الفصل السادس

في النوع وبعض أحكامه

الماهيَّة النوعية تُوجَد أجزاؤها في الخارج بوجودٍ واحد

تبيَّن مما مضى في الفصلَين الثالث والرابع أن الجنس والفصل ليسا أجزاء النوع، بل كلٌّ منهما هو النوع، فوجه تسميتهما بالأجزاء كونهما أجزاءً للحد؛ فالإنسان موجودٌ بوجودٍ واحد في الخارج وليس بوجوداتٍ متعددة، فأيَّة ماهيَّةٍ نوعيةٍ موجودة في الخارج إنما هي بوجودٍ واحد؛ أي إن الماهيَّات النوعية المركَّبة من جنس وفصل، ويكون هذا التركيب تركيبًا ذهنيًّا، وهذه الأجزاء أجزاءٌ ذهنية للماهيَّة، وإلا فليس في الخارج أمرٌ مركبٌ من جنس وفصل، فالجنس والفصل في الخارج موجودان بوجودٍ واحد، الحيوان والناطق موجودان في الخارج بوجود الإنسان. وعليه يكون حمل الحيوان على الإنسان، وحمل الناطق على الإنسان حملًا أوليًّا؛ لأنها كلها أمرٌ واحد، موجودة بوجود الإنسان، أما في الذهن فهي متغايرة؛ لأن الحيوان (الجنس) مبهَم غير معيَّن، بينما الفصل (الناطق) يُحصِّل الجنس ويحصِّل النوع؛ أي هو الذي يُعيِّن النوع، فلو لاحظنا الحيوان وحده لكان مرددًا بين الإنسان وغيره، ولكن بالإضافة إلى الناطق يكون محصلًا ومحددًا، فالفصل هو الذي يُحصِّل الجنس والنوع.

وعلى هذا الأساس إذا لاحظنا الجنس والفصل بالنسبة إلى كلٍّ منهما، يكون كلٌّ منهما عرضيًّا بالنسبة إلى الآخر وليس ذاتيًّا. كما قلنا سابقًا: إن الجنس عرضٌ عامٌّ بالنسبة إلى الفصل، والفصل خاصة بالنسبة إلى الجنس.

الأنواع المادية مركَّبات حقيقية

ينقسم المركَّب إلى: مركَّب حقيقي، ومركَّب انضمامي اتحادي، والمركَّب الحقيقي: هو الذي يكون بين أجزائه فقرٌ وحاجةٌ من بعضها إلى البعض الآخر، كالماء؛ فهو مركَّب حقيقي؛ إذ إنه يحصُل باندماج عنصرَي الهيدروجين والأوكسجين، فيكون بين أجزاء الماء، بين كل واحدٍ منها فقرٌ وحاجة، فالأوكسجين محتاجٌ إلى الهيدروجين لكي يوجدَ الماء، وكذلك الهيدروجين محتاجٌ إلى الأوكسجين؛ فبالاتحاد والاندماج بينهما نحصُل على حقيقةٍ واحدة هي الماء.

وهذه مسألة من المسائل البديهية؛ ففي الأنواع المادِّية — وهي غير الأنواع المجرَّدة — كالحجر والماء، يتألَّف النوع المادي من مادة وصورة، وهذه الأنواع المادية يكون بين أجزائها عادةً احتياج؛ فالمادة محتاجة إلى الصورة، والصورة محتاجة إلى المادة، حتى يتحقَّق النوع التام.

أمَّا النوع الثاني للمركَّب فهو المركَّب الانضِمامي الاتحادي، ويحصُل من انضمام شي‏ء إلى شي‏ءٍ آخر، كانضمام أفراد الجيش بعضِهم إلى بعض، فيحصل فوج، أو كانضمام حبَّات الطعام، فيحصل كيس من الطعام مثلًا، فهذا مركَّب غير حقيقي؛ أي مركَّب انضمامي اتحادي.

الفرق بين المركَّب الحقيقي والانضمامي

إن المركَّب الحقيقي فيه وحدةٌ حقيقيةٌ مغايرة لأجزائه التي تركَّب منها؛ أي يحصل من اتحاد الأوكسجين بالهيدروجين مثلًا، وحدةٌ حقيقية هي الماء، والماء هو شي‏ءٌ آخر غير عنصرَيه المكوَّن منهما، ذو آثارٍ غير آثار الأوكسجين والهيدروجين. بينما المركَّب الانضمامي — المركَّب الاعتباري — كفوج الجيش، أو كيس الحنطة مثلًا، لا يحصُل اندماجٌ بين أجزائه؛ إذ لا يحصُل اندماج بين حبَّات الحنطة، ولا تكون في الكيس خصائصُ وآثارٌ أخرى غير آثار الحبَّات.

