في تميُّز الماهيَّات وتشخُّصها
معنى التميُّز والتشخُّص
تقدَّم في مبحث الوحدة التشكيكية للوجود أن تمايُز الوجودات بنفس الوجود، فإن ما به الامتياز فيها هو عين ما به الاشتراك، وأما التشخُّص فسيأتي في آخر الفصل وفي انقسام العلم الحصولي إلى جزئي وكلي، وقد مرَّت الإشارة إليه في الفصل السابق، وأنه وصف للوجود بالذات، وتتصف الماهية به بالوجود.
إن تميُّز ماهيَّة عن ماهيَّة كتميُّز ماهيَّة الإنسان عن ماهيَّة الحجر، معناه اختلافها ومغايرتها؛ فالإنسان ليس بحجر، والحجر ليس بإنسان، فهذه الماهية مباينة لتلك الماهيَّة؛ بحيث لا يمكن صدق الماهيتَين معًا على مصداقٍ واحد.
أما التشخُّص فيعني أن الماهيَّة المتشخِّصة هي التي تمتنع أن تصدُق على كثيرين؛ أي لا تصدُق إلا على فردٍ واحد، كتشخُّص ماهيَّة هذا الكتاب الذي بيدك؛ فماهيَّته متشخِّصة فيه، فهو لا يصدق على كتابٍ آخر، وكتشخُّص ماهيَّة الإنسان بزيد، فهو لا يصدُق على فردٍ آخر؛ فالماهيَّة المتشخِّصة هي الماهيَّة الموجودة في الخارج، التي لا تصدُق إلا على هذا الفرد؛ أي يمتنع صدقها على كثيرين.
التميُّز وصفٌ إضافي
يتضح مما سبق أن التميُّز وصفٌ إضافي للماهيَّة، بينما التشخُّص وصفٌ نفسي وليس بإضافي؛ فإن تميُّز ماهيَّة الإنسان عن الحجر، بمعنى إذا لاحظناها بالمقارنة لماهيَّة الحجر، فتكون مباينةً ومغايرةً له، أمَّا إذا لاحظنا ماهيَّة الإنسان بقطع النظر عن ماهيَّة الحجر أو أية ماهيةٍ أخرى، فلا تتميَّز، فهي إنما تتميَّز بملاحظتها بالمقارنة مع الماهيَّات الأخرى، وبالنسبة إلى غيرها.
أما التشخُّص فذاتي ونفسي، فعندما نلاحظ هذا القلم يكون متشخصًا بطوله ولونه ومواصفاته الخاصة، بقطع النظر عن مقارنته بالأقلام الأخرى، أو الأشياء الأخرى كالكتاب.
كذلك تبيَّن أن التميُّز لا يُنافي الكلية، بينما التشخُّص ينافي الكلية؛ فالتشخُّص معناه امتناع صدق هذا القلم على أقلامٍ كثيرة، التشخُّص غير الكلية، التشخُّص هو الجزئية الحقيقية، بينما التميُّز لا ينافي الكليَّة؛ لأنه يمكن أن ينضم كليٌّ إلى كليٍّ فلا ينتهي للجزئية ولا يحقِّقها.
فإن المتمايزَين قد يكونان كليَّين كما قد يكونان جزئيَّين، كالجوهر والكيف، أو هذا الجوهر وذاك الكيف، فيما إذا كان التمايز بتمام الذات، وكالإنسان والفرس، أو هذا الإنسان وذاك الفرس، فيما إذا كان التمايز ببعض الذات، وكالإنسان الطويل والإنسان القصير، أو هذا الإنسان الطويل وذاك الإنسان القصير، فيما إذا كان التمايز بالعرضيات المُفارِقة.
أنحاء التميز
إن التميز إما أن يكون بتمام الذات، كالتميُّز بين الجوهر والكيف والكم؛ أي التميُّز بين المقولات العشر، فإن هذه المقولات أجناسٌ عالية، وهي بسيطةٌ غير مركَّبة من مادة وصورة؛ أي غير مركَّبة من جنس وفصل؛ لأن المادة هي الجنس بشرط لا، والصورة هي الفصل بشرط لا؛ فلو فرضنا أنها مركَّبة لكان فوقها أجناس، وحينئذٍ يكون فوق الأجناس أجناس، وهكذا، فهي بسيطة، وهذه الأجناس البسيطة متباينة فيما بينها بتمام الذات.
أو يكون التميُّز ببعض الذات، كالتميُّز بين الفرس والإنسان؛ فهما مشتركان بالحيوان، ومتمايزان بالصاهل والناطق.
أو يكون التميُّز بما هو خارج عن الذات، يتمايزان بالأعراض المفارِقة أو قل بالمنضمَّات، بما هو عارضٌ ومنضمٌّ للذات، كالتميُّز بين الإنسان الطويل والقصير، الإنسان الذي يقرأ ويكتب والذي لا يقرأ ولا يكتب … إلخ؛ فهما يشتركان بماهيَّة واحدة، ولكن يمتازان بما هو منضمٌّ للماهيَّة، كالطول والعرض والقراءة والكتابة.
