الفصل السادس
وكانت المدرسة الثانية هي «حارتي» فقد لعبت مع أبنائها وتعلمت منهم مبادئ السلوك، وتبادلت معهم عواطف الحب والكره، والعطف والانتقام، والألفاظ الرقيقة وألفاظ السباب — وانطبعت منها في ذهني أول صورة للحياة المصرية الصميمة في سلوكها وأخلاقها وعقائدها وخرافاتها وأوهامها ومآتمها وأفراحها وزواجها وطلاقها إلى غير ذلك — وكانت حارتنا مثالا للأسر في القرون الوسطى قبل أن تغزوها المدنية بماديتها ومعانيها — فقد ولدت عقب الاحتلال الإنجليزي بنحو أربع سنوات، ولم يكن الفرنج قد بثوا مدنيتهم إلا في أوساط قليلة من الشعب، هي أوساط بعض من يحتك بهم من الأرستقراطيين وأشباههم. أما الشعب نفسه — وخاصة الأحياء الوطنية كحينا — فلم يأخذ بحظ وافر منها، فحارتنا ليس فيها من يتكلم كلمة أجنبية، بل ليس فيها من يلبس البدلة والطربوش إلا عددا قليلا جداً من الموظفين. وليس في بيوتها أثر من وسائل الترف التي أنتجتها المدنية الحديثة. وليس فيها من يقرأ كتاباً حديثا مترجماً أو مكتوباً بالأسلوب الحديث. ومن يقرأ منهم فإنما يقرأ القرآن والحديث والقصص القديمة كألف ليلة وعنترة، أو الكتب الأدبية الخفيفة، ككليلة ودمنة، والمستطرف في كل فن مستظرف.
ولم تكن قد سادت النزعة الأوربية التي لا تقدر الجوار فيسكن الرجل منهم بجوار صاحبه السنين ولا يعرف من هو بل قد يسكن معه في بيت واحد أو في شقة بجانب شقته ولا يكلف نفسه مئونة التعرف به والسؤال عن حاله، إنما كانت تسود النزعة العربية التي تعد الجار ذا شأن كبير في الحياة، فكان أهل حارتنا كلهم جيراًنا يعرف كل منهم شئون الآخرين وأسماءهم وأعمالهم، ويعود بعضهم بعضاً عند المرض، ويعزونهم في المآتم ويشاركونهم في الأفراح، ويقرضونهم عند الحاجة ويتزاورون في «المناظر» فكل بيت من طبقة الأوساط كانت فيه حجرة بالدور الأرضي أعدت لاستقبال الزائرين تسمى «المنظرة» وينطقونها بالضاد، ويتبادل في هذه «المناظر» أهل الحارات الزيارات والسمر.
كانت حارتنا تشمل نحو ثلاثين بيتاً، يغلق عليها في الليل باب ضخم كبير في وسطه باب صغير وراءه بواب، وهذا الباب بقية من العهد القديم، يحميها من اللصوص ومن ثورات الرعاع وهياج الجنود، فإذا حدث شيء من ذاك أغلق الباب وحرسه البواب، فلما استقر الأمن وسادت الطمأنينة استمر فتح الباب واستغني عن البواب.
وتمثل هذه البيوت طبقات الشعب، فكان من هذه الثلاثين بيًتا بيت واحد من الطبقة العليا، ونحو عشرة من الطبقة الوسطى ونحو عشرين من الطبقة الدنيا.
