تعريف الجوهر والعرض – عدد المقولات
معنى المقولات
المفاهيم والمعاني والصور الموجودة في ذهن الإنسان، تنقسم إلى قسمَين؛ معانٍ جزئية ومعانٍ كلية، والمعاني الكلية خاصة هي التي نسمِّيها بالمعقولات، أمَّا المعاني الجزئية فلا نصطلح عليها بالمعقولات؛ فالمعقولات هي الصور الكلية الموجودة في الذهن. والمعاني الجزئية الموجودة في الذهن تنقسم إلى معانٍ محسوسة، ومعانٍ متخيَّلة، ومعانٍ موهومة؛ أما المعاني الكليَّة فهي تنقسم إلى: معقولاتٍ أولية، ومعقولاتٍ ثانية.
ولكي تتبيَّن هذه المسألة، نُشير إشارةً إجمالية إلى مسألة الإدراك؛ إذ يفسِّر الفلاسفة الإدراك على الوجه الآتي، عندما يواجه الإنسان أي شيء في الواقع الخارجي يدرك هذا الشيء عبْر حواسِّه؛ فأنت عندما ترى هذا الكتاب تحصل لديك صورةٌ له بواسطة حاسة البصر، وحينئذٍ يحصُل لديك ارتباطٌ واتصالٌ بالكتاب، من خلال هذه الحاسَّة، وتُوجَد هذه الصورة في القوة الحاسَّة، أو في المدارك الحسيَّة؛ ولهذا نقول: إن الكتاب الذي تراه أمامك هو صورةٌ محسوسة.
وتأتي بعد هذه المرحلة من الإدراك مرحلةٌ أخرى، وفي هذه المرحلة تعمل قوَّة أخرى تُسمَّى قوة الخيال؛ أي قوَّة الحافظة، وهذه القوة تلي قوة الحس، بمعنى أنها تكون فوقها في مرتبة، وفي درجةٍ أعلى منها.
وقوَّة الخيال تمارس عملًا على الصورة الموجودة في القوة الحاسَّة، وهذا العمل يطابق العمل الذي قامت به القوة الحاسَّة على الوجود العيني؛ فإن القوة الحاسَّة التقطَت هذه الصورة من الوجود العيني الخارجي، بينما قوة الخيال تأخذ هذه الصورة من القوة الحاسَّة؛ أي إنه في القوة الحاسَّة تحصل صورة عند الإحساس وهي الصورة الحسيَّة، بينما قوة الخيال تخلق صورةً تناسبها من تلك الصورة الحسيَّة، وهذه الصورة هي الصورة الخيالية.
وهنا ينبغي أن ننتبه إلى أن الصورة الموجودة في القوة الحاسَّة غير الصورة الموجودة في القوة الخيالية؛ أي إن القوة الحاسَّة تحتفظ بصورةٍ مناسبة لها، بينما قوَّة الخيال تصطنع صورةً غير تلك الصورة، وتكون هذه الصورة موجودةً في وعاءٍ خاص في قوة الخيال.
أما في المرحلة الثالثة، فتكون قوَّة الإدراك أرقى وأسمى من القوة الحاسة والقوة الخيالية، والقوة الثالثة يكون عملها بالنسبة إلى القوة الخيالية وكأنه عمل القوة الخيالية بالنسبة إلى القوة الحاسَّة؛ فالقوة الخيالية تأخذ الصورة عن القوة الحسيَّة، كذلك القوة الثالثة تأخذ الصورة عن القوة الخيالية وتحتفظ بها لديها، وهذه الصورة تتطابق وتتناسب مع القوة الثالثة، وحينئذٍ تكون هذه الصورة صورةً كلية، وهذه القوة نعبِّر عنها بالقوة العقلية؛ أي إن المرتبة العقلية هي المرتبة الثالثة، بينما المرتبة الأولى هي المرتبة الحسية، والثانية هي المرتبة الخيالية؛ ولهذا تكون المدركاتُ المحسوسة والمتخيَّلة مدركاتٍ جزئية، بينما المدركاتُ والمعاني المعقولة تكون مدركاتٍ كلية.
كيفية توالد المعقولات في الذهن
يُوجَد اتجاهان في تفسير هذه المدركات الكلية، اتجاه يذكُره نصير الدين الطوسي وابن سينا؛ حيثُ يذهب هذا الرأي إلى أن العقل يقوم بعملية تجريد؛ أي العقل يُحاول أن يجرِّد الصورة الحسيَّة، فيُبعد ما به الامتياز ويحتفظ بما به الاشتراك، ينفي ما به الامتياز ويبقي ما به الاشتراك؛ أي يجرد هذه الصورة، فحينئذٍ يحصل العقل على الكلي من الجزئي.
