في الكيف
الكيف هو المقولة الثانية بعد مقولة الكم من مقولات العرَض التسع، وهو عرضٌ لا يقبل القسمة ولا النسبة لذاته. وفي هذا التعريف ثلاثة قيود، وهي:
- الأوَّل: أنه عرض.
- الثاني: أنه لا يقبل القسمة ولا النسبة.
- الثالث: أنه لا يقبل القسمة ولا النسبة لذاته.
أما القيد الأول، فهو أن الكيف عرضٌ كالكَم، وكمقولات العرض التسع الأخرى، وبذلك أخرج الجوهر. والكيف ماهيَّة عرضية لأن الماهيَّة تنقسم بالانقسام الأوَّلي إلى جوهر وعرض، وإن العرض عنوانٌ عام ينطبق على مقولات العرض التسع.
أما قيدُ أنه لا يقبل القسمة ولا النسبة لذاته، فأخرج بقوله «لا يقبل القسمة» الكَم؛ لأن الكَم يقبل القسمة العقلية لذاته.
أما بقوله «ولا النسبة»، فأخرج بها المقولات النسبية السبع: الأين، الجدة، والمتى، والإضافة، والفعل، والانفعال، فإنها كلها عبارة عن نسبة شيء إلى شيءٍ آخر؛ فالأين هو هيئةٌ حاصلة من نسبة الشيء للمكان، والمتى هيئةٌ حاصلة من نسبة الشيء للزمان … إلخ. فانحصر الأمر بالكيف.
أما قوله لذاته؛ لأن الكيف قد يقبل القسمة لكن لا لذاته، وإنما بالعرض؛ لأن ما يقبل القسمة لذاته هو الكم، ولكن بواسطة الكَم يقبل الكيف القسمة، وقد يقبل الكيف النسبة، لكن لا لذاته بل بواسطة مقولةٍ نسبيةٍ معيَّنة؛ فمثلًا المسطرة نقسِّمها إلى سنتيمترات، ونفترض أن لون المسطرة أصفر، فاللون ينقسم إلى سنتيمترات، فالانقسام في الواقع ليس للون؛ لأن اللون كيف، بل الانقسام لعرضٍ آخر، الانقسام بالذات للكَم، وأما انقسام اللون فهو انقسامٌ بالعرض؛ أي الانقسام للمتر وهو كَم، فإنه ينقسم إلى سنتيمترات، وانقسام اللون الأصفر إلى سنتيمترات هو انقسامٌ بالعرض.
تجدُر الإشارة إلى أن تعريف الكيف وبقية الأعراض هي من نوع التعريف بالرسم، لعدم إمكان تعريف الأجناس العالية بالحدِّ.
أقسام الكيف
- القِسم الأول: الكيفيات النفسانية.
- القِسم الثاني: الكيفيَّات المختصَّة بالكمِّيات.
- القِسم الثالث: الكيفيات الاستعدادية.
- القِسم الرابع: الكيفيات المحسوسة.
هذه الأقسام الأوَّلية للكيف.
ثم تُقسَّم الكيفيات المختصة بالكمِّيات تقسيمًا ثانويًّا إلى: كيفٌ مختصٌّ بالكَم المنفصل؛ أي بالعدد، كالزوجية والفردية بالنسبة للعدد، وكيفٌ مختصٌّ بالكم المتصل، بمعنى كيف مختص بالحجم والسطح، كالأشكال المختصة بالسطح؛ المثلث، المربع، المستطيل، أو الأشكال المختصة بالحجم؛ المكعب، المخروط. وهناك كيفٌ مختصٌّ بالكَم المتصل، ولكنه مختصٌّ بالخط، كالاستقامة والانحناء.
كما أن الكيفيات المحسوسة تنقسم إلى: كيفياتٍ ملموسة، كالحار، والبارد، والناعم، والخشن. وكيفياتٍ مبصَرة، كاللون، والضوء. وكيفياتٍ مسموعة، كالأصوات. وكيفياتٍ مشمومة، كالروائح. وكيفياتٍ مَذُوقة، كالطعوم.
كما تنقسم الكيفيات المحسوسة إلى: سريعةِ الزوال تُسمَّى انفعالات، وراسخةٍ تُسمَّى انفعاليات. هذا فهرسٌ عامٌّ لأقسام الكيف، والآن ندخل في بيان الأقسام بالتدريج.