فالغني من الطبقة العليا كان شيخاً معمماً، يدل مظهره على أنه من أصل تركي، وجهه أبيض مشرب بحمرة، طويل عريض وقور، ذو لحية بيضاء، مهيب الطلعة له عربة بجوادين، يدقان بأرجلهما فتدق معها قلوب أهل الحارة، هو نائب المحكمة العليا الشرعية وسيد الحارة، إذا حضر من عمله تأدب أهلها، فلا ترفع نساء الطبقة الدنيا أصواتهن، وإذا جلس في فناء بيته تأدب الداخل والخارج، وإذا تجرأت امرأة على رفع صوتها أتى خادمه الأسود فأحضرها أمام الشيخ وزجرها زجرة لم تعد لمثلها، وعلى ألسنتنا نحن الأطفال: الشيخ جاء، الشيخ خرج، وبيته الواسع الكبير لا يشمل إلا سيدة تركية، وخدماً من الجواري السود اللاتي كن مملوكات وعبيداً سوداً — فقد كان في القاهرة أسواق وبيوت لبيع الجواري البيض والسود، يذهب من أراد الشراء فيقلب العبد أو الجارية ويكشف عن جسدها ليرى إن كان هناك عيب، ثم يساوم في ثمن من أعجبه فيشتريه ويكون له ملكاً. وظل هذا الحال إلى عهد إسماعيل، فتدخلت الدول الأوربية ووضعت معاهدة لإلغاء الرقيق وأعتق كل مالك رقيقه، ومع ذلك بقي كثير من العبيد والجواري في بيوت أسيادهم للخدمة ونحوها — وكان يشاع فيما بيننا أن الشيخ يملك ذهباً كثيراً، وأنه يضعه في خزائن حديدية، وأنه يضع كل جملة من الجنيهات في صرة، وأن له يوماً في السنة يفرغ فيه هذا الذهب في طسوت مملوءة بالماء ثم يغسله بالماء والصابون ثم يعده ويعيده، وكان بخيلا مع أنه لم يرزق ولداً، فلم يسمع عنه أنه ساعد أحداً من أهل الحارة بشيء. ولما جاوز السبعين ماتت زوجته فتزوج شابة لعبت بماله وغير ماله، وكثيراً ما يجتمع في منظرته أبي وبعض أهل العلم يتدارسون المسائل الفقهية. وفي يوم المحمل أو الاحتفال بالمولد النبوي يلبس الشيخ «فرجية» مقصبة مذهبة ويركب بغلة ويذهب بها إلى مكان الاحتفال، وعلى الجملة فكان المستبد في حارتنا كاستبداد أبي في بيتنا، واستبداد الحكام في مصالح الحكومة.
أما الطبقة الوسطى، فكانت تتألف من موظفين في الدواوين هذا كاتب في ديوان الأوقاف، وهذا كاتب في الدفترخانة، وهذا يعيش من غلة أملاكه وهكذا، دخل كل منهم في الشهر ما بين سبعة جنيهات واثني عشر، يعيشون عيشة وسطاً لا ترف فيها ولا بؤس، ويعلمون أولادهم في الكتاتيب ثم المدارس. وكان أكبر الأثر من هذه البيوت في نفسي لبيتين بجوار بيتنا: بيت موظف في ديوان الأوقاف دين لطيف مرح، فقد اتخذ منظرته مجمعاً لأصدقائه من أهل الحارة وغيرهم يسمرون فيها ليلا، فأحياًنا يحضر مقرئًا جميل الصوت يقرأ القرآن، وأحياًنا يقصون القصص الفكاهية يتعالى معها ضحكهم، وأحياًنا يتبادلون النوادر والنكت، وكنت أتمكن أحياًنا من سماع أحاديثهم فتكون متعة للنفس.
والآخر كان كاتباً صغيراً في ديوان الأوقاف أيضاً، ولكنه يهوى الدف والضرب عليه ويجيده، ويؤلف مع زملائه تخًتا يدعى للأفراح والليالي الملاح، هذا يضرب على العود، وهذا على القانون وهذا يغني، فكان من حين إلى حين يدعو زملاءه إلى إقامة حفلة في بيته، وكثيراً ما يكون ذلك، فيقضون ليالي لطيفة في أدوار موسيقية وغناء، وكنت أغذي بها نفسي يوم لم يكن راديو ولا فونوغراف — وكان رئيس البيت — وهو والد هذا المغني صالحاً ظريفًا لا تفوته صلاة. وكان صاحب البيت الثاني وهو الفتى المغني سكيرا لا يكاد يفيق مع أن أباه كان إمام مسجد الحي.
وبيوت الطبقة الدنيا يسكنها بناء أو مبيض أو خياط أو طباخ أو صاحب مقهى صغير أو بائع جوال على عربة يدفعها بيديه. وهؤلاء كثيرو الأولاد بؤساء ولا يشعرون ببؤسهم. يعيشون أغلب أيامهم على الطعمية والفول المدمس والبيسار والسمك يشترى مقلياً من الدكان، وقليلا ما يستطيعون أن يطبخوا، كما أن أولادهم لا يعلمون في كتاب ولا مدرسة. وإنما يتركون ليكبروا فيعملوا عمل آبائهم. نساؤهم قد يجلسن سافرات على باب البيت، وكثيرا ما تقوم بينهن الخصومات فيتبادلن السباب أشكالا وألونا. ويستعملن في سبابهن كل أنواع البلاغة من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية، ويتناولن فيه الآباء والأمهات والأعراض والتعبير بالفقر وبالفجور وفظائع الأمور، ويطول ذلك ويقصر تبعاً للظروف وقد يتحول السباب إلى ضرب، ويتحول تضارب النساء إلى تضارب الرجال — ولولا الشيخ في حارتنا لكان من ذلك الشيء الكثير.
