الفصل الخامس
عصرت ذاكرتي لأذكر أقدم أحداث طفولتي فذكرت منها ثلاثة — أولها أني وأنا في الرابعة من عمري خرجت من حارتي فوجدت بناء وله باب مفتوح فدخلته، كان هذا البناء «جبَّاسة» رأيت فيها عجبًا، ثور كبير عُلّقت على عنقه خشبة وربطت هذه الخشبة في أسطوانة من الحديد كبيرة، فإذا الثور دار دارت الحديدة — وقد وضع تحت الحجر حجر أبيض إذا دارت عليه طحنته فكان جبساً.
أعجبني هذا المنظر، والناس — وبخاصة الأطفال — تعجبهم الحركة أكثر مما يعجبهم السكون، فلعبة القطار إذا كان يجري «بزنبلك» خير من لعبة القطار الساكن، والإعلان المتحرك في المحال التجارية خير من الإعلان الثابت، على هذا الأساس النفسي كانت الصور المتحركة للأطفال في السينما وهكذا؛ جميل هذا المنظر: ثور يتحرك ويدور فتتحرك معه الأسطوانة الحديدية، وحجر جامد يتحول إلى دقيق ناعم — وشغلت به عن نفسي فجلست أمامه وقضيت الساعتين أو أكثر في الاستمتاع به؛ في هذه الأثناء بحثت عني أمي في البيت فلم تجدني، فنادت أخي وأختي فبحثا عني في الحارة فلم يجداني، فجن جنونها، وكان يشاع في أوساطنا أن هناك قوماً يخطفون الأولاد ويسفرونهم إلى البلاد النائية للعمل، وأن هناك آخرين شريرين يسمى كل منهم «سمَّاوي» يخطفون الأولاد ويذبحونهم أو يضعونهم في ماعون كبير يغلي بهم على النار وهكذا، فخافت أمي أن يكون قد حدث لي شيء من هذا.
وكان في كل حي «مناد» يستأجر لينادي على الأولاد التائهين، فيقول بأعلى صوته: «يا من رأى ولداً صفته كذا يلبس جلباباً أحمر أو أصفر، وعلى رأسه طاقية أو عاري الرأس، وفي رجله نعل أو حافي القدمين فمن وجده فله الحلاوة» وينتقل في الشوارع والحارات المجاورة ينادي هذا النداء ثم يختمه كل مرة بقوله «يا عدوي» والعدوي هذا شيخ من أولياء الله الصالحين موكل برد التائه إلى أهله.
وأذكر — بهذه المناسبة — حادثة طريفة: أن المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ألف كتاباً سماه «أين الإنسان؟» قرأه المرحوم «فتحي باشا زغلول» فلم يعجبه. فأخذ القلم وكتب تحت «أين الإنسان» يا عدوي.
على كل حال كان المنادي ينادي عليَّ وأنا في الجباسة حتى جاء رجل وطردني، وشتمني وشتمته، فعدت إلى البيت، فنهرتني أمي وقالت: أين كنت؟ قلت في الجباسة. وحكيت القصة وما رأيت وما قاله لي الرجل وما رددت عليه، بلغة مكسرة ولسان ألثغ. فكانت القصة تستخرج الضحك من كل من سمعها، وكثيراً ما طلب مني أن أعيد روايتها ولهذا ثبتت في ذاكرتي.
وحدث مرة أن أخذني والدي إلى المسجد بجوار بيتنا ليصلي ولم يكن بالمسجد غيرنا. فخلع والدي جبته وجوربه وشمر أكمامه وذهب إلى «الميضأة» ليتوضأ والميضأة حوض ماء نحو ثلاثة في ثلاثة يملأ بالماء من حين لآخر. وفي العادة يملأ من بئر بجانبه ركبت عليها بكرة، وعلق فيها حبل في طرفية دلوان، ينزل أحدهما فارغاً ويصعد الآخر ملآن.
ومن أراد أن يتوضأ من الميضأة جمع الماء بين كفيه وغسل وجهه ثم يعود الماء إلى الميضأة بعد الغسل كما أخذ، وكانت هذه الميضأة مصدر بلاء كبير، فقد يتوضأ المريض بمرض معد كالرمد ونحوه فيتلوث الماء ويعدي الصحيح، هذا إلى قذارته. فالمتوضئ يغسل وجهه بعد أن غسل من قبله رجليه، ولكن الاعتقاد الديني يغطي كل هذه العيوب والأخطار، فلما دخل القاهرة نظام جري الماء في الأنابيب والحنفيات لم تعد حاجة إلى الميضأة، وأصبحت الحنفيات أنظف وأصح، ولكن إلف الناس للقديم جعلهم يحزنون لفراق الميضأة، ولذلك كان مما أخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أن أبطل ميضأة الأزهر وأحل محلها الحنفيات، وهكذا يألف الناس القديم الضار ويكرهون الجديد النافع ويدخلون في الدين ما ليس في الدين.
توضأ أبي وذهب يصلي، وبقيت أنظر إلى البئر وإلى الميضأة وأتجول بينهما فتزحلقت وغرقت في الميضأة، وغمر الماء رأسي ولولا أن أبي كان قريباً مني وسمع الحركة وأسرع إلى الميضأة وانتشلني ما كنت من ذلك الحين من الأحياء.. وهكذا نجوت من هذا الحادث على هذا الوجه، وكان يمكن أن تختصر حياتي كلها وتقف عند هذا الحد لو تأخرت في الماء دقيقة ولم يلتفت أبي إلى هذه الرجة — وكم من أرواح نجت بمثل هذا وأرواح ضاعت بمثل هذا أيضاً — وعلى كل فلسفة الحوادث وفلسفة القدر غامضة عجيبة.
وبعد ذلك حدثت لي حادثة ثالثة، فقد مر بحارتنا قبيل الغروب سائل يستجدي بالفن؛ فمعه دف يوقع عليه توقيعاً لطيًفا وينشد مع التوقيع قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينوع النغمات حسب القصائد، ويناغم بين القصيدة والضرب على الدف. أعجبني هذا وطربت له فتبعته، وخرج من حارتنا إلى حارة أخرى فكنت معه حتى أتم دورته، وإذا نحن بعد العشاء وأبي ينتظرني لتأخري، فلما دخلت البيت أخذ يضربني من غير سؤال ولا جواب — ولو كان أبي فناًنا لقبلني لأنه كان يكتشف في أذًنا موسيقية وعاطفة قوية، ولكنه لم ينظر في الموضوع إلا أني تأخرت عن حضور البيت بعد غروب الشمس.