الفصل الخامس

في بعض أحكام الفصل

أقسام الفصل

ينقسم الفصل إلى عدة أقسام، في أكثر من تقسيم، فهو ينقسم إلى: منطقي واشتقاقي، والفصل المنطقي ينقسم إلى: مشهوري وغير مشهوري، وينقسم الفصل إلى: قريب وبعيد، ويعبَّر عن الفصل بأنه: مقوِّم ومقسِّم.

الفصل المنطقي

الفصل المنطقي هو الفصل المستخدم في لسان المناطقة، وهذا الفصل الذي يستخدمه المناطقة ليس فصلًا حقيقيًّا، وإنما هو من لوازم الفصل؛ أي يكون الفصل الحقيقي ملزومًا لهذا الفصل، وهذا الفصل هو اللازم، كما أن الزوجية هي اللازم والأربعة هي الملزوم.

ولا يخفى أن هذا الاصطلاح للفصل المنطقي هو غير الاصطلاح الذي يُقال فيه المنطقي مقابل الطبيعي والعقلي.

ولكن لماذا يلجأ المناطقة إلى ذلك، ولا يستعملون الفصل الحقيقي في لسانهم؟

الجواب: إن الفصول الحقيقية في الغالب من المتعذَّر غالبًا الوصول إليها ومعرفتها، وعلى هذا الأساس لمَّا كان الوصول إلى الفصل الحقيقي صعبًا فلا بد من المصير إلى فصل أو إلى شي‏ء يكون لازمًا لذلك الفصل الحقيقي، والفصل الحقيقي هو الملزوم.

من الذي يقول إن فصل الإنسان الذي هو الناطق ليس فصلًا حقيقيًّا، وإنما هو لازم للفصل الحقيقي، وكذلك الفصول للأنواع الأخرى؟

الجواب: خُذ الناطق مثلًا، فهو إمَّا أن يكون من النطق بمعنى التكلُّم؛ أي التلفُّظ والصوت، أو يكون من النطق بمعنى التعقُّل؛ أي إدراك الكليات، فإذا كان النطق بمعنى التكلم والتلفُّظ، فالتكلم ليس جوهرًا بل هو عرض؛ لأن التكلم كيفٌ مسموع، والكيف المسموع من الأعراض، والعرض لا يقوِّم الجوهر الذي هو الإنسان. وإذا قلنا: إن النطق بمعنى التعقُّل وإدراك الكليات، فإن التعقُّل والإدراك كيفٌ نفساني، وهذا عرض أيضًا، والعرض لا يقوِّم الجوهر (الإنسان).

وكذلك لو لاحظنا الصاهل لأن الصهيل صوت أيضًا، فهو كيفٌ مسموع، وهو بالتالي عرض، والعرض لا يقوِّم الجوهر.

وعليه فإن الفصول المستخدمة في لسان المناطقة غيرُ حقيقية، لصعوبة الحصول على الفصول الحقيقية، وإنما هذه الفصول تمثل لوازم للفصول الحقيقية، أو قل هي أخص اللوازم وأوضح هذه اللوازم التي تعرض على النوع.

ولا يخفى أن اللازم الذي يُوضع مكان الفصل الحقيقي لا بد وأن يكون خاصةً مساوية، لا اللازم الأعم، ولا الأخص؛ فالمراد من أخص اللوازم هي الخاصة المساوية اللازمة التي تكون أوضح وأعرف من غيرها في كونها خاصةً لازمة.

وهذه اللوازم، التي هي أخص اللوازم التي تُحمل على النوع، تارةً تكون أمرًا واحدًا، كالناطق بالنسبة للإنسان، والصاهل بالنسبة للفرس، وتارةً تكون أكثر من واحد، وتُوضع بمجموعها موضع الفصل الحقيقي، كما في فصل الحيوان، الذي هو الحسَّاس المتحرك بالإرادة، وهذا دليلٌ آخر على أن هذه الفصول — المستخدمة في لسان المناطقة — ليست فصولًا حقيقية، وإلا لو كان فصل الحيوان فصلًا حقيقيًّا لكان فصلًا واحدًا؛ لأن الفصل الحقيقي لا يكون إلا أمرًا واحدًا، وليس مركَّبًا من حسَّاس زائد متحرك بالإرادة، فهذا الفصل (حساس متحرك بالإرادة) هو أخص وأوضح اللوازم التي تُحمل على الحيوان، وتعرض على النوع.

الفصل الاشتقاقي

الفصل الاشتقاقي مبدَأ ومنشَأ اشتقاق الفصل المنطقي، أو هو الملزوم، والفصل المنطقي هو اللازم، فالفصل المنطقي ليس هو الفصل الحقيقي، بل الفصل الاشتقاقي هو الفصل الحقيقي، وهو الذي يُشتق مِنهُ ويلازمه الفصل المنطقي؛ فالفصل الحقيقي الذي يقوِّم ماهيَّة النوع، والذي بانتفائه ينتفي النوع هو الفصل الاشتقاقي، من قبيل، أن الإنسان له نفسٌ ناطقة، فهذا هو الفصل الحقيقي للإنسان، وكون الفرس ذا نفسٍ صاهلة، هو الفصل الحقيقي للفرس.