بينما ذهب صدر المتألهين إلى اتجاه آخر يرى أن الصورة الحسيَّة تبقى محفوظة في القوة الحاسة، والصورة الخيالية تبقى محفوظة في القوة الخياليَّة، فيما القوة العاقلة تخترع وتصطنع صورة تناسب مرتبة القوة العاقلة، وهذه هي الصورة العقلية؛ أي إن الصورة ترتقي وتتطور وتتعالى في القوى النفسية، الصورة الحسيَّة تتعالى إلى صورةٍ خيالية، والصورة الخيالية تتعالى إلى صورةٍ عقلية، بنوعٍ من التطور، وإن كانت كل صورةٍ تلبث في وعائها الخاص.
إذن الصورة الحسيَّة والخياليَّة هي صورةٌ جزئية، بينما الصورة العقلية صورة كلية.
أقسام المعقولات
المعقولات الموجودة في الذهن تنقسم إلى قسمين: معقولات أوليَّة، ومعقولات ثانية. والمعقولات الثانية تنقسم إلى قسمين: معقولات ثانية فلسفية، ومعقولات ثانية منطقية، والمقصود بالمعقولات الأولية، هي الصور الكلية أي المعاني الكلية المباشرة للأشياء في الذهن، أو قل هي ماهيَّات الأشياء، أو قل هي المقولات العشر التي سوف ندرسها هنا.
إذن فالمقولات تعني المعقولات الأولية، وتعني الماهيَّات، وهي المعاني الكلية التي يتلقاها الذهن مباشرة من الواقع، كمعنى الكتاب الكلي الموجود في الذهن، ومعنى البياض الكلي، ومعنى التراب الكلي، ومعنى الورقة الكلي … إلخ.
أمَّا المعقولات الثانية، فهي صفات وأحوال للمعقولات الأولية، وهي تارة تكون فلسفية وأخرى منطقية، والفلسفية هي ما نقرؤه في الفلسفة، كالإمكان والضرورة والوجوب، والامتناع، والعلة والمعلول، وغير ذلك. بينما المعقولات الثانية المنطقية هي ما نقرؤه في المنطق، كالكلي والجزئي، والمحمول والموضوع، وغير ذلك.
والمعقولات الثانية الفلسفية يكون الاتصاف بها بالخارج وعروضها في الذهن، بينما المعقولات الثانية المنطقية الاتصاف بها في الذهن وعروضها في الذهن أيضًا.
الفرق بين المعقولات الأولية والمعقولات الثانية
توجد فروق أساسية بين القسمين من المعقولات، فالمعقولات الأولية: هي المعاني الكلية للأشياء التي يتلقاها الذهن مباشرة من الخارج، بينما المعقولات الثانية هي مجموعة أوصاف وأحوال ذهنية للمعقولات الأولية؛ ولذلك نقول: إن المعقولات الثانية منتزعة من المعقولات الأولية، ومعنى كونها مجموعة أوصاف وأحوال للمعقولات الأولية يمكن تصويره بالمثال الآتي، فلو لاحظنا مفهوم الكتاب الكلي فهو معقول أولي؛ أي ماهيَّة الكتاب في الذهن معقول أولي، ولكن اتصاف الكتاب بكونه كليًّا — مفهوم الكتاب في الذهن كلي وليس جزئيا — فهذه الكلية أي مفهومها أو وصفها معقول ثانٍ، وصف الأمر الفلاني بأنه علة معقولٌ ثانٍ. مثلًا النار علة للغليان، فاتصاف النار بكونها علة والغليان معلولًا، هذا نفسه معقول ثانٍ لا أولي، ولهذا يُقال: المعقولات الثانية لم تؤخذ من الخارج، بينما المعقولات الأولية مأخوذة من الخارج مباشرة، وكلاهما مفاهيم كلية.
فالمعقولات الأولية عبارة عن المفاهيم أو المعقولات التي يتلقاها الذهن مباشرةً من الخارج، بينما المعقولات الثانية أوصافٌ وأحوالٌ ذهنية للمعقولات الأولية، وهذا ينطبق على المعقولات الثانية المنطقية؛ لأن عروضها في الذهن والاتصاف بها في الذهن.
كما أن المعقولات الثانية لا مصداقَ مستقلًّا لها في الخارج؛ أي إنها غير موجودة في الخارج بوجودٍ منحازٍ مستقل، بخلاف المعقولات الأولية، فمفهوم الكتاب الكلي، فإن له مصداقًا في الخارج، بينما المعقولات الثانية لا مصداق لها في الخارج؛ فالمعقولات الثانية منتزعة من المعقولات الأولية، بينما المعقولات الأولية منتزعة ومأخوذة من الخارج مباشرة.