التركيب بين المادة والصورة حقيقي

هل الوحدة بين المادَّة والصورة في الأجسام وحدةٌ حقيقية أم وحدةٌ انضمامية؟ أي التركيب بين المادة والصورة أهو من قبيل التركيب بين الأوكسجين والهيدروجين، أم من قبيل التركيب بين حبَّات الحنطة؟ أي أهو تركيبٌ حقيقي أم انضمامي؟

الجواب: إن التركيب بين المادة والصورة هو تركيبٌ حقيقي، والوحدة وحدةٌ حقيقية وليست وحدةً اعتبارية، وليس التركيب انضماميًّا؛ فإن الجنس هو المادة الذهنية (ولكن لابشرط) والمادة الذهنية هي مفهوم المادة الخارجية، وكذا الفصل هو الصورة الذهنية (ولكن لابشرط) والصورة الذهنية هي مفهوم الصورة الخارجية، فإذا اتحد الجنس والفصل في الوجود، فلا بد من اتحاد المادة والصورة الخارجيتَين أيضًا؛ إذ إن وجودهما ليس إلَّا وجود الجنس والفصل.

ولا يخفى أن التركيب الحقيقي لا يتوقف على أن يكون كلٌّ منهما محتاجًا إلى الآخر، بل يحصُل باحتياج أحد الجزأَين مثلًا إلى الآخر، كما تحتاج المادة إلى الصورة؛ فإن مجرد كون المادة صرف القوة، وكونها محتاجةً في فعليتها إلى صورة، يكفي في ارتباطهما واتحادهما حقيقة واحدة.

النوع المنحصر في الفرد

الماهيَّات النوعية تنقسم إلى: ماهيَّات مادية محضة، كالحجر والكتاب، وماهيَّات مجردة، والماهيَّات المجردة تنقسم قسمَين؛ ماهيَّات مجردة تجردًا تامًّا، كالعقول — بمصطلح الفلاسفة — أو مجردة تجردًا جزئيًّا؛ فالمجردة تجردًا تامًّا، تكون مجردة في ذاتها وفي فعلها، بينما المجردة تجردًا جزئيًّا، تكون مجرَّدة في ذاتها بينما هي غير مجرَّدة في فعلها، كالنفس الإنسانية الناطقة.

وهذه الماهيَّات النوعيَّة تنقسم إلى قسمَين؛ ماهيَّات نوعية لها أفرادٌ ومصاديقُ كثيرة ومتعددة، كالإنسان، والحجر، فإن لها أفرادًا متعددة. وماهيَّات نوعية أو أنواع ليس لها إلا فردٌ واحد. ويُعبَّر عنها بأنها نوعٌ منحصر في فرد.

والنوع الأول من الماهيَّات، ذات الأفراد الكثيرة، وهي التي لها تعلُّق بالمادة؛ إما أن تكون في ذاتها وفي فعلها ماديَّة، كالشجر والحجر، أو تكون في ذاتها مجرَّدة وفي فعلها مادِّية، كالنفس الإنسانية فإنها في ذاتها مجردة، ولكنها عندما تريد أن تمارس أي فعل فإنها تمارسه من خلال المادة.

أما الأنواع التي ليس لها إلا فردٌ واحد، فهي الأنواع المجرَّدة تجردًا تامًّا، وهي العقول بمصطلح الفلاسفة.

ولكن ما الدليل على أن الأنواع المجرَّدة تجردًا تامًّا ليس لها إلا فردٌ واحد؟

استدَلُّوا على ذلك بقولهم: لو فرضنا أن لهذه الأنواع أفرادًا كثيرة، فكثرة أفراد النوع لا تخرج عن أربعة احتمالات:

إمَّا أن تكون الكثرة تمام ماهية النوع، أو تكون الكثرة بعض ماهيَّة النوع، أو تكون الكثرة لازمة لماهيَّة النوع، أو تكون الكثرة مفارقة لماهيَّة النوع.

فإذا كانت الكثرة تمام ماهيَّة النوع، بمعنى أنها تكون تمام ماهيَّة العقل، وإذا كانت الكثرة جزء ماهيَّة النوع، فإن ماهيَّة العقل تساوي أمرًا معيَّنًا زائدًا كثرة أفراد، كما نقول: إن الإنسان ماهيَّتُه تُساوي حيوانًا زائدًا ناطقًا زائدًا كثرة أفراد، وإذا لم تكن الكثرة تمام الماهيَّة ولا جزءها وإنما هي عرضٌ لازم للماهيَّة، فإنها تكون كلزوم الزوجية للأربعة، وإذا كانت الكثرة عرضًا للماهيَّة، لكنه عرضٌ غير لازم بل هو عرضٌ مفارق، فهي بمعنى أنها منضمَّة إلى ماهية النوع المجرَّد.