التميُّز بناءً على القول بأصالة الماهية
ذهب شيخ الإشراق السهروردي إلى أن هناك نوعًا آخر من التميُّز، وهو تميُّز الماهيَّات بالماهيَّة؛ أي إن القائل بأصالة الماهيَّة جوَّز التشكيك في الماهيَّة، فقال: في نوع واحد، كالإنسان مثلًا، يمكن أن تكون الماهيَّة مشككة، إنسان ضعيف، وإنسان قوي، إنسان قديم، وإنسان حديث … إلخ. وهنا ما به الامتياز يعود إلى الماهية، كما أن ما به الاشتراك بين هذه الأفراد من الإنسان الشديد والضعيف والمتقدم والمتأخر يعود إلى الماهيَّة أيضًا، بمعنى يمكن أن يختلف نوعٌ واحد فيما بين أفراده، على أساس الاختلاف في الماهيَّة؛ لأنه كما أن الاختلاف في الماهيَّة، كذلك يكون الاتحاد بالماهيَّة؛ فإن الإنسانيَّة الموجودة في الإنسان القديم غيرها في الإنسان الجديد؛ أي يعود ما به الاختلاف إلى ما به الاتحاد.
ولكن الصحيح — كما قرأنا فيما سبق في وحدة الوجود التشكيكية — أن الوجود حقيقةٌ واحدةٌ مشككة، وأن ما نراه من تشكيك لا يعود إلى الماهيَّة بل يعود إلى حقيقة الوجود؛ فكل ما نراه من اختلاف وتمايز في النوع الواحد، من الشدة والضعف، التقدم والتأخر، يعود إلى التمايز والاختلاف في حقيقة الوجود؛ لأن الوجود حقيقةٌ واحدةٌ مشككة ذات مراتب، والماهيَّة حقيقةٌ واحدةٌ لا مراتب لها؛ لأنه لا تشكيك في الماهيَّة.
وأما مفهوم الوجود فهو أيضًا كالمفاهيم الأخرى والماهيَّات لا تشكيك فيه إلا بالعرض؛ لأن التشكيك في حقيقة الوجود.
التشخُّص في الأنواع المجرَّدة والمادية
التشخُّص مرَّة يكون في الأنواع المجرَّدة — العقول — فيكون لازمًا لها؛ لأن النوع المجرد منحصر في فرد؛ أي للعقل مصداقٌ واحد، ولا يصدق إلا على فردٍ واحد، وهذا ما عبَّروا عنه بقولهم: «إن الأنواع المجردة مكتفية بالفاعل، تُوجَد بمجرد إمكانها الذاتي»؛ أي مكتفية بالفاعل وغير محتاجة إلى هيولى تحمل إمكانها الاستعدادي، وإنما يكفي إمكانها الذاتي في وجودها؛ فهي تُوجَد بمجرد إمكانها الذاتي، ولا تحتاج إلى إمكانٍ استعدادي تحمله المادة.
وأما التشخُّص في الأنواع المادية: كالحجر، والكتاب، فإنه يكون بالأعراض اللاحقة، وهذه الأعراض اللاحقة، هي: الأين؛ فهذه الورقة لها مكانٌ معيَّن مثلًا، والمتى؛ أي هي في زمانٍ معيَّن، والوضع؛ فلهذه الورقة هيئةٌ معيَّنة، فتشخُّص النوع المادي إنما يكون بلحوق هذه الأعراض به؛ هذا هو القول المشهور لدى الحكماء.
ولكن المصنف تبعًا للفارابي ومن جاء بعده كصدر المتألهين، يرى: أن التشخُّص إنما يكون بالوجود؛ فعندما تقول: إن ماهيَّة الورقة متشخِّصة، بالأين والمتى والوضع، فإن هذا الكلام غير تام؛ لأن ماهيَّة الإنسان أو الورقة ماهيةٌ كلية، والأين ماهيَّة كلية، والمتى ماهية كلية، والوضع كذلك، فانضمام كلي إلى كلي لا يفيد الجزئية، بل ما يفيد الجزئية هو التشخص، والتشخص إنما يكون بالوجود، سواء في الأنواع المجردة أو المادية؛ ولهذا قالوا: التشخُّص بالوجود لا بالماهية، وما عبَّروا عنه بأنه أعراضٌ مشخصة، كالوضع والأين والمتى … إلخ، إنما هي من لوازم التشخص ومن أماراته، لا أنها هي المشخصة؛ لأن هذه الأعراض هي ماهيَّات كليَّة، وبإضافة ماهيةٍ كلية إلى أخرى إلى أخرى … إلى ما لا نهاية، لا نحصل على الجزئي؛ أي إذا أضفنا ماهيَّة الإنسان الكلية إلى الأين والمتى والوضع والكيف … إلخ، فلا نحصل على ماهيَّة جزئية، إنما نحصل على ماهيَّة جزئية بتحقُّق الوجود لماهيَّة الإنسان، وهذه الأعراض التي تُسمَّى بالأعراض المشخصة، كالكم والأين والوضع ليست هي المشخصة، وإنما هي لازمة للتشخُّص اللازم للوجود.
ولا يخفى أن النوع المجرَّد لدى الفلاسفة مع قطع النظر عن الوجود يكون كليًّا، وإلَّا لم يكن نوعًا.