في الكلي والجزئي ونحو وجودهما
إن الاختلاف بين الكلي والجزئي هل يعود إلى الإدراك أم المُدْرَك؟ أي إن الاختلاف بين مفهوم الكلي (مفهوم الإنسان في الذهن) وبين مفهوم الجزئي (زيد) أهو اختلافٌ من حيثُ الإدراكُ أم من حيثُ المُدرك؟ وبعبارةٍ أخرى: هل إدراك الجزئي بالحس، فيكون إدراكًا شديدًا، بينما إدراك الكلي هو إدراك عقلي؛ لأنه من المعقولات، فيكون هذا الإدراك ضعيفًا، بمعنى هل الاختلاف بين الكلي والجزئي يرتبط بالإدراك، فالإدراك للجزئي قوي لأنه حسِّي، بينما الإدراك للكلي ضعيف ومبهَم، لا ندركه بوضوح؛ ولذلك يقبل الكلي الانطباق على أكثر من واحد، أو أن الفرق بينهما هو: أن صورة الكلي المدركة غير صورة الجزئي؟
قال بعضٌ: إن الفرق بينهما يعود إلى نوع الإدراك؛ لأن نحو إدراك الكلي ضعيف ومضبَّب؛ ولذلك يمكن أن نطبِّقه على كثيرين، بينما نحو إدراك الجزئي شديد وواضح؛ لأنه صورةٌ جلية وناصعة؛ ولذلك لا تصدق على كثيرين.
وببيانٍ آخر: إن إدراك الكلي كالدرهم الممسوح — بلا كتابة — يمكن أن ينطبق على درهم العصر العباسي، أو على درهم العصر الأموي، أو درهم العصر العثماني، بينما هو في واقعه لا بد أن ينتمي إلى عصر من العصور، فهنا الفرق يعود إلى نحو الإدراك.
فيما قال الحكماء: إن الاختلاف والفرق يعود إلى نوع المدرك، وقد مثَّلوا ببعض الأمثلة: كما في إدراكنا لشبح من بعيد يتحرك، فإننا لا نعلم أهو إنسان أم سيارة أم حيوان؛ لأن صورته في الذهن كلية، فتنطبق على السيارة والإنسان والحيوان، ولكن الجزئي لا تنطبق صورته إلا على مصداقه؛ لأنها صورةٌ واضحة.
وبذلك يتضح أن الفرق بين الكلي والجزئي يعود إلى الصورة المُدركة؛ أي للمُدرَك لا لنحو الإدراك؛ لأن لازم القول بأن الفرق بين الكلي والجزئي يعود إلى نحو الإدراك، وأن الكلي هو نفس الجزئي، وأن الجزئي هو نفس الكلي، لازم ذلك سقوط القوانين العلمية وانهيارها؛ أي لازم ذلك ألا نصل إلى أي قانونٍ علمي في حقول العلوم جميعًا طبيعية أو غيرها؛ لأنه ما لم نقُل إن صورة الكلي في الذهن غير صورة الجزئي، لا يمكن أن ننتزع قانونًا عامًّا، فإذا كان هذا العام هو نفس الجزئي، فهذا القانون — كل حديد يتمدد بالحرارة — لا ينطبق على أية قطعة حديد سوى هذه التي بأيدينا مثلًا، فتسقط بذلك القوانين الكلية.
ومن هنا يتبيَّن أن الكلية والجزئية نحوان من وجود الماهيَّات؛ فالماهية الموجودة بالوجود الخارجي جزئيةٌ شخصية، والماهية الموجودة بالوجود الذهني كليةٌ مشترك فيها، كما شرح المصنف ذلك في نهاية الحكمة، المرحلة ٥ الفصل ٣.