مقدمة

في تعريف هذا الفن وموضوعه وغايته

في هذه المقدمة نتناول ثلاثة مطالب، هي:

  • الأول: في تعريف هذا الفن.
  • والثاني: في موضوعه.
  • والثالث: في غايته وفائدته.

هنا نبحث ثلاثة مبادئ من المبادئ التصوُّرية في الحكمة الإلهية. ومن المعلوم أن ذكر تعريف العلم وموضوعه وغايته وفائدته هو مما اعتاده القدماء في مصنَّفاتهم. والمصنِّف سار على هذا النهج في تعريف الحكمة الإلهية، فذكَر موضوعها، وغايتها.

المطلب الأول: المقصود بالحكمة الإلهية

تُسمَّى الحكمة الإلهية الفلسفة الأولى في مقابل الرياضيات التي هي الفلسفة الوسطى، والطبيعيات التي هي الفلسفة الأخرى، كما تُسمَّى الحكمة الإلهية العلم الأعلى، وذلك لعلوه على قسيمَيه من الرياضيات والطبيعيات.

وتُعتبر موضوعاتُ العلوم من مصاديق العلم الأعلى (الحكمة الإلهية)؛ ولذلك قال الحكيم الآملي:١ «إن نسبة موضوع هذا العلم إلى موضوعات سائر العلوم نسبة الكلي إلى أفراده، فتكون موضوعات العلوم من مصاديق هذا العلم؛ ولهذا استحق بأن يكون له الرياسة المطلقة على سائر العلوم، ويُسمَّى بالعلم الأعلى، والفلسفة الأولى. وأما وجه تسميته بالعلم الأعلى فهو لتقدُّم موضوعه على موضوعات كل العلوم، وبالفلسفة الأولى فلتقدُّم مرتبته على مراتب سائر العلوم بتقدُّم موضوعه.»

والحكمة الإلهية علم يُبحث فيه عن أحوال الموجود، بما هو موجود؛ أي من حيثُ هو موجود، بمعنى تلك الأحوال العامة المشتركة بينه وبين الموجودات الأخرى، وليس الأحوال الخاصة بهذا الموجود دون سواه.

والموجود أمرٌ بديهي، والموجودات هي: أنا، أنت، السماء، الواجب تعالى؛ ففي الحكمة الإلهية نبحث عن أحوال الموجود، المقيَّدة بهذا القيد — المذكور في التعريف — من حيثُ هو موجود. وهذا يشير إلى أن للموجود نوعَين من الأحوال فتارةً تكون أحواله من حيثُ هو موجودٌ عامٌّ مطلَق، وتارةً أخرى ليس من حيثُ هو موجودٌ مطلَق، بل من حيثُ هو موجودٌ خاص، بمعنى أنه لو أخذتُ هذا الكتاب فتارة أبحثُ عن أحواله من حيثُ هو موجودٌ يشترك مع غيره من الموجودات، وأخرى عن أحواله من حيث هو كتابٌ خاص؛ أي بما أنه مؤلَّف من ورق، وأنه مطبوع، وأن لون حبر الطباعة أسود، وأن وزنه وحجمه كذا، بينما لو لاحظنا هذا الكتاب من حيثُ هو موجودٌ مطلق، للاحظنا الحيثية التي يشترك فيها مع بقيَّة الموجودات، والتي هي حيثية الموجودية؛ فكما أن هذا الكتاب موجود كذلك القلم موجود والإنسان موجود والسماء موجودة والواجب تعالى موجود.

فإذا بحثنا عن أحواله من حيثُ هو موجود، باعتبار الحيثية المشتركة — وهي الوجود — بينه وبين كل موجود وما يعود إلى حيثية الوجود، كالخارجية، والشيئية، وغيرهما، التي يشترك فيها الكتاب مع كل موجودٍ خارجي وكل شيءٍ موجود، فيكون البحث من هذه الجهة بحثًا فلسفيًّا. مثلًا نبحث في هل هذا الكتاب حادث أم قديم، واجب أم ممكن، وغير ذلك؟ فهذا بحث عن أحواله المشتركة مع كل الموجودات الأخرى، ولا ينفرد بها بوجوده الخاص ككتاب.

وقد قال صاحب التحصيل: «الموجود بما هو موجود، أعني الوجود، فإن الموجود بما هو موجود ليس إلا الوجود»، بمعنى ليس إلَّا الوجود المطلَق دون أي قيد أو شرط، والحكمة الإلهية تبحث عن الموجود المطلَق. أما غيرها من العلوم الجزئية فإن كلًّا منها وإن كان يبحث أيضًا عن موجود، لكنه لا يبحث عنه من حيث هو موجودٌ مطلَق، الموجود بما هو موجود، وإنما يبحث عنه بما هو جسمٌ أو كَمٌّ أو غير ذلك.