لكن هذه الاحتمالات باطلة، فيتضح أن النوع المجرَّد منحصر في فردٍ واحد. وفيما يلي بيان ذلك:

أمَّا الاحتمالات الثلاثة الأولى، فإن الكثرة إذا كانت هي تمامًا أو جزءًا أو لازمًا للماهيَّة، فعلى هذه التقادير يلزم ألَّا يتحقَّق لهذه الأنواع المجرَّدة مصداقٌ وفردٌ في الخارج؛ لأن كل ما فرضناه مصداقًا لها لا بد أن يكون كثيرًا، وإذا كان كثيرًا فالكثير مؤلَّف من آحاد، فحينئذٍ نلاحظ أي فرد من هذه الآحاد، وهذا الفرد إذا لاحظناه فلا بد أن تنطبق عليه ماهيَّة النوع المجرد، وإذا انطبقَت الماهية عليه، فالكثرة مأخوذة في الماهية؛ لأن الكثرة إما تمام أو جزء أو لازم للماهيَّة، فلا بد أن هذا الواحد الذي لاحظناه يكون كثيرًا، وهذا الكثير لا بد أن يكون مؤلفًا من آحاد، والواحد الذي لاحظناه أيضًا يكون كثيرًا، وهذا الكثير مؤلف من آحاد، والواحد الذي نلاحظه منه أيضًا كثيرًا، ولازم ذلك ألَّا نحصل على فرد أبدًا، بل يلزم أن يحصل تسلسل إلى ما لا نهاية.

وببيان آخر: إنه على الفروض الثلاثة، إذا قلنا إن الكثرة هي تمام الماهيَّة أو جزء الماهيَّة أو لازم للماهيَّة، فيلزم من ذلك ألَّا تصدُق هذه الماهيَّة — ماهيَّة النوع المجرد تجردًا تامًّا — على أي فرد، لا يتحقق لها فرد؛ لأنه في هذه الحالة، إذا وُجدَت هذه الماهيَّة في الخارج؛ أي تحقَّق لها فرد، فلا بد أن يكون هذا الفرد كثيرًا؛ لأن الكثرة مأخوذة في الماهيَّة؛ فهي إمَّا تمام أو جزء أو لازم للماهيَّة، وهذا الكثير مؤلف من آحاد؛ أي أفراد فنأخذ منه فردًا، والفرد لا بد أن يكون كثيرًا، ليكون مصداقًا لهذا النوع، المأخوذة الكثرة في حقيقته، وهكذا الكثير تأخذ منه فردًا، فيكون كثيرًا، فيتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، ولا نحصل على مصداقٍ وفردٍ واحد.

هذا من جهة ومن جهة ثانية يلزم من ذلك الخُلف؛ لأنه عندما نقول: هذا فرد، فلا يمكن أن يتحقق فرد؛ لأنه مجرد أن يكون فردًا، لا بد أن يكون كثيرًا؛ لأن الكثرة إما تمام الذات أو جزء الذات أو لازم للذات، فيلزم من ذلك ألَّا يتحقق فرد، ويلزم من ذلك الخلف؛ لأننا افترضنا تحقُّق أفراد؛ فالكثرة تعني تحقُّق أفراد، هذا بناء على الفروض ‏الثلاثة.

وأما إذا قلنا، تكون الكثرة عرضًا مفارقًا؛ أي إن الكثرة منضمة إلى الماهيَّة، فحينئذٍ تكون الماهيَّة وهذا النوع المجرد قابلًا لأن ينضم إليه شي‏ء، قابلًا لأن يعرض ويُحمل عليه شي‏ء، بمعنى تُحمل وتعرض عليه الكثرة، والقبول وعدم القبول إنما يتحقق إذا كانت هناك مادة، أما إذا كانت الماهيَّة مجردة، فليس هناك إمكانٌ لأن يُحمل ويعرض عليها وينضم إليها شي‏ء؛ لأن ما لا مادة له ليس لديه استعدادٌ لقبول أو عدم قبول ما يعرض عليه.

وعليه يمكن تقرير هذه القاعدة وهي «أن كل نوعٍ كثير الأفراد مادي» وهذا ينعكس بعكس النقيض بأن ما لا مادة له — النوع المجرد — ليس بكثير الأفراد، وإذا صدق الأصل صدق العكس، وهذا العكس هو عكس النقيض على طريقة القدماء، وهو تبديل نقيضَي الطرفَين مع بقاء الصدق والكيف.

والنتيجة: أن كل ماهيَّة نوعية مجردة تكون منحصرة بفردٍ واحد؛ ولذلك يُقال: نوع منحصر في فرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