وهنا نذكر مثالًا للمعقولات الثانية المنطقية، كما نذكر مثالًا للمعقولات الثانية الفلسفية؛ فمثلًا الكلي والجزئي من المعقولات المنطقية، مفهوم الكتاب يتصف في الذهن بأنه كلي، والكلية هي قابلية المفهوم على أن ينطبق على مصاديقَ كثيرة ولو بالفرض، وهذه القابلية حالةٌ من الحالات التي يتصف بها مفهوم الكتاب في الذهن؛ فالاتصاف بالكلية يكون في الذهن، كما أن عروضها يكون على المفهوم الذهني، كمفهوم الكتاب الذهني. والجزئية كذلك أيضًا. وإن كنا نقول أحيانًا لشيء بأنه جزئي أو متشخِّص، لكن الجزئي غير المتشخِّص، التشخُّص يساوق الوجود؛ فالتشخُّص عين الخارج، أما الجزئي بالمصطلح المنطقي فهو صفةٌ للمفهوم مقابل صفة الكلي؛ أي إن المفهوم الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين هو الجزئي، ولهذا نقول: إن الجزئية من أحوال المفهوم الذهني، وليست من أحوال الأمر الخارجي المتشخِّص.
فالجزئية والكلية هي معقولاتٌ ثانية منطقية؛ أي إن الاتصاف بها في الذهن، وعروضها في الذهن أيضًا. كذلك الكليات الخمس، الجنس، والنوع، والفصل، والعرض العام، والخاصة، كلها من المعقولات الثانية المنطقية.
وللمعقولات الثانية، سواء كانت منطقية أو فلسفية، دورٌ أساسي في المعرفة البشرية.
أما المعقولات الثانية الفلسفية، فالاتصاف بها يكون في الخارج، ولكن عروضها يكون في الذهن. ومعنى ذلك أن ما هو موجود في الخارج تارةً يكون وجوده مستقلًّا، كوجود الكتاب، الحجر، الإنسان، ومرَّة لا يكون وجود الشيء الخارجي مستقلًّا، مثل لون هذا الكتاب، أو الحرارة بالنسبة للماء؛ فالحرارة ليست موجودة بشكلٍ مستقل، لكن الحرارة موجودة في الخارج، وهي ليست عين الماء الحار، وإن كانت الحرارة ليست منفصلةً عن الماء، فإذن هي موجودة، ولكن وجودها وجودٌ عرضي؛ فهي حالةٌ عارضة للماء، وهذه الحالة منضَمة إلى الماء؛ فعندما يكون الماء حارًّا، يكون للماء وجود، وللحرارة وجود، لكن الفرق بين الوجودَين هو أن وجود الماء مستقل وقائم بنفسه، بينما وجود الحرارة يكون عارضًا على الماء وغير منفصل عنه، وإن كانت الحرارة موجودةً في الخارج.
وليس وجود المعقولات الثانية الفلسفية في الخارج كوجود الحجر، الذي هو وجودٌ مستقل، ولا كوجود الحرارة التي هي حالة في الماء، وإنما هي موجودة بوجود منشأ انتزاعها.
ومن أمثلة المعقولات الثانية الفلسفية هي الماهيَّة، لكن ليس بمعنى المقولات العشر، بل بمعنى مفهوم الماهيَّة، الذي هو مفهومٌ عامٌّ ينطبق على كل المقولات العشر؛ فالماهيَّة معقولًا ثانيًا غير الماهية معقولًا أوليًّا، الماهيَّة معقولًا أوليًّا هي المقولات العشر، بينما الماهيَّة معقولًا ثانيًا بمعنى ما هو مُنتزَع من هذه المقولات العشر؛ أي الكلي الذي ينطبق عليها.
وهنا يكون مفهوم الماهيَّة كمفهوم العلِّية والمعلولية، والإمكان، والضرورة، فهذه كلها معقولاتٌ ثانيةٌ فلسفية، لا وجودَ مستقلًّا لها في الخارج كوجود الحجر، كما أن وجودها ليس كوجود الحرارة بالنسبة للماء، لكن مع ذلك تتصف الأشياء بها في الخارج؛ فاتصاف النار بأنها علَّة للغليان، هذه الصفة موجودة في الخارج، ولكن صفة العليَّة هذه ليس لها وجودٌ غير وجود النار؛ أي النار كما هي مصداق لماهية النار كذلك هي مصداق لمفهوم العلة؛ ولذلك يكون مفهوم العلة، مفهومًا ثانيًا فلسفيًّا، مفهومًا انتزاعيًّا، الاتصاف به في الخارج، بينما عروضه يكون في الذهن، وعلى هذا الأساس تختلف المعقولات الفلسفية عن المعقولات المنطقية.
