الفصل الثامن
كل شيء حولي كان كفيلا أن يميت الذوق ويبلد الحس ويقضي على الشعور بالجمال؛ فحارتنا — إذا تجاوزت بيت الشيخ — متربة، لا يمسها الماء إلا إذا أنزل المطر أحالها بركاً، وإلا ما يفعله السكان — من حين إلى آخر — إذ يفتحون شبابيكهم ويقذفون منها بما تجمع من ماء غسل الثياب أو غسل الصحون وأحياًنا لا تتحرى السيدة ما تفعل فينزل هذا الماء القذر على بعض المارة فيكون النزاع ويكون السباب. وشوارعنا قذرة لا يعنى فيها بكنس ولا رش، وإذا كنست أو رشت فالمارة خليقون أن يفسدوا كل شيء في لحظة، فورق يرمي حيثما اتفق، وقشور ومصاصات قصب وروث بهائم ونحو ذلك، فإذا الشوارع بعد ساعة مزبلة عامة؛ وبيتنا لم يكن يعنى بتربية الذوق أية عناية، فليس فيه لوحة جميلة ولا صورة فنية، ولا أثاث منسق جميل، ولا زهرية ولا أزهار، وكل ما أذكره من هذا القبيل أن أبي كان يشتري في موسم النرجس بعضاً من أزهاره ويضعه في كوب من الماء على الشباك، ويشمه من حين لآخر، ولست أدري لماذا أعجب بالنرجس وحده وموسمه قصير، وليس أجمل الزهور؟ ولماذا لم يعجب بالورد والياسمين وهما أجمل وأرخص وموسمهما أطول؟ وربما أن السبب في ميله إلى النرجس دون غيره ليس لذوق ولا حب للجمال، ولكن أظن أنه قرأ حديثاً يمدح النرجس بأنه يمنع من البرسام، والبرسام هو لوثة من الجنون، فظل الحديث يعمل في نفسه، ولذلك كان يشتريه.
ولكن ماذا تعمل هذه اللفتة القصيرة بجانب ما يغمرنا من قبح، في الحارة والشارع والكتاتيب وما فيها من منظر الحصير ومنظر سيدنا ومنظر الزير والمواجير؟ لقد كانت كل هذه تكفي لإماتة الشعور بكل جمال، والشعور بالجمال أكبر نعمة، وتربية الذوق خير ما يقدم إلى الناشئ حتى من ناحية تقويم أخلاقه.
على كل حال، أحمد لأبي أن أخرجني من هذه الكتاتيب الكريهة، وأدخلني مدرسة ابتدائية هي مدرسة «أم عباس» أو كما تسمى رسميا «والدة عباس باشا الأول» أو كما تسمى اليوم مدرسة بنباقادن. كانت مدرسة نموذجية، بنيت على أفخم طراز وأجمله: أبهاء فسيحة فرشت أرضها بالمرمر وحليت سقوفها بالنقوش المذهبة، وفي أعلى المدرسة من الخارج إطار كتبت عليه آيات قرآنية كتبها أشهر الخطاطين بأحسن خط. وموهت بالذهب؛ فكان هذا الجمال الجديد عزاء لذلك القبح القديم.
ولبست بدلة بدل الجلباب، ولبستُ طربوشاً بدل الطاقية وأحسست علواً في قدري، ورفعة في منزلتي، وخالطت تلاميذ الطبقة الوسطى أو العليا لا نسبة بينهم في نظافتهم وجمال شكلهم وبين أبناء الكتاتيب وأبناء الحارة.
كانت المدرسة يصرف عليها من أوقاف رصدتها عليها والدة عباس الأول فتلاميذها بالمجان، ولها بعض التقاليد الخاصة بها فيُجمع بعض التلاميذ مرتين في السنة، ويذهبون إلى قصر الوالدة لتوزع عليهم بدلتان، بدلة للشتاء وبدلة للصيف ثم يخرجون إلى الشارع بملابسهم الجديدة إعلاًنا لما تسدي الواقفة من خير، وفي المواسم يذهبون إلى مدفن الواقفة، ويقرءون على روحها الفاتحة، وما تيسر من الدعوات ثم يوزع عليهم الفطير والحلوى.