المطلب الثاني: موضوع الحكمة الإلهية

قبل بيان الموضوع نذكر مسألتَين، ليتضحَ موضوع الحكمة الإلهية، وهما:

المسألة الأولى: المقصود بموضوع العلم

لنأخذ أي علم كالمنطق أو النحو؛ فما هو موضوع علم النحو؟ إن موضوعه هو الكلمة، والبحث النحوي يُعنى بحالة آخر حرفٍ من الكلمة.

وهنا نتساءل كيف اكتشفنا أنَّ موضوع علم النحو هو الكلمة؟ والجواب لو راجعنا مسائل علم النحو، من قبيل: الفاعل مرفوع، المفعول منصوب، الاسم كلمة، الحرف كلمة، الفعل كلمة … إلخ، فكل واحدة من هذه المسائل هي عبارةٌ عن قضيةٍ منطقيةٍ تشتمل على موضوع ومحمول. وإن هذه الموضوعات بمجموعها لو لاحظناها لوجدناها مصاديقَ لمعنًى واحد. يُوجِد مفهومًا كليًّا ينطبق عليها جميعًا؛ فعندما نقول: الفاعل مرفوع، ينطبق على الموضوع أي الفاعل أنه كلمة، فالفاعل مصداقٌ للكلمة. وقولنا: المفعول منصوب، كذلك ينطبق عليه أنه كلمة؛ لأنه مصداقٌ للكلمة. وهكذا عندما نقول: الحال منصوب، فالحال «موضوع» وينطبق عليه أيضًا أنه كلمة؛ لأنه مصداقٌ لها.

وعليه فإننا نرى أن موضوعات مسائل علم النحو هي مصاديقُ لمفهوم الكلمة، بمعنى أنَّ مفهوم الكلمة ينطبق على موضوعات مسائل علم النحو بأجمعها. من هنا يتضح أن موضوع علم النحو هو الكلمة؛ لأنها تمثِّل المفهوم الكلي الذي تكون تمام الموضوعات في مسائل علم النحو مصاديقَ له.

لكن البحث في موضوع علم النحو — وهو الكلمة — إنما يدور حول الأعراض التي تحمل على الكلمة؛ أي البحث عن الأعراض أو عن المحمولات أو قُل عن أحوال الكلمة.

المسألة الثانية: ما يعرض على الشيء

ينقسم ما يعرض ويحمل على الشيء إلى ما يلي:

  • (١)

    ما يعرض من دون واسطة في العروض؛ أي عارض لنفس الشيء وليس هناك واسطة في العروض ولا في الثبوت، وهو إما أن يكون أعم، كالحيوان العارض للناطق، وأخرى يكون مساويًا كالتعجُّب العارض للإنسان، وثالثة يكون أخص، كالناطق العارض للحيوان.

  • (٢)

    ما يعرض مع الواسطة في العروض؛ أي إنه لا يكون العارض عارضًا للشيء حقيقة، بل يكون عارضًا لغيره، وإنما يُنسب إليه تجوزًا، مثل الجري العارض للميزاب، فإنه يُنسب للميزاب بالعرض والمجاز، لعلاقة بينه وبين الماء.

  • (٣)

    ما يعرض مع الواسطة في الثبوت، وهذه الواسطة تارةً تكون داخلية، وأخرى تكون خارجية.

والداخلية مرة تكون مساوية، كالتكلم يعرض على الإنسان بواسطة جزء الإنسان الداخلي المساوي له وهو الناطق، وأخرى تكون أعم، كالمشي يعرض على الإنسان بواسطة جزء الإنسان الداخلي الأعم وهو الحيوان.

والخارجية إما أن تكون أخص، كالضحك يعرض للحيوان بواسطة التعجب، والتعجُّب أخص؛ لأن الإنسان فقط يتعجب من أنواع الحيوان.

وإما أن تكون مساوية، كالضحك يعرض على الإنسان بواسطة التعجب؛ فإن من يتعجَّب يضحك، والتعجُّب أمرٌ خارجي، وهو مساوٍ للإنسان.

وإما أن تكون أعم، كالتحيُّز يعرض للأبيض بواسطة الجسم الأعم منه؛ لأن الجسم متحيز. وإما أن تكون الواسطة في الثبوت الخارجية مباينة، كالحرارة تعرض للماء بواسطة النار، والنار أمرٌ مباينٌ للماء.