ولكن مع اختلاف هذه الطبقات فقد كنا — نحن الأطفال — ديمقراطيين، لا نقيم كبير وزن لغنى ولا فقر ولا تعلم ولا جهل، فكنا نلعب سواسية، ونتخاطب بلغة واحدة ليس فيها تكبر ولا ضعة، وكان أحب أصدقائي إلي ابن كاتب في الدفترخانة وابن صاحب مقهى وابن فقيه كفيف يقرأ في البيوت كل يوم صباحاً.
وكان من أعجب الشخصيات في حارتنا «الشيخ أحمد الشاعر» رجل بذقن طويل أسود، يلبس جلبابا أبيض وعمامة، ويتأبط دائماً كتاباً لف في منديل أحمر، له صوت أجش، وظيفته التي يعيش منها أنه بعد صلاة العشاء يذهب إلى مقهى قريب من الحارة ويصعد فوق كرسي عال، يجلس عليه ويتحلق حوله الناس، ثم يفك المنديل ويخرج الكتاب وهو قصة عنترة أو «الزير سالم» أو «الظاهر بيبرس» ويقرأ فيه بصوته العالي. متحمساً في موضع التحمس متخاذلا في موضع التخاذل، مغنياً بما يعرض من الشعر فإذا كان في القصة بطلان تحمس فريق لبطل وتحمس فريق لآخر. وقد يرشوه أحد الفريقين ليقف في نهاية الجلسة على موقف رائع لبطله — وله أجر من صاحب المقهى لأنه يكون سبباً لازدحام مقهاه بالزائرين.
ولكن أعجب من هذا «الشيخ أحمد الصبان»، لقد كان يبيع الفحم في دكان على باب الحارة، وكانت حالته لا بأس بها، ثم دهمه الزمن الذي لا يرحم، فعمي وكسدت تجارته ولم يجد له مرتزًقا، وهجر بيته الكبير وسكن حجرة أرضية هو وزوجته يأكلان من الصدقة، فما هو إلا أن سكنت جسمه العفاريت وصار يغيب عن الوجود حينا، ثم يتغير صوته العادي ويتكلم بصوت جديد يخبر به عن المغيبات، وإذا هو يصير الشيخ أحمد الصبان، بعد أن كان عم أحمد؛ وإذا هو يشتهر في الحارة بأنه يعلم الغيب ويخبر بالمستقبل، وفي قدرته بواسطة التعازيم والأحجبة أن يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته، وأن يخبر بالولد المفقود والمال المسروق؛ ثم ينتقل الخبر من حارتنا إلى ما جاورها وإلى ما وراء ذلك. فكان الناس يأتونه من مكان سحيق ليشهدوا عجائب الشيخ أحمد الصبان. واتسع رزقه وصلح حاله، وانتقل من حجرته الضيقة إلى مسكن فسيح، وانقسم فيه أهل الحارة قسمين: قليل منهم يقول إنه نصاب وكثيرون يقولون «سبحانه ما أعظم شأنه، يضع سره في أضعف خلقه»؟!..
كانت نسبة المواليد في الحارة نسبة عكسية مع الطبقات، فأفقر الطبقات أكثرها عدداً؛ تلد سيدة ستة أو ثمانية أو عشرة والبيت الغني الوحيد ليس به ولد — وكما كثر عدد المواليد كثر عدد الوفيات، فالحالة الصحية أسوأ ما يكون، لا عناية بنظافة ماء ولا بنظافة أكل؛ وهم لا يعرفون طبيباً، وإنما يمرض المريض فيعالجه كل زائر وزائره — كل يصف دواء من عند العطار جربه فنجح، والمريض تحت رحمة القدر. وقد يصاب أحد بالحمى فيزوره كل من أراد، ويسلم عليه ويجلس بجانبه طويلا، ويحدثه طويلا، فتكون العدوى أمراً سهلا ميسوراً، ولذلك كان كثيراً ما يتخطف الموت أصدقائي من الأطفال حولي.
ومنظر آخر عجيب شاهدته في صباي ثم انقرض، ذلك أن فتيان حينا ممن يشتغلون في الحرف والصنائع قد يتخاصمون مع فتيان أمثالهم من الحي الآخر، كأن يتخاصم حي المنشية مع حي الحسينية، فيتواعدون على الالتقاء في جبل المقطم في يوم معين، ويجتمعون إذ ذاك فينقسمون إلى معسكرين، معسكر المنشية ومعسكر الحسينية، وتقوم الحرب بينهما، وأدوات الحرب الطوب والحجارة الصغيرة والعصي الغليظة. وتشتد المعركة وتسفر عن جرحى أو أحياًنا عن قتلى وشاهدت هذا المنظر يوماً فرعبت منه، حتى إذا أمسى المساء وقف القتال وتواعدوا على يوم آخر، وطووا صدورهم على الانتقام والأخذ بالثأر، وتمتد الخصومة وراء المعسكرين، فيتربص أهل المنشية لزفة عريس من أهل الحسينية ويفاجئونهم في أشد أوقات فرحهم، وينهالون عليهم ضرباً، ويقلبون الفرح غماً، وهكذا دواليك.