وشهدت في هذه المدرسة ثلاثة تطورات للتعليم. ولعلها كانت هي تطورات التعليم في مصر. فقد كانت المدرسة لتعليم القرآن وشيء من الحساب واللغة العربية والتركية، ثم انكمش هذا النوع من التعليم فأصبح فصلا واحداً بعد أن كان يعم المدرسة كلها وسمي قسم الحفاظ وأنشئت بجانبه فصول على النمط الحديث، تعلم فيها الجغرافيا والتاريخ والحساب مع اللغة الفرنسية، وقد نمت هذه الفصول حتى اكتسحت قسم الحفاظ؛ وشهدت بالمدرسة قبل خروجي منها منظراً جديداً، فقد رأيتهم يجمعون الطلبة الضعاف في اللغة الفرنسية لينشئوا بهم فصولا لتعليم اللغة الإنجليزية، ثم اكتسحت اللغة الإنجليزية اللغة الفرنسية.
دخلت أولا قسم الحفاظ وبعد سنة تحولت إلى قسم اللغة الفرنسية في السنة الثانية.
وإذا كان علي واجب من المدرسة أتممته على عجل قبل أن أذهب إلى أبي في المسجد، وليس لي من الراحة إلا عصر يوم الخميس ويوم الجمعة. على أني كثيراً ما أحرم أيضاً من صبح يوم الجمعة لعمل واجبي المدرسي، أو القراءة مع أبي.
وهو برنامج غريب متناقض الاتجاه. سببه أن أبي كان حائرا في مستقبلي، أيوجهني إلى الجهة الدينية فيعدني للأزهر، أو يوجهني الوجهة المدنية فيعلمني في المدرسة الابتدائية والثانوية. وكنت أدرك حيرته من كثرة استشارته لمن يتوسم فيه حسن الرأي. وهم لا ينقذونه من حيرته؛ فمنهم من يشير بهذا، ومنهم من يشير بذاك، فأمسك العصا من وسطها. فكان يعدني للأزهر بحفظ القرآن والمتون، ويعدني للمدارس المدنية بدراستي في المدرسة. وهذا أسوأ حل، ولكن جزاه الله خيراً على تعبه المضني في التفكير في مستقبلي. وغفر الله له ما أرهقني به في دراستي.
كان هذا الضغط الشديد مثاراً لثورتي أحياًنا. فربما كنت أهرب من فقيه المكتب ظهراً، أو من الذهاب إلى أبي عصراً، أو أدعي المرض وليس بي مرض، ولكن إذا اكتشف هذا كان جزاؤه الضرب الشديد، فتخمد ثورتي؛ ولقد جربت أمي حظها. فكانت تتدخل في الأمر حين يضربني، ولكنها رأت أنها إن تدخلت حين هذا الغضب الشديد والضرب الشديد، فقد يتحولان إليها.. فكان إذا حدث هذا فيما بعد اكتفت بالصراخ والعويل من بعيد.
استمررت في هذه المدرسة، وكنت متفوًقا في اللغة العربية بفضل ما آخذه من الدروس على والدي، وفوق المتوسط في الحساب، وضعيًفا في اللغة الفرنسية، لأن أبي لم يترك لي الزمن الكافي لمذاكرتها.