كذلك تنقسم الأعراض بتقسيمٍ آخر إلى:

  • (١)

    الأعراض الذاتية: وقد ذهب جماعة إلى أنها ما يعرض على الشيء بلا واسطة، وما يعرض بواسطة أمرٍ داخلي أو خارجي مساوٍ.

  • (٢)

    الأعراض الغريبة: وهي — كما ذهب جماعة — ما يعرض بواسطة أمرٍ خارجي أعم أو أخص أو مباين، مضافًا إلى ما يعرض مع الواسطة في العروض.

وقد قيل في تعريف العرض الذاتي، كما ذكَر ذلك الخواجة نصير الدين الطوسي:٢ «هو أن يُقال ما يُؤخذ في حدَّ الموضوع أو يُؤخذ الموضوع في حدِّه».

وقيل هو ما يعرض ذات الشيء حقيقة من الأحكام والخواص والآثار. وقد اختلفوا في معيار تمييز العرض الذاتي عن العرض الغريب، وذكرت شتَّى الأقوال في ذلك.

وقد ذكر المصنف في حاشيته على الأسفار الأربعة.٣ إن العرض الذاتي ما يعرض الشيء لذاته فقط، ويتميز بأخذه في حده، كأخذ الإنسان في حد المتعجب، وأخذ الإنسان المتعجب في حد الضاحك، لكن يجب أن يتنبه إلى أن القضية ربما انعكسَت أو استُعملَت منعكسة؛ ولذلك كان من اللازم أن يُقال: إن المحمول الذاتي ما يُؤخذ في حدِّه الموضوع، أو يُؤخذ هو في حدِّ الموضوع؛ فالأول كما في قولنا: الموجود ينقسم إلى واحد وكثير، والثاني كما في قولنا: «الواجب موجود».

ما هو موضوع كل علم؟

إن موضوع كل علم هو «ما يُبحث فيه عن أعراضه الذاتية»؛ فمثلًا موضوع الفلسفة أو موضوع علم النحو. هو الذي يُبحث فيه عن أعراضه الذاتية «المحمولات الذاتية لهذا الموضوع». وإذا قيل بأن موضوع الفلسفة الإلهية هو «الموجود بما هو موجود»؛ فالموضوع، هو الموجود لا المعدوم، وإذا بُحثَت مسائل وأحكام العدم فإنها تُبحث استطرادًا؛ لأن البحث في الحكمة الإلهية حول الموجود بما هو موجود. وهذا يعني أن البحث يكون من جهة الحيثيات والخصوصيات العامة وليس الأحوال الخاصة، فالبحث في الحكمة الإلهية في الموجود، كمثال الكتاب الذي مرَّ سابقًا، وللتمييز بين موضوع الحكمة الإلهية وموضوعات سائر العلوم الأخرى نذكُر مثالًا، فلو لاحظنا الطير، فالبحث في أحواله يمكن أن يكون بنحوَين:

تارةً يكون البحث في الأعضاء المكوِّنة لهذا الطير، عضوًا، عضوًا، كالعين تشرَّح ويُؤخذ تكوينها الأساسي من أجزائها وهكذا، أو نأخذ الجناح أو الرأس ونبحث أجزاءه بالتفصيل. هذا نحوٌ من البحث، لكنه ليس بحثًا فلسفيًّا بل هو بحثٌ علمي.

وتارةً يكون محور البحث هو هذا الجسم، لكن نأخذه ككل، باعتباره أمرًا واحدًا عامًّا بقطع النظر عن أجزائه، ونلاحظ حيثياته المشتركة مع بقية الموجودات، فنقول: كل موجود لا يخرج عن أن يكون إما حادثًا او قديمًا، فهل هذا الجسم حادث أو قديم؟ والجواب أنه حادث، فهذا البحث يكون بحثًا فلسفيًّا؛ لأن البحث هنا عن أحوال الجسم العامة التي يشترك بها مع بقيَّة الموجودات أي من حيثُ هو موجود؛ فعندما نبحث عن الموجود وأحواله من حيثُ هو موجودٌ عامٌّ يشترك مع الموجودات الأخرى في بعض الأحوال والأحكام يكون بحثنا فلسفيًّا.

