الفصل الرابع

في الجنس والفصل والنوع وبعض ما يلحق بذلك

الماهية التامة والناقصة

الماهيَّة التامة، هي النوع؛ أي الماهيَّة التي تكون لها آثارٌ حقيقيةٌ واقعية، فالإنسان ماهيَّة تامة؛ لأنَّه مؤلَّف من حيوان وناطق (جنس وفصل)، وله آثارٌ حقيقية واقعيَّة، يمشي، يكتب، يقرأ … إلخ.

أمَّا الماهيَّة الناقصة فهي الجنس بلا فصل، أو الماهيَّة غير المحصَّلة؛ فالماهيَّة مرةً نلاحظها بما هي تامَّة، فتكون محصَّلة، ومرةً نلاحظها بما هي مرددة؛ أي بما هي ناطق، أو صاهل … إلخ، فتكون ماهيَّة ناقصة غير محصَّلة؛ أي غير محددة.

الجنس والفصل

إن الذاتي ينقسم إلى: نوع وفصل وجنس، والمقصود بالجنس هو الحقيقة المشتركة، كالحيوان حقيقة مشتركة بين الإنسان والفرس.

والمقصود بالفصل: هو ما يختص بالنوع، كالصاهل المختص بالفرس، والناطق المختص بالإنسان.

فما هو مشترك بين الماهيَّات النوعيَّة يُسمَّى جنسًا، وما هو مختص بكلِّ نوع يُسمَّى ‏فصلًا.

والجنس والفصل كلاهما ينقسم إلى: قريب وبعيد؛ فالجنس القريب للإنسان هو الحيوان، والجنس البعيد هو الجسم المطلَق، الإنسان جوهرٌ جسمٌ نامٍ حساسٌ متحرِّكٌ بالإرادة ناطقٌ، والفصل القريب للإنسان هو الناطق، والفصل البعيد له هو الحسَّاس المتحرِّك بالإرادة.

وكذلك ينقسم الجنس والنوع إلى: عالٍ ومتوسط وسافل؛ فمثلًا الجوهر جنسٌ عالٍ بالنسبة للإنسان، والجسم النامي جنسٌ متوسط للإنسان، والحيوان جنسٌ سافل بالنسبة للإنسان.

أمَّا النوع، فالجسم النامي أيضًا نوعٌ بالنسبة للإنسان، ولكنَّه نوع عالٍ، والحسَّاس المتحرِّك بالإرادة نوعٌ متوسط، والحيوان الناطق نوعٌ سافل.

لحاظ الماهيَّة المشتركة

إذا لاحظ العقل الماهيَّة المشتركة؛ أي الجنس، الذي يشترك به عدَّة أنواع، فيمكن للعقل أن يلاحظها بلحاظَين:

  • (١)

    تارةً نلاحظها بشرط لا؛ أي وحدها، فيكون كل ما يقارنها من المفاهيم زائدًا عليها؛ أي إنَّها تكون مباينةً لما يقارنها من المفاهيم، لا تُحمل على ما يقارنها، كما أنها لا تُحمل على المجموع.

    فإذا أخذنا الحيوان بشرط لا؛ أي بشرط الإباء عن الحمل، ولاحظناه بالنسبة إلى ما يقارنه، إلى الناطق؛ أي إننا نأخذ الحيوان بشرط عدم الحمل على الناطق، فلا يكون قابلًا للحمل على الناطق بل مباينًا للناطق، كما يكون مباينًا للمجموع منه ومن الناطق، فلا يُحمل على الإنسان (الحيوان الناطق).

    فالماهيَّة التي نأخذها بشرط لا، لا تقبل الحمل على ما يقارنها، ولا على المجموع، فالحيوان لا يقبل الحمل على الناطق، ولا على المجموع (الإنسان).

    ونعبِّر عن هذا (الحيوان) بالمادة؛ فالمادة هي الجنس بشرط لا، بشرط عدم الحمل، وهذه المادة تكون محلًّا لانطباع الصورة، بالنسبة إلى ما يقارنها؛ أي بالنسبة إلى الناطق، الذي هو الفصل بشرط لا، فإذا لا حظنا الجنس (الحيوان) بشرط لا بالنسبة إلى ما يقارنه كان مادة، نسمِّيه مادة، وإذا لاحظنا الجنس (الحيوان) بالنسبة إلى المجموع (الإنسان، الحيوان الناطق) يُسمَّى بالعلَّة الماديَّة، هذا هو اللحاظ الأوَّل.