وعلى رأس كل مجموعة من الحارات سوق، فيها كل ما تحتاجه البيوت، وهو يمثل الوحدة الاقتصادية للأمة. وبجانب السوق كل مرافق الحياة الاجتماعية: مكتب لتعليم الأطفال، ومسجد لصلاة أهل الحي، وحمام للرجال أياماً، وللنساء أياماً، ومقهى يقضون فيه أوقات فراغهم، ويتناولون فيه كيوفهم، من قهوة وشاي وتنباك ونحو ذلك. وفي الحي مقاه متعددة، منها ما يناسب الطبقة الدنيا، ومنها ما يناسب الطبقة الوسطى وهكذا. فقل أن يحتاج أهل الحي إلى شيء أبعد من حيهم، ومن أجل هذا كانت دنياي في صباي هي حارتي وما حولها. وأطول رحلة أرحلها خارج حينا كانت يوم تذهب أمي وتأخذني معها إلى الغورية أو حي الموسكي لشراء الأقمشة، أو تأخذني إلى بيت خالي قريباً من باب الخلق، وهذه كل دنياي.
كانت الحارة وما حولها مدرسة لي، تعلمت منها اللغة العامية القاهرية الصميمة، من ألفاظها وأساليبها وأمثالها وزجلها. وكان حينا — كما قلت — يمثل الحياة القاهرية الخالصة، فمثلها مثل مراكز اللغة الفصيحة التي كان يرحل إليها علماء اللغة لعليا قيس وسفلى هوازن، وتعلمت منها كل العادات والتقاليد البلدية، ورأيت كيف تقام الأفراح عند الطبقة الدنيا وكيف يفرحون ويمرحون وكيف يغنون وما يغنون، ورأيت الفروق في كل ذلك بين عادات الطبقة الدنيا والوسطى والعليا، ورأيت كيف تقوم لذائذ الحياة وآلامها عند كل طبقة.
ومرة شاهدت حفلة «زار» لسيدة تدعي أنه ركبها عفريت سوداني فاجتمعت السيدات عندها والأطفال وحضرت شيخة الزار وهي المسماة بالكدية وأعوانها من السيدات والرجال بطبولهم وطبولهن وبدءوا في ضرب على الطبل على نغمة «يا سلام سلم» فلم يتحرك أحد لأن الأعصاب لم تكن خمدت بعد ثم طلب إلى الكودية أن تضرب نغمة سودانية على نغمة «صلوات الله عليه وسلم» فبدأ بعض الحاضرات يترنح ويفقر وبعضهن يرقص رقصاً بديعاً على الأسلوب الحديث في الرقص فهن يهززن رءوسهن ويدلين شعورهن مرة ويرفعن رءوسهن ليدلين شعورهن مرة أخرى وادعى بعضهن وقد يكون صحيحاً أنهن فقدن الوعي وأن حركاتهن تأتي عن غير شعور، وأطلق البخور في بيت صاحبة الزار مما هدأ الأعصاب وحرك النفوس، ثم ذبح خروف وأفراخ وغمست بعض ثياب السيدة في الدم ووضعت عليها وفي كل ذلك كانت تغني الكدية وأتباعها بأغان ذات كلمات أعجمية لم أتبينها، ومع المحاولات الكثيرة في أن أفقر كما يفقرن لم تتحرك أعصابي ولم تهتز نفسي، وكان منظراً غريباً جميلا وادعت فيه سيدة الزار بعد ذلك أنها قد هدأت أعصابها وشفيت من مرضها، والظاهر أن مرضها كان مرض وهم زال بالزار الذي هو عمل الوهم. وهكذا شاهدت في الحارة الزار والأفراح والمآتم واستفدت من كل ما سمعت ورأيت.
ثم رأيت المعاملات الاقتصادية بين أهل الحارة وأهل السوق، والشعائر الدينية تقام في المسجد، والحمامات يستحم فيها الرجال والنساء، كل ذلك كان دروساً عملية وتجارب قيمة لا يستهان بها، فإذا أنا قارنت بين نفسي في تجاربي هذه التي استفدتها من حارتي، وأولادي في مثل سني التي أتحدث عنها وقد ربوا تربية أخرى، فلا جيران يعرفون، ولا بأهل حارة يتصلون، ولا مثل هذه العلاقات التي ذكرتها يشاهدون؛ أدركت الفرق الكبير بين تربيتنا وتربيتهم، وكثرة تجاربنا وقلة تجاربهم، ومعجم لغتنا ومعجم لغتهم، ومعرفتنا بصميم شعبنا وجهلهم.