المقولة
الجوهر والعرض
تنقسم الماهية انقسامًا أوليًّا إلى قسمَين، كما تنقسم الكلمة انقسامًا أوليًّا إلى: اسم وفعل وحرف، ثم بعد هذا الانقسام الأوَّلي، ينقسم الفعل إلى: ماضٍ ومضارع وأمر، فهذا انقسامٌ ثانٍ.
وهنا نقول أيضًا الماهيَّة تنقسم انقسامًا أوليًّا إلى: جوهر وعرض، وهذا الانقسام هو للماهيَّة بمعنى المعقول الثاني لا المعقول الأول. وما يندرج تحت هذه الماهيَّة هو المعقولات الأولية؛ أي الجوهر والأعراض التسعة.
تعريف الجوهر
المقصود بالجوهر، هو الماهية التي إذا وُجدَت في الخارج وُجدَت لا في موضوع، كالكتاب يُوجَد في الخارج مستقلًّا؛ أي قائمًا بنفسه، وجوده غير وجود الحرارة للماء، أو البياض للورقة؛ فالحرارة موجودة بغيرها، بينما الكتاب موجود بنفسه.
قد يُقال: بعض الجواهر موجودة في الخارج ولكن لا بنفسها، بل موجودة في موضوع، من قبيل الصورة الجسمية الموجودة في المادة، فهي موجودة في موضوع، فلا ينطبق عليها تعريف الجوهر؛ ولهذا ذكروا قيدًا، فقالوا: إن الموجود في موضوع له نوعان، تارةً يكون موجودًا في موضوع، وهذا الموضوع مستغنٍ عنه، كالحرارة الموجودة في الماء، ولكن الماء مستغنٍ عن الحرارة؛ فلو جردنا الماء عن الحرارة لبقيَ الماء، كذلك البياض فإنه موجود في الورقة، وهي مستغنية عن البياض؛ إذْ لو جرَّدنا الورقة من البياض لبقيَت الورقة، فهذا نوع من الوجود في موضوع، وفيه يكون الموضوع مستغنيًا عنه.
وأخرى يكون الموجود في الموضوع غير مستغنٍ عنه الموضوع؛ أي لو لم يُوجَد الحالُّ لم يُوجَد المحلُّ فعليًّا، كالصورة الجسمية، التي تفيد فعلية الجسم في الامتدادات الثلاثة؛ فالجسم له فعلياتٌ متعددة، أحدها أنه ممتد في الأبعاد الثلاثة، الطول، العرض، العمق، والتي منها يتشكَّل الحجم، إذن فالصورة الجسمية تفيد فعلية الجسم في الأبعاد الثلاثة، وهذه الصورة موجودةٌ في موضوع، وموضوعها هو المادة، ولكن المادة غير مستغنية عن الصورة؛ لأن الصورة هي التي تحقِّق الفعلية؛ إذ لولا الصورة لما تحقَّق ارتفاع أو طول أو عرض، وبهذا القيد الجديد ينطبق تعريف الجوهر على الصورة، فنقول: الصورة مع أنها موجودةٌ في موضوع، موجودة في المادة، ولكن هذا الموضوع غير مستغنٍ عنها؛ لأن المادة غير مستغنية في وجودها عن الصورة، باعتبار أن الصورة هي التي تفيد فعلية المادة، والصورة الجسمية هي التي تفيد فعليَّة الجسم في الامتدادات الثلاثة.
ولهذا قُيد التعريف بهذا القيد، فقيل: إن ماهية الجوهر إذا وُجدَت في الخارج وُجدَت لا في موضوعٍ مستغنٍ عنها في وجوده.
تعريف العرض
العرض هو الموجود في موضوع، لكن ليس كل ما وجد في موضوع هو عرض، بل العرض هو ما وُجد في موضوع وكان الموضوع مستغنيًا عنه، كالحرارة الموجودة في الماء، والماء مستغنٍ عنها، والبياض الموجود في الورقة، والورقة مستغنية عن البياض؛ ولهذا نقول: الماهيَّة إذا وُجدَت في الخارج، ووُجدَت في موضوع، وكان هذا الموضوع مستغنيًا عنها، كانت هذه الماهيَّة هي العرض.
