الرحلة الليلية!
اتجه «أحمد» و«عثمان» إلى الحارة المجاورة للكازينو، ووجدا الزنجيَّ يقف تحت عمود النور … الذي كان الضوء يشع منه بصعوبة، فقد كان الضباب كثيفًا … والجو باردًا.
وأشار لهما «كاسبو» أن يتبعاه، وكان «أحمد» وهو يسير خلفه يحاول الاستماع إلى صوت محرك «الجاجوار» عندما يدور … ليتأكد أن «رشيد» خلفهم … فسار متباطئًا، حتى استمع إلى محرك «الجاجوار» وهو يزمجر في صمت الليل البارد …
ثم اتجه مسرعًا هو و«عثمان» إلى «كاسبو» الذي فتح باب سيارة كاديلاك سوداء وركب، وركب بجواره «عثمان»، وخلفه «أحمد» … ووجدا رجلًا ثانيًا يجلس في المقعد الخلفي … رجلًا ضخم الجثة … ثقيل الأنفاس، يرتدي مِعْطفًا ثقيلًا، ويضع يديه في جيوبه …
وانطلقت السيارة الكاديلاك على الفور، مطلقة أضواءها القوية تُبدِّد ظلمات الشوارع السوداء …
كانت الحركة هادئة نسبيًّا في شوارع «نيويورك» … فلم تجد السيارة مشقَّةً في الانطلاق … وشيئًا فشيئًا بدأت تترك المناطق المأهولة، وتتجه غربًا في اتجاه ميناء «نيويورك» الضخم … ثم تقطعه جنوبًا إلى الأرصفة القديمة المهجورة …
كان الصمت يسود السيارة فلم يتحدث أحد … ولكن «أحمد» و«عثمان» كانا يفكران في أشياء كثيرة … وفي نفس الوقت كان «أحمد» يحاول دون أن يلفت الأنظار أن يتأكَّد أن «رشيد» يتبعهم في السيارة «الجاجوار» … فهناك أشياء كثيرة في هذه الرحلة الليلية لا تعجبه … ولكن المهمة التي كُلِّفوا بها ذات أهمية بالغة … ومن الممكن أن تكون شكوكه لا أساس لها من الصحة.
توقَّفت السيارة عند مبنًى ضخمٍ مهجور … يبدو في ظلمة الليل وانعكاس أضواء الميناء البعيدة كأنه بناء وهمي.
وقال «كاسبو»: سوف تذهبان مع «نورمان» … إنه يعرف الطريق … فمهمتي تنتهي هنا.
نزل «عثمان» و«أحمد» … ونزل الرجل الضخم وهو لا يزال يضع يديه في جيبي مِعْطَفه، وتوقَّف لحظات ينظر حوله، ثم مضى يسير في خُطًى متثاقلة … وقد اشتدَّ البرد، وتحوَّلت الأنفاس إلى بخارٍ شبه متجمد.
انحرفوا جميعًا إلى زقاق ضيق خافت الإضاءة، وتوَّقفوا أمام باب ضخم من الحديد، وأخرج الرجل يده اليمنى من جيب معطفه، وعرف «أحمد» و«عثمان» على الفور أنها يد صناعية … فقد كانت تتحرَّك بشكل ميكانيكي …
وعندما دقَّ الباب سمع صوت الحديد وهو يلامس أصابعه الصناعية … دقَّ ثلاث مرات وانتظر لحظات، ثم دقَّ مرة واحدة أخرى … وساد الصمت ثم سمعوا صوت أقدام قادمة … ودقَّ ذو اليد الصناعية مرة أخرى … وفتح الباب … وبرزت فوهة مدفع رشاش أولًا … أزاحها جانبًا، وقال: إنهما هنا.
وتنحَّى جانبًا، ودخل «عثمان» و«أحمد»، ودخل الرجل خلفهما وأغلق الباب بسرعة.
كان المكان الذي دخلوه يُمثِّل مكانًا نموذجيًّا كمقرٍّ لعصابة … فهو مخزن قديم قد تدلَّت من سقفه الرافعات في كل مكان … وتكوَّمت في عدة جوانب منه بضائعُ قديمة … وفي وسطه تمامًا كان ثمة ما يشبه الجبل من بكرات الورق الضخمة … وكانت أرضيته من الأسمنت والحديد … وقد نشعت المياه في كل مكان، مكوِّنةً بركانًا من المياه الراكدة … وأخذت الفئران الضخمة تمرح، وتجري، وتقف دون خوف … وفي الجانبين تناثرت غرف صغيرة مضاءة … وكانت ثمة كلمات عالية تأتي في الأغلب من جهاز تليفزيون …
مشى الرجل ذو المعطف أمامهم، بينما سار حامل المدفع الرشاش خلفهم … حتى وصلوا إلى نهاية المخزن، ووجدوا رجلين آخرين مسلحَين يأكلان …
قال أحدهما: كيف حال يدك السليمة؟
ردَّ «نورمان»: أفضل من مخك الغبي!