تعلمت من المدرسة دروسها، وتعلمت من التجارب أكثر من دروسها، فلعبي مع التلاميذ، ومبادلتي إياهم العواطف، ورؤيتي إياهم يتصرفون في الأمور تصرًفا مختلًفا حسب مزاجهم وعقليتهم، يغضبون أو يحلمون، ويثورون أو يهدءون، ويظلمون أو يعدلون — كل هذه كانت دروساً في الحياة أكبر من دروس العلم، بل المدرسون أنفسهم كانوا معرضاً لطيًفا، فيه الجمال والقبح، والرعونة والسكينة، وما شئت من ألوان الحياة — كان مدرس اللغة الفرنسية بطيء الحركة، ثقيل اللسان، معوجه، جاحظ العينين أحمرهما من أثر الحمار لا يكترث لدرسه، ولا لتلاميذه، سواء عنده ذاكروا أو لم يذاكروا، تقدموا أو لم يتقدموا. ومدرس الحساب كفء في مادته، مهتم بطلبته، يبذل أقصى جهده في درسه، ولكنه غريب الأطوار، يهيج أحياًنا ويشتد غضبه فيضرب، وقد يشتد ضربه فيكسر أو يجرح، ويكون في منتهى اللطف والظرف أحياًنا، فيستغرق في الضحك لأتفه سبب، وقد يحدثنا عن دخائل بيته، وأسرار نفسه مما لم تجر العادة بذكره. ومدرس اللغة العربية من الصنف الذي نسميه «ابن بلد» يحول كل شيء إلى نكتة، ونكتة رائعة جميلة مؤدبة، لا يؤذي ولا يضرب، ولكنه ينتقم أحياًنا من التلميذ بالسخرية والنكتة اللاذعة. ومدرس الدين رجل سوري يلبس لباس الشاميين، جبة وقباء، وطربوش تركي، معمم عمة سورية، طويل عريض بدين، ثقيل الروح، يستثقله المدرسون والطلبة على السواء. وبعض المدرسين يحرضوننا على معاكسته، فكنا نبذل جهدنا في حصته لاستخراج أفانين العبث به؛ ونفرح لدرسه لأنه مثار السخرية والضحك. ومدرس الخط رجل تركي، جميل الوجه، بهيج الطلعة، له لحية بيضاء، تستخرج من ناظرها الإكبار والإجلال، يلبس اللباس التركي الشرقي ويتكلم العربية بلهجة تركية، هادئ الطبع، بطيء الحركة خافت الصوت لا يضرب ولا يؤذي ولا يسب، وهو مع ذلك محترم، لا تسمع في حصته صوًتا. وناظر المدرسة رجل طيب ولكنه لا يفقه شيئًا من أساليب التربية، ضبط مرة تلميًذا يسرق كراساً فأخذه وعلق في رقبته لوحة من الورق المقوى، كتب عليها بخط الثلث الكبير «هذا لص» حتى إذا وقف الطلبة في طابور العصر أمسكه الناظر بيده، ومر به على التلاميذ ليؤدبه والحق أنه لم يؤدبه ولكن قتله، فلم أر هذا التلميذ يعود إلى المدرسة بعد. وأغلب الظن أنه انقطع عن المدارس بتاًتا.
وهكذا كانت المدرسة بتلاميذها ومدرسيها وناظرها تمثل رواية مملوءة بالحياة والحركة والمناظر تكون أحياًنا مأساة، وأحياًنا ملهاة.
كنت في هذه السن متديًنا شديد التدين. وكان بالمدرسة مسجد صغير أعد إعدادا حسًنا، فكنت أصلي فيه الصلوات لأوقاتها. وكنت أقوم الليل وأتهجد وأحب الله وأخشاه. وتنحدر الدموع من عيني أحياًنا في ابتهالاتي، وأسجد فأطيل السجود والدعاء، وأحفظ أدعية من الابتهالات والتوسلات. ومن شدة فكري في الله رأيته في منامي مرة، على شكل نور يغمر الغرفة ويخاطبني قائلا: اطلب ما أدلك به على قدرتي فطلبت أن يعمل من قطعة حديد سكيًنا، ومن قطعة خشب شباكاً، ففعل. فآمنت بقدرته وحكيت المنام لأهلي، ففرحوا به فرحاً عظيماً، وزادوا في محبتي.
واستمررت في دراستي في المدرسة، فانتقلت من السنة الثانية إلى الثالث ومن الثالثة إلى الرابعة، وأبي لا يهدأ من التفكير أيتركني أكمل دراستي، أم يخرجني من المدرسة ويدخلني الأزهر، ويسألني فأجيبه: «أحب أن أبقى في المدرسة»، ويسأل من يعرفه من موظفي الحكومة فيوصونه ببقائي في المدرسة. ويسأل من يعرفه من مشايخ الأزهر فيوصونه بإدخالي الأزهر؛ ويتردد ويتردد ثم يستخير الله ويخرجني من المدرسة إلى الأزهر.