الدليل على وجود الجوهر والعرض
وجود الجوهر والعرض بديهي؛ لأن الأعراض لا شك في وجودها، والفلاسفة كلهم آمنوا بوجودها، لكن منهم من أنكر الجوهر، كالفلاسفة الماديين، والمصنِّف يقول إن من ينكر الجوهر لا بد أن يقول بجوهرية الأعراض؛ لأن الجوهر هو عبارة عن المحور الذي تلتقي به هذه الأعراض؛ فلو لاحظت التفاحة، فإن لها لونًا، وهو عرض، ولها طعم، وهو أيضًا عرض، ولها وزن، وهو كذلك عرض … إلخ، فهذه الأعراض بمجموعها تلتقي بمحورٍ واحد هو التفاحة، وهو الجوهر؛ أي لو ذهب لون التفاحة تبقى تفاحة، كذلك لو ذهب طعمها، أو وزنها تغيَّر، أو رائحتها تغيَّرت، فإنها تبقى تفاحة؛ فبقاؤها يعني بقاء جوهرها، وانعدامها يعني انعدام جوهرها، فالذي ينفي الجوهر لا بد أن يقول بجوهرية الأعراض؛ أي إنه يذهب إلى أن حقيقة التفاحة في أعراضها؛ وبالتالي حتى من ينفي وجود الجوهر لا بد أن يقول بوجود حقيقةٍ للأشياء، وهذه الحقيقة هي الجوهر، وإن لم يُسمِّه هو بهذا الاسم فإنه حيث أنكر الجوهر يجب أن يلتزم بأن الأعراض لا تحتاج إلى موضوع، فهي جواهر.
المقولات لا أجناس فوقها
الجوهر والعرض هي مقولاتٌ وأجناسٌ عالية؛ أي إن هذه الأجناس لا أجناس فوقها، وإلَّا لو قلنا بوجود أجناس فوقها، فذلك يعني أن هذه الأجناس لا بُدَّ أن تكون مركَّبة؛ أي يكون الجوهر مركَّبًا من جنس ومن فصل، وحينئذٍ لا بد أن تكون الأجناس التي فوقها مركَّبة أيضًا، وهكذا إلى ما لا نهاية، فيتسلسل، والتسلسل مُحال.
الفرق بين الجوهر والعرض
هناك فرق بين الجوهر والعرض، وهو أن مفهوم الجوهر مفهومٌ ماهوي؛ أي معقول أولي؛ لأنه أحد المقولات العشر، بينما مفهوم العرض مفهومٌ فلسفي؛ أي معقولٌ ثانٍ فلسفي؛ لأنه ليس واحدًا من المقولات العشر، بل هو مفهومٌ أو عرضٌ عام ينطبق على مقولات العرض التسع، ومثله كمثل مفهوم الماهية، فهو مفهومٌ ثانٍ فلسفي؛ أي معقولٌ ثانٍ فلسفي، ينطبق على الجوهر والعرض، كذلك مفهوم العرض، هو معقول ثانٍ فلسفي، ينطبق على مقولات العرض التسع، وليس جنسًا لمقولات العرض؛ لأن مقولات العرض أجناسٌ عالية لا جنس فوقها، وهي بسيطة، كالجوهر الذي هو جنسٌ عالٍ لا جنس فوقه.
عدد المقولات
عدد المقولات عشر، وهي الجوهر، والمقولات التسع العرضية هي: الكم، والكيف، والأين، والمَتى، والوضع، والجدة، والإضافة، وأن يفعل، وأن ينفعل، كما قال المشَّاءون، ودليلهم على ذلك هو الاستقراء.
ولكن ذهب عمر بن سهلان الساوجي صاحب البصائر النصيرية إلى أن المقولات أربع، وهي: الجوهر، والكَم، والكيف، والبقيَّة السبع، اعتبرها واحدة، وعبَّر عنها بالنسبة، بالتزام كون النسبة ذاتيًّا لها وجنسًا عاليًا فوقها؛ لأن الأين هو نسبة الشيء إلى المكان، والمَتى نسبة الشيء إلى الزمان، والوضع نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض، والجدة نسبة حاصلة من إِحاطة شيء بشيء، والإضافة تكرُّر النسبة بين شيئَين.
أمَّا شيخ الإشراق السهروردي فقد اعتبر المقولات خمسًا، وهي: كم، وكيف، ونسبة، وحركة، وجوهر.
والبحث في كتب الفلسفة في هذه المسائل مفصَّل وطويل، ونحسب أن استغراق الفلسفة القديمة في مثل هذه المشاغل هو الذي استهلك عبقرية الفلاسفة في قضايا نظرية بعيدة عن الواقع، وأعاق الفلسفة الإسلامية عن أن تؤسِّس لنهضةٍ جديدةٍ للأمة في العصر الحديث.