وبذلك يمتاز موضوع الحكمة الإلهية عن بقية موضوعات العلوم؛ لأن بقيَّة موضوعات العلوم يكون البحث فيها عن الموجود لكن لا بما هو موجود، بل بما هو موجودٌ خاص؛ فمثلًا في الطبيعيات نبحث عن الموجود بما هو جسم، لا بما هو عام مطلَق، وفي الرياضيات نبحث عن الموجود بما هو عدد، وليس بما هو موجود عام مطلَق، بينما في الحكمة الإلهية نبحث عن الموجود وعوارضه ومحمولاته وأحكامه من حيثُ هو موجود؛ أي بما يشترك به مع بقيَّة الموجودات.

فالحكمة الإلهية بتعبير المصنِّف تعرِّفنا على أحوال الموجود، بما هو موجود، الخاصة به. وهو لا يريد بالخاصة هنا بمعنى إحدى الكليات الخمسة؛ لأن الوجود لا خاصة له، وإنما يقصد بخواصِّ الوجود عوارضَه التحليلية، التي هي عين الوجود خارجًا وغيره مفهومًا، كالأصالة والتشكيك، والشيئية، والوجوب والإمكان، والوحدة والكثرة، والقدم والحدوث، والعلِّيَّة، والتجرد، والمادية … وغيرها.

المطلب الثالث: ما الغاية من دراستنا للحكمة الإلهية؟

تترتَّب على دراستنا للحكمة الإلهية جملة غايات، ذكر المصنِّف منها هنا اثنتَين فقط، هما:

الغاية الأولى

تمييز الموجودات الحقيقية عن غير الحقيقية؛ أي تمييز الموجودات الحقيقية عن الموجودات الاعتبارية والوهمية. ونشير مقدمًا لما هو المقصود بالحقيقي والاعتباري والوهمي؛ فإن المدركات في عقولنا على ثلاثة أقسام؛ حقائق، واعتباريات، ووهميات.

أما الحقائق، فهي تلك المفاهيم والمعاني التي لها مصاديقُ واقعيَّة، مثل المفاهيم الموجودة في ذهننا ولها مصاديق في الخارج، كالكتاب، القلم، السماء، الأرض، الغرفة، الشجر … إلخ.

وأما الاعتباريات، فهي مفاهيمُ ومعانٍ ليس لها مصاديقُ واقعيَّة في الخارج، ولكن العقل يعتبر وينتزع لها مصاديق.

وليتضحَ الفرقُ بين المدركات الحقيقية والاعتبارية نذكُر مثالًا، إذا رأينا سربًا من الطيور، فتارةً نلاحظ السرب فردًا فردًا، فلكل طيرٍ واحدٍ صورة في ذهننا، وكل صورةٍ ومفهومٍ ذهني لها مطابقٌ ومصداقٌ واقعي في الخارج؛ فإدراكنا للأفراد إدراك حقيقي.

وتارةً نلاحظ هذا السرب كمجموع؛ أي كل الألف طير، لا الأفراد فردًا فردًا بل السرب من حيثُ هو مجموعةٌ واحدة، فإن هذا المركب «السرب» هل له وجودٌ حقيقي وراء وجود الأفراد؟ فلو تفرَّقَت الطيور، فهل يبقى وجودٌ حقيقي للسرب، أم أنه ينعدم بعد تفرُّق الأفراد؟ لا بد أنه ينعدم؛ إذن فوجود السرب وجودٌ غير حقيقي، وإنما الوجود الحقيقي للأفراد.

فإدراكنا للأفراد إدراكٌ حقيقي؛ لأن له مصداقًا واقعيًّا خارجيًّا، أما إدراكنا للسرب فهو إدراكٌ اعتباري؛ لأن المجموع من حيثُ هو مجموع لا مصداق له في الخارج وراء الأفراد؛ ولذلك لو وصلَت الطيور إلى مثابتها لا يبقى مصداقٌ في الواقع للسرب، بل مصداقُ الأفراد يبقى فقط؛ فالذي له تحقُّق في الخارج هو كل فرد من الأفراد لا المجموع بما هو مجموع.

والنوع الثالث من الإدراك الذهني، هو المفاهيم أو الإدراكات الوهمية، وهي التي لا مصداقَ لها في الخارج إطلاقًا، وهي أمورٌ موهومة، باطلةٌ من أساسها، كما نتصوَّر مثلًا، العنقاء والغول أو الفينيق أو غيرها من الكائنات الخرافية.

من هنا يتضح الفرق بين الاعتباريات والوهميات؛ إذ الاعتباري هو ما لا مصداق حقيقيًّا له، غير أن العقل يعتبر ما ليس مصداقًا له مصداقًا، أما الوهمي فهو ما لا مصداق له أصلًا، لا حقيقة، ولا في اعتبار العقل، كالغول والبخت.