حقيقة النوع هي فصله الأخير

إن حقيقة النوع بفصله الأخير، وهو فصله القريب؛ فحقيقة الإنسان بالنفس الناطقة، وحقيقة الفرس بالنفس الصاهلة؛ لأن الفصل الأخير (النفس الناطقة بالنسبة للإنسان) هو الذي يعيِّن النوع ويحدِّده ويُوجِده؛ فالحيوان قبل الناطق لا يتعيَّن إنسانًا ولا يتحدَّد، بينما الناطق هو الذي يحدِّد الإنسان؛ أي الحيوان قبل أن ينضم إليه الناطق مبهمًا، لا ندري أهو إنسان أم ليس بإنسان؟ ولكن الناطق حينما ينضم إليه فإنه يحدِّده ويعيِّنه ويُوجِده؛ ولهذا نقول إن النفس الناطقة هو الفصل الذي يُوجدُ الإنسان.

عندما نقول: هذا إنسان، وهذا فرس، فحقيقة النوع — الإنسان والفرس — بفصله الأخير، أي هذيَّة الإنسان — بتعبير المصنِّف — وحقيقته بفصله الأخير، وهذيَّة النوع بمعنى عندما نشير إليه ﺑ «هذا»؛ أي حقيقته، فإذا كانت حقيقة النوع بفصله الأخير، فإذا تبدَّل‏ جنسه، فهل يتبدَّل ويتلاشى النوع؟ لا؛ لأنه ما دام فصل النوع باقيًا، فإن حقيقة النوع باقية، إلا إذا تبدَّل فصله الأخير فحينئذٍ يتلاشى النوع ويتبدَّل؛ أي تتبدَّل صورته، أو قُل فصله؛ لأن الفصل هو الصورة بشرط لا.

وبعبارةٍ أخرى إن الجوهرية والجسمية والنمو والحركة بالإرادة والحس مأخوذاتٌ في الأجناس العالية، ولكنَّها لمَّا كانت في مسير وجود الإنسان لم تكن هذه الأمور فيه محصَّلة بل مبهمة، فإذا تعيَّن للموجود صورة الإنسانية كان في تلك الصورة جميع تلك الأمور محصَّلًا، كما لو تجرَّدَت النفس الناطقة عن البدن، والبدن هو الذي يشتمل على المادة، لا أنه هو نفس المادة.

فلو فرضنا أن هذا الإنسان الذي فصلُه النفس الناطقة، تحوَّل جنسه، فهو الآن جسمٌ مؤلَّف من مادة وصورة، ولكن هذا الجسم تحوَّل، احترق مثلًا وتحوَّل إلى رماد، فهل تتلاشى حقيقة هذا الإنسان؟ وبعبارةٍ أخرى أن جنسه تحوَّل، فهل تتحوَّل إنسانية الإنسان؟ الجواب: لا، لا تتلاشى ولا تتحول إنسانية الإنسان؛ لأنه ما دام فصل الإنسان باقيًا، وهو النفس الناطقة، الذي هو أمرٌ مجرَّد غير مادي، فإن حقيقة الإنسان بفصله الأخير، بنفسه الناطقة، وحينئذٍ إذا احترق الإنسان تتجرَّد صورته عن مادته، عن بدنه، فمادَّته تتحوَّل، وصورته تتجرَّد، أو قُل فصله؛ لأن الفصل بشرط لا هو الصورة، ففصلُه يبقى على حاله، وما دام فصلُه موجودًا إذن الإنسان موجود؛ لأن حقيقة الإنسان بفصله الأخير، باعتبار الفصل بشرط لا هو الصورة، والصورة لا بشرط هي‏ الفصل.

وبذلك يُمكِن أن تتجرَّد النفس الإنسانية عن البدن، كما يحصُل في الموت، وحينئذٍ يبقى الإنسان على إنسانيَّته؛ أي هو بالموت لا يفنى، وإنما تُستوفَى روحُه من بدنه، وتمام حقيقة الإنسان بنفسِه الناطقة.

الفصل غير مندرج تحت الجنس

النفس الناطقة غير مندرجة تحت الحيوان، وإنما الفصل بالنسبة إلى الجنس يكون خاصة، والجنس بالنسبة إلى الفصل يكون عرضًا عامًّا؛ أي الحيوان بالنسبة للناطق يكون كالماشي بالنسبة إلى الإنسان، عرضًا عامًّا، والناطق بالنسبة للحيوان كالضاحك للإنسان، خاصة، فالفصل ليس مندرجًا تحت الجنس؛ أي الجنس لا يدخل في حقيقة الفصل، ولا يُؤخذ في ماهيَّته، بمعنى أن الجنس غير مأخوذ في حدِّ الفصل، وإلا لو كان مأخوذًا لاحتاج الفصل إلى فصل يقوِّمه، وهذا الفصل الآخر يحتاج إلى فصل يقوِّمه؛ لأن الجنس مبهَم يحتاج في تحصُّله إلى فصل، ولأن الفصل إذا كان مندرجًا تحت الجنس كان نوعًا يحتاج إلى فصل يقوِّمه، وهكذا، فيتسلسل ويكون الفصل نوعًا، وإنما يتسلسل بترتُّب فصولٍ غير متناهية، فيلزم تركُّب فصلٍ واحد من جنسٍ وفصولٍ غير متناهية، وهو يستلزم عدم كونه مفهومًا؛ لأن الإنسان لا يقدر على تصوُّر مفاهيمَ غيرِ متناهية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