مقدمة
هذا المبحث والمباحث التي تليه من أهم مباحث الكتاب. وأول من أدخل مباحث الحركة في القوة والفعل هو صدر المتألهين؛ حيثُ كان المشَّاءون يبحثون ذلك في مباحث الجسم في الطبيعيات. وقبل أن يدخل المصنِّف في المبحث بيَّن أن هذا المبحث من مباحث الفلسفة الإلهية، أو مباحث الإلهيات بالمعنى الأعم، أو الحكمة الإلهية.
معنى القوة
القوة في اللغة العربية تعني القدرة؛ حيثُ يُقال فلانٌ قويٌّ جسميًّا أو ماليًّا؛ أي لديه قدرة. والمعاني الاصطلاحية اشتُقَّت من هذا المعنى؛ لأن المعاني الاصطلاحية تُشتق عادةً من المعاني اللغوية، هي الجذر للمعاني الاصطلاحية.
القوة في الاصطلاح الفلسفي، تستعمل في عدة معانٍ:
-
(١)
قوة الفاعل الذي يكون منشَأ لصدور الفعل؛ أي كون الفاعل قادرًا على القيام بالفعل قبل القيام به، كمن يريد رفع «١٠٠كغم» فلا بد لديه من قوة؛ أي قدرة للقيام بذلك.
وهذا المعنى ليس هو المراد في هذه المرحلة.
-
(٢)
هو استعداد المادة للانفعال؛ أي استعداد المادة لتقبُّل الصورة، كالورقة فإنها مستعدة لتقبُّل صورة الرماد.
فالقوة بالمعنى الأول: هي القوة الفاعلية، وبالمعنى الثاني: هي القوة الانفعالية؛ أي استعداد المادة وانفعالها؛ فلكي تقبل المادة صورةً جديدة لا بد أن يكون لديها استعدادٌ لقبول الصورة الجديدة. والمقصود بالقوة في هذا المبحث هو هذا المعنى.
-
(٣)
هي المقاومة في مقابل العوامل الخارجية، كما نقول: هذا بدنٌ قوي؛ أي مقاومٌ للأمراض.
وفي مقابل ذلك اللاقوة؛ أي بدنٌ غير مقاوم للأمراض، فهنا القوة كيفية استعدادية؛ فالقوة واللاقوة بمعنى المقاومة واللامقاومة، وهي لون من ألوان الكيف الاستعدادي.
معنى الفعل
المقصود بالفعل هو كون الشيء موجودًا في الأعيان وتترتَّب عليه الآثار المطلوبة منه، كما تقول: هذه نارٌ بالفعل، فإنه يترتَّب عليها الأثر المطلوب منها وهو الإحراق. وكما نقول: هذه ورقة بالفعل، فيترتَّب عليها آثارها، ومن آثارها أن نكتُب عليها.
مجال ما بالقوة وما بالفعل
مصطلح «بالفعل» يُستعمل استعمالًا أوسع من مصطلح «بالقوة»؛ فمصطلح القوة حدوده عالم المادة؛ لأنه الاستعداد والانفعال فيها، بينما مصطلح الفعل أو ما بالفعل أوسع من عالم المادة؛ أي يشمل المادة وغير المادة؛ إذ تُوجَد موجودات لا تلابسها القوة وإنما هي فعليةٌ محضة، وهي الموجودات المجرَّدة من المادة في العوالم الأخرى؛ فإنها إذا كانت مجردة من المادة تكون مجردة من القوة؛ ولذلك فهي فعليةٌ محضة.
القوة والفعل من مباحث الحكمة الإلهية
لماذا يُبحث هذا الموضوع في الحكمة الإلهية؟
الجواب: إن ما بالفعل وما بالقوة هو تقسيم للموجود؛ فالموجود كما ينقسم إلى: ذهني وخارجي، وإلى: واحد وكثير، كذلك ينقسم إلى: ما بالفعل وما بالقوة، فكل موجود بما هو موجود ينقسم إلى ذلك.
والموجود بالفعل يشمل الماديات والمجرَّدات، بينما الموجود بالقوة دائرته عالم المادة فقط.
وكل موجودٍ مادي بالخارج إذا نظرنا إليه بحيثيتَين أو من زاويتَين فهو موجود بالقوة وبالفعل؛ فالبيضة هي موجودٌ بالقوة كدجاجة؛ أي فيها قوة واستعداد لتصبح دجاجة، وهي موجودة بالفعل كبيضة.