    وبعبارةٍ موجزة يمكن أن نعقل الماهية وحدَها بأن نعقلها على أنها جزء من الإنسان، والجزء غير الجزء الآخر، كما أنه غير الكل، ولا يُحمل على شيءٍ منهما. وهذا كما أن المادة الخارجية أيضًا جزء من المركَّب غير الجزء الآخر وهي الصورة، وغير نفس المركَّب.

  • (٢)

    وتارةً أخرى نلاحظ الماهية المشتركة (الحيوان) على أنها أمرٌ عام ومبهَم، يندرج تحتها أنواع، ويُحمل على كلٍّ من تلك الأنواع، فيكون كما قيل في تعريف الجنس إنه يصدُق على الكثرة المختلفة الحقيقة؛ فمثلًا نلاحظ الحيوان بما هو حيوان ولكن مرددًا، غير معيَّن، غير محصَّل، غير محدد؛ حيث نقول: الحيوان إمَّا أن يكون إنسانًا، أو فرسًا، أو بقرًا … إلخ، كما تقول لضيفك: سأذبح لك حيوانًا، فهذا الحيوان مردد بين الدجاج، والغنم، والبقر … إلخ، فهذا يكون ماهيَّة ناقصة؛ أي غير محصَّلة وغير محددة؛ لأن الذي يحدِّد ويعيِّن الماهيَّة هو الفصل، الناطق هو الذي يحدِّد الحيوان، وعلى هذا الأساس فالماهيَّة بهذا اللحاظ تكون هي النوع إذا انضمَّ لها فصل وحصَّلها.

    وأمَّا الماهيَّة المرددة، فتُسمى جنسًا، والذي يحدِّد هذا الجنس ويحصِّله هو الفصل؛ أي إن الماهية من دون أن ينضمَّ إليها الفصل غير محصَّلة ذهنًا؛ فإن الماهية كما يقول المصنِّف في المرحلة ٥ الفصل ٦: «وأمَّا في الذهن فهي متغايرة بالإبهام والتحصُّل» وتتحصَّل ذهنًا بالفصل، فتكون هي النوع بعينه ذهنًا ومفهومًا.

الفصل والصورة

اللحاظان الذهنيان للجزء المشترك بينهما، يمكن أن نلاحظهما في الجزء المختص، وهو الناطق بالنسبة للإنسان، فتارةً نلاحظ الناطق بشرط لا من الحمل، فلا يكون قابلًا للحمل على ما يقارنه ولا على المجموع (الإنسان)؛ أي لا على الجزء ولا على الكل، فيُسمَّى صورةً؛ فالصورة هي الفصل بشرط لا.

وإذا لاحظناه لا بهذا اللحاظ — بشرط لا — كما لاحظنا الحيوان بما هو مردد بين أنواعه، فيكون فصلًا، وهذا الفصل يحدِّد النوع ويحصِّله، ويكون هذا الفصل هو النوع؛ أي يكون الناطق هو الإنسان، والإنسان هو الناطق؛ ولذلك يُحمل الفصل على النوع حملًا أوليًّا. فعندما نقول: الإنسان ناطق، يكون حمل الناطق على الإنسان حملًا أوليًّا باللحاظ الثاني، وليس حملًا شائعًا.

نتائج

  • أولًا: أن الجنس، كالحيوان مثلًا، هو نفس النوع (الإنسان)، والنوع (الإنسان) هو نفس الجنس (الحيوان)، ولكن الجنس هو النوع مرددًا؛ لأنَّه يتحصَّل ويتعيَّن بالفصل، كالحيوان يتعيَّن بالناطق.

    فالحيوان هو النوع مبهمًا ومرددًا؛ لأنه إمَّا يكون طيرًا، أو فرسًا، أو إنسانًا، أو شيئًا آخر.

    أما الفصل فهو النوع محصَّلًا، فالناطق هو الإنسان المعيَّن، والنوع هو الماهيَّة التامة، من دون أن نلاحظ فيها إبهامًا، أو ترديدًا، أو تحصيلًا. ماهيَّة تامة تترتَّب عليها الآثار الحقيقية.

  • ثانيًا: أن الجنس والفصل يُحمل كل واحدٍ منهما على النوع حملًا أوليًّا، نقول: الإنسان حيوان، والإنسان ناطق؛ لأن الجنس هو النوع مبهَمًا، والفصل هو النوع محصَّلًا، والشي‏ء يُحمل على نفسه حملًا أوليًّا وليس شائعًا.

