دون ماسينو
وزَّعت إدارة المعلومات في المقرِّ السرِّي للشياطين اﻟ «١٣» ملفين؛ أحدهما أسود اللون … كبير … عليه اسم «دون ماسينو»، أما الملف الثاني فكان أزرق اللون … مكتوب عليه … «تاريخ المافيا»، وتحتها بالخط الصغير ملخص … ومع ذلك كان عدد أوراق هذا الملخص أكثر من ٢٠٠ ورقة …
تسلَّم الشياطين جميعًا الملفين مساءً، وكان موعدهم الساعة العاشرة في صباح اليوم التالي، للمناقشة في الملف الأول الذي كان يضمُّ نحوَ خمسِ صفحات من المقاس المتوسط، ومجموعة من الصور، ﻟ «دون ماسينو» … وهو رجل في السادسة والخمسين من عمره … وسيمٌ، يشبه نجوم السينما … ويلبس نظارةً سوداء في جميع الصور.
وكانت المعلومات عن «دون ماسينو» مدهشة … فهو الأب الروحي للمافيا في أمريكا اللاتينية … ولد في «بالرمو» عاصمة صقلية.
وكان الابن السابعَ عشرَ لأب يعمل في صناعة الزجاج اليدوية … وقد تمرَّن «توماسو بوشيتا» — وهذا هو اسمه الأصلي — في مصنع والده.
ولكنه ضاق بالحياة في العاصمة الصغيرة، وكانت عنده طموحات كبيرة، ولهذا ترك مصنع والده وسافر للأرجنتين للعمل في أحد المصانع هناك.
ولكنه لم يستطع تحقيق طموحاته … وبعد خمس سنوات من العمل الشاق عاد إلى «بالرمو» … واستطاع بعض رجال المافيا تجنيد «توماسو» لحساب المافيا في عمليات صغيرة للتمرين … فاشتغل في تهريب السجائر.
ولكن انفضح أمره بعد قليل، وقُبض عليه … وفي السجن تعرَّف بمجموعة من رجال المافيا … يتبعون رجل المافيا المشهور «بتروني» … وأصبح وهو داخل السجن عضوًا في أسرة «بتروني» … والمعروف أن كلَّ مجموعة من المافيا يُطلق عليها لقب «أسرة» …
وعندما خرج من السجن، كلَّفتْه أسرة «بتروني» باغتيال شخصية من أسرة منافسة … وقد أتم «توماسو» المهمة … ولكن قُبض عليه مرة أخرى وأودع بالسجن.
ولكن أسرة «بتروني» دبَّرت هروبه من السجن، حيث ترك «بالرمو» كلها … وسافر إلى «نيويورك» في الولايات المتحدة الأمريكية …
و«نيويورك» هي أكبر مدينة في أمريكا، يسكنها نحو ١٢ مليونَ شخص … ومن الصعب العثورُ على هاربٍ فيها، خاصةً إذا كانت تسانده أسرةٌ من أُسَر المافيا الكبيرة …
ولكن شرطة «نيويورك» أخذت تتابعه، خاصةً بعد أن انهمك في عمليات تهريب المخدِّرات إلى الولايات المتحدة …
ولكن «توماسو» كان قد تعلَّم من تجاربه … فلم يقع في قبضة العدالة إلَّا بتهمةٍ أقلَّ أهمية، وهي دخوله الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية، وقد دفع «توماسو» ٧٥ ألفَ دولار غرامة … ثم ترك الولايات المتحدة وسافر إلى البرازيل في أمريكا اللاتينية.
وفي البرازيل بدأ «توماسو» صفحة جديدة من حياته، فقد أنشأ سلسلة كبيرة من محلات «البيتزا» في البرازيل، وكذلك أدار شركة للتاكسيات … ورغم أن هذين العملين كانا يُدِرَّان عليه مبلغًا ضخمًا، إلَّا أن رجل المافيا لم يكتفِ بهذا، فقد أجرى عمليةَ تجميل غيَّر بها ملامحه … ثم انهمك تحت ستار محلات البيتزا وإمبراطورية التاكسي التي أنشأها … انهمك في عمليات تهريب المخدِّرات التي تُدِرُّ عليه أرباحًا خيالية …
واستطاع في سنوات قليلة أن يُصفِّيَ خصومَه في البرازيل، ويصبحَ إمبراطور المافيا، والأب الروحي لعصابة ضخمة، وحمل اسم «دون ماسينو» … والدون في لغة المافيا هو الزعيم.