وقف الرجل هائجًا وكاد يضرب «نورمان» الذي أزاحه بيده وسأل: هل المجموعة في الداخل؟
ردَّ الرجل: إنهم في انتظارك.
دخلوا إلى دهليز صغير آخر … وفي نهايته بدت غرفة ضخمة، مسدلة الستائر، اتجهوا إليها … وفتح «نورمان» الباب ودخل … وتحت الضوء الباهر كان ثلاثةُ رجال يجلسون … رفعوا رءوسهم ينظرون إلى القادمين.
قال «نورمان»: هذان هما الولدان أيها الزعيم.
ردَّ أحد الرجال الثلاثة: انتظر أنت في الخارج.
خرج «نورمان» … وقال الرجل الذي يبدو أنه زعيم المجموعة: تريدان «بوشيتا»؟!
أحمد: نعم.
الرجل (مبتسمًا): كم تدفعان؟
أحمد: لم يذكر لنا أحد أنَّنا سندفع أيَّة نقود!
الرجل: مهمة مجانية؟!
أحمد: نعم.
الرجل: إنكما … أو إنكم جميعًا مجموعة من السُّذج البُلهاء … كيف تتصوَّرون أن نُسلِّم «بوشيتا» دون مقابل؟!
أحمد: إنني أريد أن أعرف أولًا مَن أنتم.
قال رجل آخر: إنه سؤال معقول.
علَّق الزعيم: لو عرفت مَن نحن لما حضرت إلى هنا مطلقًا.
أحمد: إنني أعرف مَن أنتم … ولكنني حضرت!
الرجل: تعلم مَن نحن؟!
أحمد: طبعًا … إنَّ الرسالة المسجَّلة مزوَّرة، و«كاسبو» كان الطُّعْم الذي أرسلتموه.
كان «عثمان» و«أحمد» قد عرفا من سلسلة الإجراءات التي تمت، ومن نوع المكان الذي دخلاه … أن رسالة عميل رقم «صفر» التي استمعوا إليها كانت مُزوَّرة.
وكانت المشكلة الحقيقية التي تواجههم أن العصابة عرفت رقم التليفون … وعرفت موعد وصولهم، وعرفت المهمة التي قدموا من أجلها … ولذا قامت بتزوير رسالة مُسجَّلة بصوت عميل رقم «صفر» في «نيويورك» …
فهل وقع العميل في أيديهم … أم قلَّدوا صوته؟! …
كان الصمت ثقيلًا … وكان «أحمد» يدرس المكانَ بدقةٍ … وأشار الزعيم إلى أحد الرجلين، فقام وفتح بابًا جانبيًّا، ثم عاد ومعه رجل تبدو عليه علامات التعذيب والإعياء … شاحب الوجه، مرتجف الأطراف …
وقال الزعيم: هذا هو الرجل الذي يعمل لحسابكم في «نيويورك» …
ونظر الرجل إلى «أحمد» و«عثمان». كانت نظراته مُتْعَبة … ولكنها قوية وثابتة …
وقال الزعيم: والآن نريد أن نعرف ما هي حقيقة المنظمة التي تعملون لحسابها … إنَّ هذا الجرذ لا يريد أن يعترف!
لم يردَّ أحد … فقال الزعيم: من الأفضل لكم الاعتراف … وإلَّا ألقيتُ بكم حالًا إلى مياه المحيط طعامًا لأسماك القرش.
قال عميل رقم «صفر»: لقد قلت لكم كلَّ ما عندي … إنني لا أعرف ما هي المنظمة … ولا من يرأسها … إنني أتلقَّى مكالماتٍ تليفونيةً فقط وأنفِّذ ما يُطلب مني.
كان يتحدث وهو ينظر إلى «أحمد» و«عثمان» كأنما يحذِّرهما من الاعتراف … ولم يكونا في حاجة إلى تحذير، فمن غير المعقول أن يعترفا …
لطمَ أحدُ الرجال عميل رقم «صفر» لطمةً قويةً وصاح: إننا لا نلعب!
لم يردَّ العميل … كان مُحطَّمًا، ولكن من الواضح أنه لم يكن على استعداد لأي اعتراف.
وقف الزعيم وقال: من الأفضل أن يوضعوا في مخزن المياه … إنَّ المياه الباردة في هذا الصقيع ستكون مفيدة لإنعاش ذاكرتهم.