(١) الكيفيات النفسانية
القسم الأول من أقسام الكيف هو الكيفيات النفسانية، وهي أمورٌ مجرَّدة، وليست أمورًا مادية، فهي حالَّة بالنفس، والنفس جوهرٌ مجرَّد في ذاته، فما يحلُّ بالنفس؛ أي الأعراض الحالَّة بها تكون أيضًا مجرَّدة، ألَم نقُل فيما سبق بأن العلم مندرج تحت مقولة الكيف، وهو من نوع الكيف النفساني؛ أي إن العلم عرَض، وإن معروضه؛ أي الجوهر الذي يحلُّ فيه، هو النفس، فالكيفيات التي يكون معروضُها النفس يُعبَّر عنها بالكيفيات النفسانية.
وكما أن النفس مجرَّدة فما يحلُّ فيها يكون أيضًا مجرَّدًا؛ فالكيفيات النفسانية مجرَّدة عن المادة، كالجبن والشجاعة، واليأس، والرجاء، والحب، والخوف، والعلم … إلخ. وأما عدد هذه الكيفيات النفسانية، فقد ذكروا عددًا كبيرًا لها، وقد أحصاها بعضهم إلى «٧٠٠» مثلًا.
(٢) الكيفيات المختصَّة بالكمِّيات
القسم الثاني من أقسام الكيف هي الكيفيات التي تختص بالكميات، لاحظ العدد ثلاثة فهو كَم، والعدد أربعة فإنه كَم أيضًا، وهذا الكَم منفصل، وهذا الكَم المنفصل يكون معروضًا لعرضٍ معيَّن؛ أي يكون محلًّا يحلُّ فيه أمرٌ آخر، فالثلاثة تحلُّ فيها الفردية؛ إذ تكون الفردية عارضةً على هذا الكَم المنفصل، والزوجية تكون عارضةً على الأربعة؛ أي على هذا الكَم المنفصل؛ وبالتالي يكون الكيف عارضًا على الكَم، فالعارض هو الكيف ومعروضه هو الكَم.
إذا لاحظنا خطًّا معينًا — والخط هو كمٌّ متصل — فتارةً يكون هذا الخط مستقيمًا وتارةً أخرى منحنيًا؛ أي إن كيفيته هي الاستقامة أو الانحناء، وهذه الكيفية حالَّة في الكمية. وإذا لاحظنا شكلًا معينًا، كهذا السطح الذي شكله مربع، أو ذلك السطح الذي شكله مستطيل أو مثلث، أو لاحظنا حجمًا معينًا؛ أي جسمًا تعليميًّا، وكان الحجم على شكل مكعَّب أو مخروط أو كرة، فهذه كيفيات كلها تختص بالكمِّيات.
وبهذا يتبيَّن أن العرض يُمكِن أن يحلَّ في عرضٍ آخر، كالزوجية الحالَّة في عرضٍ آخر هو الأربعة التي هي كم؛ أي إن الكيف قد حلَّ في الكم، وكلاهما عرَض.
وتارةً أخرى يكون العرض حالًّا في الجوهر، كما في اللون الأبيض لهذه الورقة، فاللون الأبيض كيفٌ حالٌّ في جوهر هو الورقة.
فالكيفيات المختصة بالكمِّيات تارةً تكون مختصة بالكَم المنفصل كالعدد، وتارةً تكون مختصة بالكم المتصل؛ أي بالسطح، أو الجسم التعليمي.
(٣) الكيفيات الاستعدادية
القسم الثالث للكيف هو الكيفيات الاستعدادية، ويعبَّر عنها بالقوة واللاقوة، لاحظ الحديد مثلًا، فقابليَّته للمطاوعة محدودة، ولكن الإسفنج بطبيعته مرنٌ ومطاوع؛ ولهذا نقول: إن الحديد فيه استعدادٌ شديد نحو اللاانفعال، بينما الإسفنج فيه استعدادٌ شديد نحو الانفعال، وهذا الانفعال واللاانفعال يُسمَّى بالقوة واللاقوة، فالقوة هي استعدادٌ شديد نحو اللاانفعال، واللاقوة استعدادٌ شديد نحو الانفعال، ويبدو أن القوة هنا بمعنًى يُرادف المقاومة في مقابل الضغط الخارجي.
وهذه الكيفيات الاستعدادية يُعتبر منها مطلَق الاستعداد القائم في المادة؛ أي من أقسام الكيفيات الاستعدادية هو الاستعداد الموجود في المادة.
