في معنى الذاتي والعرضي
للذاتي إطلاقاتٌ متعددة، منها: ما يقابل العرض، وأعمُّ من تمام الماهية وجزئها، وهو المراد في انقسام الكليات الخمسة إلى ذاتي وعرضي.
ومنها ما يقابل العرضي وذا الذاتي، فيختص بأجزاء الماهية ولا يشمل تمامها وهو النوع.
والمعنى الأول هو الذاتي بالمعنى الأعم، والثاني هو الذاتي بالمعنى الأخص، وهو المراد هنا، بقرينة مقابلته لذي الذاتي كالعرضي.
ومن المعلوم أن ما يُحمل على الماهية إما ذاتي وإما عرضي. والذاتي هو الذي تنتفي الماهية بانتفائه؛ أي هو مقوِّم للماهية، كالناطقية بالنسبة للإنسانية؛ فعندما ينتفي الناطق ينتفي الإنسان.
أما العرضي، فهو ما لا تنتفي الماهية بانتفائه، وهو ينقسم إلى قسمَين؛ فتارةً يكون لازمًا، كلزوم الزوجية للأربعة، ولزوم الإمكان لماهية الإنسان، وأخرى يكون غير لازم.
كما أن المحمول تارةً يكون محمولًا بالضميمة، وأخرى لا يكون محمولًا بالضميمة، وهو ما يُسمى بخارج المحمول.
والمحمول بالضميمة، هو ما لا يُحمل على الماهية إلا إذا انضم أمرٌ آخر للماهيَّة، فعندما نقول: «زيد عالم»، ينضم العلم إلى زيد، أو «هذا الماء حار»، تنضم الحرارة إلى الماء، فهناك ضميمةٌ تنضم، حتى ننتزع الحار، ونحمله على الماء، فلا بد من انضمام الحرارة إلى الماء، أو العلم إلى زيد، حتى ننتزع العالم، ونحمله على زيد؛ أي إن انتزاع الحار من الجسم متوقف على انضمام الحرارة إليه، كما أن حمل الحرارة عليه أيضًا يتوقف على هذا الانضمام؛ فإنه لو زالت الحرارة عن الجسم لم يمكن حمل الحرارة عليه، ولم يكن حملها عليه إلَّا كذبًا.
أمَّا الخارج المحمول أو المحمول من صميمه فهو ما لا يكون منضمًّا من خارج الشيء إلى الشيء، وإنما يكون منتزعًا من نفس الشيء، ومن صميم الشيء، مثل: الإنسان شيء.
الفرق بين الذاتي وغير الذاتي
يمكن إيضاح هذا الفرق فيما يلي:
-
أولًا: أن الذاتيات بيِّنة الثبوت بالنسبة إلى
الذات؛ فعندما نقول: الإنسان ناطق، فالناطقية
بيِّنة الثبوت بالنسبة لذات الإنسان؛ أي لا
تحتاج في ثبوتها لذات الإنسان إلى برهان،
وعندما نقول: الإنسان حيوانٌ ناطق؛ فحيوانٌ
ناطق هو حد الإنسان، والحد كما هو معلوم لا
يُكتسب بالبرهان، بل هو واضحٌ وبديهي، ولا
حاجة فيه إلى الدليل.
وبكلمةٍ موجزة كما أن ثبوت الذات لنفسها ضروري، فكذلك ثبوت الذاتيات للذات ضروري؛ لأنها مقوِّمات الذات بل عينها.
ثم إن هذا الفرق بالنظر إلى مقام الإثبات، بينما الفرق الثاني بالنظر إلى مقام الثبوت.
- ثانيًا: أن الذاتيات لا تحتاج إلى سببٍ آخر خارج الذات؛ فنفس العلة التي تُوجِدُ الذات تُوجِد الذاتيات؛ ولهذا نقول: إن الذاتيات مستغنية عن السبب، بمعنى أنها لا تحتاج لسبب وعلَّة غير علَّة وجود الذات؛ أي إن الذاتيات لا تحتاج إلى جعلٍ وإيجادٍ مستقل، فعلَّة وجود الإنسان هي بعينها علَّة وجود الناطق وعلَّة وجود الحيوان.
-
ثالثًا: ممَّا تختص به الأجزاء الذاتية، هو أن
الأجزاء الذاتية متقدمة على الذات؛ أي إن
الذاتيات متقدمة على الذاتي، فالحيوان والناطق
متقدمان على الإنسان، وهذا التقدم ليس تقدمًا
زمانيًّا؛ أي لا يُوجَد أولًا حيوان وناطق، ثم
بعد مدة يُوجَد إنسان، وإنما المقصود تقدُّم
رتبي، فإذا تحقَّق الحيوان والناطق يتحقَّق
الإنسان. الأجزاء أولًا ثم الذات.
وهنا قد يُثار إشكال وهو: كيف تتقدَّم الأجزاء — الناطق والحيوان — على الكل — الإنسان — مع أن الكل ليس هو إلا مجموع الأجزاء؛ أي الأجزاء هي الكل بعينه، فكيف نقول إن الأجزاء متقدِّمة على الكل؛ أي أجزاء الحيوان والناطق هي الإنسان بعينه، فكيف تكون متقدِّمة على الإنسان؟
غير أن هذا الإشكال مندفع بأدنى التفات؛ لأن اللحاظ مختلف؛ فمرَّة نلاحظ الأجزاء، الحيوان والناطق من دون وصف الاجتماع، فحينئذٍ تكون متقدمة على الإنسان، وتارةً أخرى نلاحظ الحيوان والناطق بما هما مجتمعان ومنضمٌّ أحدهما للآخر، فتكوَّن الكل وهو الإنسان.
وبعبارةٍ أخرى مرَّة نلاحظ الأوكسجين والهيدروجين بوصفهما غير مجتمعَين، ومرَّة نلاحظهما عندما يجري تفاعلٌ بينهما فيتحقَّق الماء.
فإن ذوات الأجزاء من دون شرط وصف الاجتماع متقدِّمة على الأجزاء بشرط الاجتماع، وإن شئت فقل: الحيوان والناطق متقدِّمان على «الحيوان الناطق».
ونضيف إلى ذلك أن الأجزاء هي نفس الكل؛ أي الناطق هو نفس الإنسان، والإنسان هو نفس الناطق، ولكن إنَّما نُسمِّي الناطق جزءًا من الإنسان؛ لأن الناطق جزءٌ من حدِّ الإنسان التام؛ فالحد التام للإنسان هو ناطق زائد حيوان.
ويمكن القول إن للذاتيات اعتبارَين، وهما:
-
(١)
اعتبار كونها أجزاء من الحد، وبهذا الاعتبار يصح الفرق الثالث؛ إذ إن أجزاء الحد متقدمة على المحدود؛ فإنه ما لم تُعرف أجزاء الحد لم يُعرف المحدود.
-
(٢)
اعتبار كون كلٍّ منها عين المحدود؛ وعليه لا يبقى موقعٌ للفرق الثالث، وإلَّا لزم تقدُّم الشيء على نفسه.
ولك أن تُسمِّيَ الاعتبار الأول بالمنطقي، والثاني بالفلسفي.