وأصبح «دون ماسينو» شخصية أُسطورية في البرازيل، ولكي يُكمل وجاهته الاجتماعية والمالية، فقد اشترى جزيرة تُطِلُّ على المحيط الأطلنطي … وفي هذه الجزيرة التي جعلها تشبه الحلم، كان يستقبل أهم الشخصيات في العالم تحت ستار أنه تاجر شريف … يعمل في تجارة البيتزا والسيارات.
وبَدَتِ الحياة طيبةً وهانئةً بالنسبة ﻟ «دون ماسينو»، ولكن الشرطة الإيطالية كانت تتعقبه، فهو سجين هارب … واستطاعت قوات الشرطة أن تقبضَ عليه بواسطة «الإنتربول» وهو البوليس الدولي، الذي له ممثلون من أفضل رجال الشرطة في كل مكان في العالم.
ولكن «دون ماسينو» لم يدخل السجن؛ فقد استطاعت مجموعة من المحامين البارعين أن يحصلوا على قرار من المحكمة أن يمضيَ «دون ماسينو» بقية فترة السجن في منزله … وقضى فترة من الزمن في المنزل.
ولكنه علم أنَّ أُسَر المافيا المنافسة له في البرازيل بدأت تستولي على أعماله هناك، فهرب من المنزل … وعاد إلى البرازيل، حيث دخل سلسلة من المعارك الدموية مع الأُسر المنافسة … ولكنهم في النهاية استطاعوا القضاء على أسرته من المافيا، ثم على عائلته الشخصية، في مذبحة من أشرس المعارك التي دارت بين عصابات المافيا.
ولم يعد أمام «دون ماسينو» ما يفعله إلَّا أن يُسلِّم نفسه للبوليس بعد أن فقد عصابته، وأسرته، وعائلته وأمواله … ولأول مرة في تاريخ المافيا … يقرر أحد الزعماء الكبار فيها أن يعترف …
لقد قرَّر «دون ماسينو» أن يَنتقِم من العصابات التي حطَّمَت حياته … وهكذا خرَق قانون «الأومرتا»، وهو قانونُ الصمت والكتمان الذي يَتعلَّمه ويَعمل به كلُّ مَن يعمل مع المافيا … وهو يقضي بأن يُخفيَ العضو معلوماتِه عن المافيا حتى لو تَعرَّض لحُكم الإعدام …
ولكن ما السبب الذي يجعل عضو المافيا لا يُفْشي أسرارها، وهو على الكرسي الكهربائي؟ … السبب أن المافيا ترعى أسرته بعد وفاته، وتعطيها ما تشاؤه من أموال.
أمَّا إذا اعترف فإنَّ المافيا تقوم بتصفية عائلته كلها بالقتل … لهذا يحرص زعماء المافيا الذين يعرفون أسرارها على كتمان أسرار المافيا … حتى وهم يخطون خطواتهم الأخيرة إلى القبر.
ولماذا اعترف «دون ماسينو»؟
لأنه فقد أسرته كلها، ولم يعد منهم على قيد الحياة مَنْ يخاف عليه … وهكذا قرر «دون ماسينو» أن يعترف لأول مرة في تاريخ المافيا بأسرارها التنظيمية.
ولكن قبل أن يصل رجال الشرطة إلى كل المعلومات المطلوبة، حدث شيء خطير … فقد استطاع تحالف أُسَر المافيا أن يقوم بخطف «دون ماسينو»، وأن يقوم بسرقة ما سُجِّل من اعترافات إمبراطور المافيا …
حدث هذا في لحظات … لقد أحكمت العصابات خطة عملها، حتى إنَّ رجال الشرطة ذهلوا أمام الدقة الكاملة التي نُفِّذت بها العملية …
أمَّا الملف الأزرق فكان يحوي بعض أسرار المافيا، وهي التي تذكَّرها رجالُ البوليس من اعترافات «دون ماسينو» … بالإضافة إلى المعلومات التاريخية عن العصابات الدموية، وتتعلق ببعض الأحداث، والجرائم، والسرقات التي قامت المافيا بتنفيذها …
ولكن الأهم والأخطر هو أسماء رجال المافيا في جميع أنحاء العالم … والتنظيمات التي تضمهم … وهذا ما كان رجال الشرطة يتمنَّون الحصول عليه من «دون ماسينو» نفسه.