والوظيفة الأساسية للفلسفة الإلهية هي أنها تُميز لنا بين الأمور الحقيقية والاعتبارية والوهمية. ولهذا أهميةٌ كبيرة في المعرفة البشرية؛ لأن النقطة الأولى في المعرفة البشرية تنطلق من هنا؛ حيثُ إن المشكلة الأساسية في المعرفة البشرية هي كثرة الأخطاء التي يرتكبها الإنسان في تمييز ما هو حقيقي عن غيره؛ لأنَّه أحيانًا يعتبر بعض القضايا الوهمية حقيقية وبالعكس.

ألم يعتقد بعضُ الناس بأمورٍ خرافية لا واقع ولا وجود لها ويعتبرها أمورًا واقعية، فتظل تُعيق التفكير البشري من بلوغ الكمال؟ ومن المعلوم أن تطوُّر العلوم يحصل بانحسار وتلاشي الأخطاء والمفاهيم الموهومة في معتقدات العلماء؛ فإنه عندما يكتشف بطلان المعتقدات الخطأ يتطوَّر العلم وتتكامل المعرفة البشرية؛ فمثلًا في اليونان القديمة كانوا يعتقدون بأن الأرض هي مركز الكون، وهذا إدراكٌ خطأ، ثم فيما بعدُ أثبت العلماء بأن الأرض ليست هي مركز الكون، بل هي أحد الكواكب السيارة التابعة للشمس؛ فالتطور في حقول المعرفة البشرية، إنما يتم بانحسار دائرة الموهومات واتساع دائرة الأمور الحقيقية والواقعية، ووظيفة الحكمة الإلهية هي تمييز الأمور الحقيقية عن غير الحقيقية.

لكن معرفة وتمييز الموجودات والأمور الواقعية إنما يكون على وجهٍ كلي؛ لأن البحث عن الجزئيات خارجٌ عن وسعنا، على أن البرهان لا يجري في الجزئي بما هو متغيرٌ زائل، وطريق البحث في الحكمة الإلهية منحصر في البرهان، حسبما أفاده الطباطبائي في نهاية الحكمة.

الغاية الثانية

هي إثبات العلة الأولى؛ فالحكمة الإلهية تسلِّحنا برؤيةٍ كونيةٍ توحيدية؛ ففي هذا الكتاب بعد دراسة إحدى عشرة مرحلة سنصل إلى مباحث الإلهيات بالمعنى الأخص، وستُبرهن الفلسفة الإلهية على وجود الله تعالى وصفاته.

أي إن البحث في الحكمة الإلهية يقودنا نحو الإيمان بالله تعالى، ويحدِّد لنا رؤيةً كونيةً توحيدية، ويحدِّد لنا موقع وجود الإنسان في عوالم الوجود؛ فهذا الوجود منظَّم بدقة وبإحكام «ربنا الذي أعطى كل شي‏ء خلقه ثم هدى»، «صنع الله الذي أتقن كل شي‏ء»، فكل كائنٍ موجود له موقعٌ طبيعي يحتله في سلم الموجودات، والفلسفة الإلهية تحدِّد لنا الموقع الذي يحتلُّه الإنسان من هذا العالم، والسلسلة التي تربط الموجودات في هذا النظام؛ فالعالم محكوم بقانون العلِّية وتنتهي به الأسباب والعِلَل إليه تعالى.

وقد لخص المصنِّف الغاية للحكمة الإلهية بأنها تعرِّفنا العِلَل العالية للوجود، وبالأخص العلة الأولى التي إليها تنتهي سلسلة الموجودات، وأسماؤه الحسنى، وصفاته العليا، وهو الله عزَّ اسمه.

وقد ذكر المدرس الزنوزي ما مضمونه:٤ أن الفرق بين الاسم والصفة إنما يكون باختلاف الاعتبار، كالفرق بين العرض والعرضي، والصورة والفصل، والمادة والجنس؛ فإن كل معنًى ناعت إذا لوحظ بشرط لا عُدَّ صفة، وإذا لوحظ لا بشرط عُدَّ اسمًا. ويعبِّر عن الأول بلفظ المبدأ وعن الثاني بلفظ المشتَق. فالعلم صفة، والعالم اسم. وكذا القدرة والقادر، وغيرهما. وفي معناه ما في تمهيد القواعد، ص١١٩.
١  «درر الفوائد»، ج٢، ص١٢٦.
٢  «شرح الإشارات والتنبيهات»، ج١، ص٦١.
٣  «الأسفار الأربعة»، ج١، ص٣١.
٤  «اللمعات الإلهية»، ص٢٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