نشأة الفلسفة
دأب قطاعٌ واسع من مؤرِّخي الفلسفة على اختزال تأريخ الفلسفة الممتد عبْر الزمان والمكان باليونان فقط، واعتبَروا المنحى العقلي في الحضارة اليونانية هو بداية الوعي العقلي المنتظِم في حياة الإنسان، وصار هذا الوعي مُعبرًا عن البادرة الأولى للمعرفة الفلسفية في التاريخ حسب زعمهم.
بَيْد أن الإرث العقلي الذي عثَر عليه خبراء الآثار في بقايا تراث وادي الرافدَين، ووادي النيل، والصين، والهند، وغيرها من الأمم القديمة، برهَن بشكلٍ واضح على حضور الوعي الفلسفي، فيما تمَّ تفسيرُه من الكتابات على الألواح الطينية الكثيرة التي وصلَتْنا من تراث هذه الأمم؛ فمثلًا عثَر المنقِّبون في وادي الرافدَين على أكثر من مليون لَوحٍ طيني ترقد تحت طبقات الأرض، من بقايا الحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية، نهَبَت مُعظمَها البعثاثُ الأثرية الغربية، ووزَّعَتْها كغنائم على متاحف أوروبا وأمريكا.
المصطلح المقابل لكلمة الفلسفة عند الأمم الأخرى
إن اصطلاح الفلسفة لا خلاف في أنه جاء من اللغة اليونانية، أما المعنى المُستخدَم فيه هذا المصطلح، فنجد ما يوازيه ماثلًا عند الأمم الأخرى، مثل «نيميقي» عند البابليين، «سوفيا» عند المصريين، «جنيانا» عند الهنود. وقد أدرك بعض الفلاسفة هذه المسألة في وقتٍ مبكِّر، فأوضح الفارابي المتوفَّى سنة ٣٢٩ﻫ «أن هذا العلم — ويعني به الفلسفة — على ما يُقال: إنه كان في القديم في الكلدانيين وهم أهل العراق، ثم صار إلى أهل مصر، ثم انتقل إلى اليونانيين.» وتحدَّث ابن سينا عن منطق المشرقيين والحكمة المشرقية أيضًا، في كتابه «منطق المشرقيين» لكنه لم يُكْمل هذا الكتاب، فضاعت تفاصيل ربما كانت من الأهمية بمكان في تاريخ الحكمة الشرقية، فيما لم يصِلنا من حكمة المشرقيين لابن سينا. كذلك أكَّد شيخ الإشراق السهرَوَردي على تأثير حكمة المشرقيين في الفلسفة اليونانية، طبقًا لما حكاه صدر المتألهين الشيرازي عنه.
أين ظهر التفكير الفلسفي؟
يمكن القول إن التفكير الفلسفي لا تتحدد نشأته بعِرقٍ أو جنسٍ خاص من بني الإنسان، أو بقعةٍ جغرافيةٍ محددة، وإنما هو ماثلٌ في كل مكان وحاضرٌ في حياة جميع الشعوب؛ فهو موجود في كل زمانٍ ومكانٍ حيثما كان الإنسان وعاش في مجتمع، بل نستطيع أن نؤكد أن هذا التفكير لا ينفكُّ عن الكائن العاقل، حتى على فرض عيش الإنسان وحيدًا في جزيرة، كما دلَّل على ذلك الفيلسوف المسلم ابن طفيل المتوفَّى سنة ٥٨١ﻫ في «حي بن يقظان»؛ ذلك لأن هذا التفكير إنما هو مظهرٌ لنزوع العقل البشري لتفسير الواقع المحيط به، والتعرف على أسراره، واكتشاف موقعه ومبدئه ومصيره كجزء من هذا الواقع، وتحديد وظيفته في ضوء هذه الرؤية.
