة لكل تكلف وتصنع في أساليب الحياة، فمرجعه إلى تعاليم أبي وما شاهدته في بيتي.
لقد قرأت الكثير مما يخالف هذه التعاليم، وصاحبت أهل المرح وسمعت آراء الإلحاد، وأنصت إلى من ينصحني بالابتهاج بالحياة وتعاقبت أمام ناظري أنواع الحياة المختلفة والمظاهر المتباينة ونحو ذلك. ولكن تسرب بعض هذه الأشياء إلى عقلي الواعي كان على السطح لا في الصميم، أما شعوري العميق وما له الأثر الكبير في الحياة من اللاوعي فمنشؤه البيت، كانت الصفحة بيضاء نقية تستقبل ما يقع عليها وتدخره في خزانتها، ثم تكون له السيطرة الكبرى على الحياة مهما طالت.
نعم إني لأعرف من نشئوا في بيت كبيتي تغمره النزعة الدينية كالنزعة التي غمرت بيتي. ومع هذا ثاروا على هذه النزعة في مستقبل حياتهم. وانتقلوا من النقيض إلى النقيض. ولم يعبئوا بالسلطة الدينية التي فرضت عليهم في صغرهم. فلماذا كان موقفهم غير موقفي واتجاههم غير اتجاهي؟ هل كان ذلك لأن الدين يتبع المزاج إلى حد كبير، أو لأن شخصية أبي كانت قوية غرست في ما لم يستطع الزمان اقتلاعه، أو أن عوامل البيئة زادت هذه النزعة الدينية نموًا، فلم جاءت العاصفة جاءت متأخرة؟ لعله شيء من ذلك أو لعله كل ذلك أو لعله شيء غير ذلك.
وهكذا الشأن في كثير من شئون الحياة، نرى رجلين نشآ في بؤس من العيش وقلة من المال، ثم بسط لهما في العيش وتدفق عليهما المال، فتعلم أحدهما من بؤسه الأول حرصًا على المال وفرط تقويم له، على حين أن الآخر انتقم من بؤسه بنعيمه، ومن بخل الزمان الأول عليه بإسرافه.
لقد رأينا طرفة بن العبد وأبا العتاهية، كلاهما تمثلت أمام عينيه حقيقية الموت. فاستنتج منها طرفة وجوب انتهاب اللذائذ وقال:
واستنتج منها أبو العتاهية احتقار اللذائذ وتهوين شأنها والصد عنها فقال:
وعلى كل حال فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها، والجو الذي يعاكسها أو ينميها، حتى تعيش عيشتها المقدورة لها وفًقا لنظام الكون وقوانينه.