فهذا تقسيمٌ عام للموجود من حيثُ هو موجود، كما نقسِّم الموجود إلى: العلة والمعلول، والمجرَّد والمادي، كذلك هنا نقسِّمه إلى: ما بالفعل وما بالقوة.
أنحاء التقسيم
إن التقسيم تارةً يكون بإضافة مفهومَين أو أكثر ذاتيَّين غير نسبيَّين إلى المَقْسَم؛ وبالتالي فلا يحصل تداخُل في الأقسام، كما نقول الموجود ينقسم إلى: مجرَّد ومادي؛ فالمجرد مجرد بذاته بقطع النظر عن المادي، والمادي مادي بذاته بقطع النظر عن المجرد؛ أي لا يمكن بأي لحاظ أن يُعتبر الموجود المادي مجردًا أو بالعكس.
هذا نحوٌ من التقسيم، والنحو الآخر يكون فيه التقسيم بإضافة مفهومَين أو أكثر إلى المَقْسَم، ولكنَّ هذَين المفهومَين بالمقارنة والقياس؛ أي إنها مفاهيمُ نسبية؛ فربما تدخل هذه الأقسام من حيثيةٍ ما في الأقسام الأخرى، كما في تقسيم الموجود إلى: العلة والمعلول، فالتقسيم هنا نسبي، إذ المعلول بالإضافة إلى العلة يكون معلولًا، وإلَّا فإنه نفسه بالإضافة إلى معلولٍ ما يكون علة. كذلك تقسيم الموجود إلى: ذهني وخارجي؛ فصورة الكتاب إذا لاحظناها في الذهن هي موجودٌ ذهني، ونفس الصورة إذا لاحظناها بما هي موجودٌ حقيقي لا اعتباري؛ أي إذا لاحظناها بحيث تترتَّب عليها آثار، وهي أنها تطرد العدم، عدم الصورة، تكون نفسها موجودًا خارجيًّا لا ذهنيًّا بهذا اللحاظ.
كذلك تقسيم الموجود إلى ما بالفعل وما بالقوة فإنه من هذا القبيل؛ لأن الموجود بالقوة يكون بالقوة بالنسبة للفعلية التي يكون واجدًا لها.
لاحظ — مثلًا — البيضة الموجودة في الخارج والمترتبة عليها آثار البيضة، فإنها بيضة بالفعل، وهي نفسها من حيثيةٍ أخرى تكون بالقوة؛ أي إن فيها استعدادًا لتقبُّل صورة الدجاجة؛ فهي بيضة بالفعل ودجاجة بالقوة؛ فالفعل والقوة ليسا من المفاهيم النفسية بل هما مفهومان نسبيَّان.
الفعلية تساوق الوجود
إن الفعلية تساوق الوجود؛ فكل موجود يكون منشَأ لترتُّب الأثر المطلوب منه؛ أي إن تقسيم الموجود إلى ما بالفعل وما بالقوة يشبه تقسيم الموجود إلى خارجي وذهني، وإن كان كل موجود هو خارجي، حتى الذهني بلحاظ ما يترتَّب عليه من أثر هو خارجي، كذلك كل موجود حتى ما بالقوة هو موجودٌ فعلي، وذلك لترتُّب أثرٍ عليه، وهو أنه مستعدٌّ لقَبول الصور الأخرى.
ويُوجد رأيٌ آخر وهو: أن تقسيم الموجود إلى ما بالفعل وما بالقوة ليس من قبيل تقسيم الموجود إلى الخارجي والذهني، بل من قبيل تقسيم الموجود إلى العلة والمعلول، فمثلما أن في العلة والمعلول هناك موجودًا يكون علةً لا معلولًا لشيء، وهو الواجب تعالى، وهناك موجود يكون معلولًا وليس بعلة لشيء، بينما سائر الموجودات الممكنة علَّة ومعلول، بحسب الجهة، ففي الفلسفة الأرسطية يُقال كذلك؛ أي إن هناك موجودًا بالقوة فقط، وآخر بالفعل فقط، وبينهما موجوداتٌ امتزجَت فيها القوة والفعل؛ فالهيولى الأولى قوة فقط بلا فعل، والمجردات من المادة هي فعل بلا قوة.
ولكن بناءً على أن الفعلية تساوق الوجود، فلا بد أن تكون حتى الهيولى الأولى ذات فعلية، وفعليتها هي استعدادها لقبول الصور. وبالتالي فتقسيم الموجود إلى ما بالقوة وما بالفعل هو كمثل تقسيم الموجود إلى: الخارجي والذهني.