التاريخ الصحيح للفلسفة
إن التاريخ الصحيح للوعي الفلسفي يبدأ مع ظهور الكائن البشري العاقل على الأرض؛ لأن هذا الكائن منذ تجربته الأولى في الحياة واستثمار الطبيعة، ما انفكَّ يثير السؤال تِلْو السؤال عن مبدئه ومصيره وحقيقته، وحقيقة العالم المحيط به. وعلى هذا لا تتصف بالصواب أية محاولة تسعى لحذف دور البشرية بمجموعها في بناء الفكر الفلسفي، وربطه ببيئةٍ ومحيطٍ خاص، مثلما فعل معظم مؤرِّخي الفلسفة حين اختصروا تاريخ الحياة العقلية للإنسان بالفلسفة اليونانية، فيما تجاهلوا ما سواها، وبكلمةٍ أخرى جرى تزويرٌ لتاريخ الفلسفة، حين وقف عددٌ كبير من هؤلاء المؤرخين موقف الإهمال حيال التجربة العقلية الواسعة خارج إطار البيئة الأوروبية، فتغافَلوا عن المصادر غير المعلَنة للوعي الأوروبي، ولم يعلنوا عن جذور هذا الوعي وروافده، واعتُبِرَ الإنسان الغربي رائدًا لأول تجربةٍ عقليةٍ في التاريخ. بينما لو حاولنا أن نقرأ تاريخ الوعي الفلسفي في حياة الإنسان، عبْر تفكيك مكوِّنات الفكر اليوناني وتحليلها، ثم إحالة كل عنصرٍ منها إلى الروافد الأصيلة التي استقَى منها، لرأينا أن ما لدى اليونان ما هو إلا ميراثٌ يأتلف من عناصرَ متنوِّعة راكمَتْه إنجازاتُ حضاراتٍ سالفة ممتدة في أعماق الزمان.
منابع الفلسفة اليونانية
امتصَّت الفلسفة اليونانية مادةً أساسية من العناصر المقوِّمة لها، مما أنجزَتْه الحضارات الأخرى خارج الفضاء الأوروبي، مضافًا إلى ما أنجزته البيئة المحلية الخاصة بها، فعملَت على مزجه وهضمه وتمثُّله، ثم أعادت إنتاجه في إطار المحيط اليوناني الخاص وما يتوالد فيه من سجالاتٍ ومعاركَ عقليةٍ عارمة.
صحيحٌ أن للمحيط اليوناني أثرًا بالغًا في تخصيب مضمون الفلسفة اليونانية، وتغذيتها بالوقود اللازم للإشعاع والتوهُّج بعيدًا عن المركز مكانيًّا وزمانيًّا، لكن ذلك ما كان يتحقق لولا اقتباسُ خاماتٍ معرفية من حضاراتٍ ازدهرَت في قارة آسيا قبل ذلك بقرونٍ عديدة؛ ذلك أن الشرقَ مهدُ النبوات والحضارات، كما تقول لنا الكتب المقدسة والوثائق التاريخية، والفلسفة اليونانية لم تكن مقطوعةَ الصلة عما يدور في وادي النيل وآسيا الصغرى، التي كانت بدورها على اتصالٍ جغرافي وتاريخي من جهة الشرق بحضاراتِ ما بين النهرَين وغيرها. وإنه لا يمكن اكتشاف حجم إبداع اليونانيين إلا بمعرفة المصادر الشرقية للمعارف اليونانية، وقد أدرك بعض الباحثين هذه الحقيقة فصرَّح شارل فرنر مثلًا: «إن الفلسفة اليونانية إنما نشأَت من تماسِّ اليونان بالشرق.»
الفلسفة اليونانية تلتهم التراث الشرقي
نستطيع أن نؤكد أن الإنجاز المعرفي الأوروبي ما كان يتم لولا ما استعارته أوروبا من الشرق؛ فإن اللحظة الفاصلة في تاريخ أوروبا القديم هي ظهور الفلسفة اليونانية، وقد لاحظنا أن هذه الفلسفة إنما أثمرَت معطياتها المعرفية بالمزاوجة بين ما وصلَها من الشرق، وما أتاحته البيئة اليونانية من حيويةٍ عقلية. وهكذا كانت اللحظة الثانية في تاريخ أوروبا الحديثة؛ فإن اتصال أوروبا بالشرق من جديد، عبْر الأندلس والحروب الصليبية، مكَّنها من القيام بترحيلٍ معرفيٍّ واسع لمعطيات الحضارة الإسلامية، التي أفادت منها في تأسيس نهضتها الحديثة.
وبذلك أضحت روحُ الشرق وميراثه المعرفي هي المادة الخام التي وظَّفها الإنسان الغربي في لحظتَين تاريخيتَين، زحف عبْر الأولى بفلسفته نحو آسيا والشرق من خلال مدرسة الإسكندرية، فاخترقَت هذه الفلسفة أحقاب الزمان، وأكَّدَت حضورها الأبدي في تراث المعقول عند الإسلاميين في العصور اللاحقة. فيما زحف عبْر اللحظة الثانية بأساطيله العسكرية على العالم الآخر في آسيا وأفريقيا والأمريكتَين، فانتهَب ثرواتها، وأباد جماعاتٍ من سكانها الأصليين، وفرض نمط حياته وثقافته على شعوبها.