    أمَّا النسبة بين الجنس والفصل، الحيوان والناطق، فالحيوان عرضٌ عام للناطق، كالماشي للإنسان، فهو عرضٌ عام للإنسان، والفصل خاصة بالنسبة للحيوان، كالضاحك للإنسان، الناطق يكون كذلك للحيوان، والخاصة كما تكون مساوية كذلك قد تكون أخص، والفصل بالنسبة إلى الجنس من القسم الثاني.

    ولا يُقال: يلزم من القول «إن الجنس هو النوع، وإن الفصل هو النوع» أن يكون كلٌّ من الفصل والجنس نفس الآخر أيضًا. وإذا كان كذلك، فكيف يكون كلٌّ منهما عرضًا للآخر؟ فإن الجواب: هو أن الجنس هو النوع مبهمًا، وإن الفصل هو النوع محصلًا، والمبهَم غير المحصَّل. أما كون النوع عين كلٍّ منهما، فلأن النوع هو الماهية لا بشرط الإبهام أو التحصُّل، واللابشرط يجتمع مع ألف شرط.

  • ثالثًا: من الممتنع أن يتحقق جنسان في مرتبةٍ واحدة؛ أي يمتنع أن يكون شي‏ءٌ واحد إنسانًا وحجرًا، وذلك لأن الجنس هو النوع مبهمًا، فتحقُّق جنسَين في مرتبةٍ واحدة يستلزم تحقُّق نوعَين. كذلك يمتنع أن يتحقَّق فصلان في مرتبةٍ واحدة، فيكون الإنسان مثلًا صاهلًا وناطقًا في نفس المرتبة؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون النوع الواحد نوعَين، إنسانًا وحجرًا، أو صاهلًا وناطقًا؛ لأن تعدُّد الفصل يستلزم تعدُّد الجنس، وكذا العكس، فلا يكون الجنس متعددًا إلَّا إذا تعدَّد الفصل، فيحصل النوعان؛ إذ إن كل جنس مع فصلٍ يوجد نوعًا.
  • رابعًا: الجنس والمادة متَّحدان ذاتًا مختلفان اعتبارًا؛ أي الاختلاف بالاعتبار العقلي؛ لأن المادة هي الجنس لا بشرط؛ فالحيوان إذا أخذناه لا بشرط يكون جنسًا، وإذا أخذنا الحيوان بشرط لا يكون مادة، كذلك الفصل والصورة متحدان ذاتًا ولكن مختلفان اعتبارًا؛ فالناطق لا بشرط يكون فصلًا والناطق بشرط لا يكون صورة.
  • خامسًا: المادة في الجواهر المادِّية موجودة بالخارج، مع العلم أن الجواهر تنقسم إلى ماديَّة وغير مادية (مجرَّدة)، والمادية كالحجر، وغير المادية كالعقل والنفس.

أمَّا الأعراض، وكذلك الجواهر المجرَّدة، فإنها غير مركَّبة في الخارج بل هي بسيطة؛ فإن ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز، يعني أنه ليس لها ما به الاشتراك خارجًا، لا أنها تكون كالوجود لها ما به الاشتراك، كما به الامتياز، ولكن أحدهما عين الآخر؛ من هنا فإن التركيب يكون في الذهن؛ فالذهن يحلِّل ماهيَّة البياض، فيرى أنها مركَّبة مما به الاشتراك مع الألوان الأخرى، وما به الامتياز والاختصاص عن بقيَّة الألوان، فيعتبر ما به الاشتراك جنسًا، وما به الاختصاص فصلًا، ثم يلاحظها بشرط لا فتكون مادَّة، ويلاحظها لا بشرط فتكون جنسًا. وما به الاختصاص يلاحظه بشرط لا فيكون صورةً، ويلاحظه لا بشرط فيكون فصلًا.

وبعبارةٍ أخرى إنها تصير موادَّ وصورًا عقلية؛ فالجنس إذا أُخذ بشرط لا كان مادةً عقلية لا خارجية، وكذا الفصل إذا أُخذ بشرط لا كان صورةً عقلية لا خارجية.

ولا يخفى أن قولهم في أن مادة الإنسان هي البدن، إنما يريدون به أن البدن يتضمَّن المادة لا أنه هو المادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