الفصل الأول

الماهيَّة من حيث هي ليست إلَّا هي

البحث في المرحلة الخامسة في الماهية وأحكامها، وبحث الماهية إنما هو بتبع الوجود؛ لأن البحث في الفلسفة إنما هو في الوجود وأحواله، والماهيَّة موجودة بالوجود؛ لأنها موجودة بالعرض، والموجود بالذات هو الوجود.

أن الماهيَّة من حيثُ هي ليست إلَّا هي

بيان ذلك فيما يلي:

  • أولًا: الماهية مرَّةً تكون ماهية بالمعنى الأعم ومرةً بالمعنى الأخص، وهنا الحديث حول الماهيَّة بالمعنى الأخص، وهي ما يُقال في جواب ما هو؟ وليس ما يتحقق ويُوجد به الشي‏ء؛ أي ما به الشيء هو هو، وهو الماهيَّة بالمعنى الأعم.
  • ثانيًا: الماهية عادةً تقبل أوضاعًا متقابلة، نقول: «ماهية الإنسان موجودة» و«ماهية العنقاء معدومة»، وماهية الشمس واحدة، وماهية الإنسان كثيرة — من باب وجود الكلي الطبيعي في أفراده — وماهية الإنسان المطلَق كلية، وماهية الإنسان بشرط انضمامه إلى زيد جزئية، وكذلك يمكن القول: الإنسان بدين وضعيف، وطويل وقصير، وأبيض وأسود. فلمَّا كانت الماهيَّة تقبل هذه الصفات المتقابلة، فلا بد أن تكون هذه الصفات خارجة عن ذات الماهيَّة، وإلَّا لو كانت الصفات داخلة في ذات الماهية للزم من ذلك اجتماع النقيضَين؛ فالماهية من حيثُ هي ليست إلا هي، لا موجودة، لا معدومة، لا طويلة، لا قصيرة، لا سوداء، لا بيضاء … إلخ.

    وهذا هو المقصود بقول المصنف: النقيضان يرتفعان عن مرتبة ذات الماهية؛ فليس معنى هذا أن النقيضَين يرتفعان، بل النقيضان لا يرتفعان ببداهة العقل، وإنما المقصود أن الماهية لم يُؤخذ فيها الوجود ولم يُؤخذ فيها العدم؛ لأنه لو أخذ فيها الوجود أو العدم للزم من ذلك اجتماع النقيضَين.

    وإن كان في الواقع ونفس الأمر الماهية متلبِّسة بالوجود أو العدم، وعلى هذا الأساس فإنه في الواقع ونفس الأمر الماهيَّة إما موجودة أو معدومة، وإلا فلو كانت موجودة ومعدومة للزِم من ذلك اجتماع النقيضَين، أما لو كانت لا موجودة ولا معدومة للزِم ارتفاع النقيضَين.

    ولكن لو لاحظنا الماهية بقطع النظر عن الوجود والعدم وأي شي‏ءٍ آخر، فهي من حيثُ هي ليست إلَّا هي، فحتى عوارض الماهية غير مأخوذة فيها، كالإمكان العارض على الماهية اللازم لها، لكنه غير مأخوذ في الماهية. وهكذا الزوجية العارضة للأربعة، فإنه وإن كان وجود الأربعة لا ينفك عن الزوجية في الخارج، بحيث لو انتفت الزوجية انتفت الأربعة، ولكن ماهية الأربعة تتصور من دون أن تتصور الزوجية، من هنا يتضح أن الزوجية ليست ذاتيًّا للأربعة؛ أي إنها ليست جنسًا ولا فصلًا للأربعة، وإنما هي عرضٌ لازم ولكونه لازمًا لا يتصوَّر انفكاكه عن ملزومه عقلًا.

    مع العلم أن عوارض الماهية على قسمَين:

    • (أ) عوارض الماهية، وهي التي تعرضها من حيث هي هي.
    • (ب) عوارض الوجود، وهي التي تعرضها بلحاظ الوجود.
  • ثالثًا: أن الماهية نحمل عليها ذاتها بالحمل الأولي، ونسلب عنها لوازمها وكل شي‏ءٍ آخر بالحمل الأولي أيضًا. حيث نقول: الإنسانُ حيوانٌ ناطق، والإنسان ليس بحجر، كل ذلك بالحمل الأولي.

وهذا ما عبَّر عنه المصنف بقوله: «إن الماهية يُحمل عليها بالحمل الأولي نفسها، ويُسلب عنها بحسب هذا الحمل ما وراء ذلك.» وحمل نفسها عليها بمعنى حمل ذاتها وذاتياتها؛ لأن الذاتيات من الجنس والفصل كلٌّ منها عند المصنف نفس الماهية؛ ولذا تُحمل عليها، كما ستأتي الإشارة إليه في الفصل الرابع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