إشكال وجواب
قد يُقال: كنتم تقولون إن المادة هي القابلية والاستعداد لقبول الصور، وهنا تقولون بأن الاستعداد القائم في المادة كيفٌ استعدادي؛ وبالتالي يكون عرضًا والمادة جوهر، فما هي العلاقة بين الكيف الاستعدادي وبين المادة؟
كنا نقول بأن المادة هي الاستعداد والقابلية، والآن نقول بأن هذا الاستعداد الموجود في المادة هو كيفيةٌ استعدادية، والكيف عرَض، فكيف يُحل هذا الإشكال؟ أي قد يتبادر إلى الذهن أن المادة أيضًا عرَض لأننا كنَّا نعبِّر عنها سابقًا بالاستعداد.
الجواب: إن العلاقة بين المادة وبين الاستعداد الموجود فيها، هي كالعلاقة بين الجسم الطبيعي والجسم التعليمي؛ فالجسم الطبيعي هو الامتداد في الجهات الثلاث، لكنه امتدادٌ مبهَم غير محدَّد، والذي يحدِّد ويعيِّن مقدار هذا الامتداد هو الجسم التعليمي، والجسم الطبيعي جوهر، والجسم التعليمي عرَض.
فهنا نقول الشيء نفسه؛ فالنسبة بين المادة وبين الاستعداد هي كالنسبة بين الجسم الطبيعي والجسم التعليمي؛ أي إن المادة هي الاستعداد المبهَم؛ إذ يُوجَد استعداد في المادة لقبول الصور، ولكن هذا الاستعداد غير متعين، بينما الكيف الاستعدادي هو نفس هذا الاستعداد، ولكن مع التعيُّن وتحديد المستعد له، بمعنى ماذا سيكون، بينما المادة الأولى — الهيولى — لا يتحدَّد المستعد له فيها، وإنما فيها قابليةٌ أن تقبل أيَّ صورة من الصور، فحينئذٍ المستعد له غير مشخص وغير معين بالنسبة للمادة؛ أي مجرد استعدادٍ مبهم، بينما في الكيف الاستعدادي يكون المستعد له معينًا؛ أي استعدادًا متعينًا، محددًا.
وبتعبيرٍ آخر إن المادة الأولى هي محضُ استعداد، بينما الكيف الاستعدادي هو تحدُّد وتعيُّن ذلك الاستعداد المبهَم غير المعيَّن، كما أن الجسم الطبيعي هو محض الامتداد المبهَم غير المعيَّن، بينما الجسم التعليمي هو امتدادٌ محدَّد ومعيَّن.
قال المصنِّف في نهاية الحكمة الفصل ٥ المرحلة ٦: «فنسبة الاستعدادات المتفرِّقة المتعيِّنة إلى الاستعداد المبهَم الذي للمادة في ذاتها، نسبة الأجسام التعليمية والامتدادات المقدارية التي هي تعيُّنات للامتداد والاتصال الجوهري إلى الاتصال الجوهري.»
(٤) الكيفيات المحسوسة
من المعروف أن الحواس على قسمَين؛ حواس ظاهرة، وحواس باطنية؛ أي في نفس الإنسان، والكيفيات المحسوسة هي الكيفيات المحسوسة بالحواسِّ الظاهرة، وهي خمسُ حواسَّ معروفة.
وعلى هذا الأساس فإن الكيفيات المحسوسة تنقسم إلى: كيفٍ ملموس، كالحار والبارد، والناعم والخشن، وكيفٍ مبصَر، كالنور واللون، وكيفٍ مسموع، وهو الأصوات، وكيفٍ مشموم، وهو الروائح، وكيفٍ مَذُوق، وهو الطعوم.
وهذه الكيفيات المحسوسة تنقسم بلحاظٍ آخر أيضًا إلى قسمَين: كيفيات محسوسة سريعة الزوال، كالحُمرة في الوجه عند الخجل، والصُّفرة في الوجه عند الخوف، وعند ارتفاع العارض؛ أي عندما يرتفع الخوف أو الخجل، فحينئذٍ ترتفع الصُّفرة أو الحُمرة، فهذه كيفياتٌ نُحس بها ولكنها سريعة الزوال، وتُسمَّى انفعالات.
وإذا كانت الكيفيات المحسوسة راسخة وثابتة؛ أي لا تزول، كصُفرة الذهب، وبياض القطن، وحلاوة العسل، تُسمَّى انفعاليات. وهنا زادوا حرفًا ليزداد المعنى، بناءً على قولهم: إن زيادة المباني تدُل على زيادة المعاني.
تشكيك علماء الطبيعة بوجود الكيفيات
إن علماء الطبيعة في العصر الحديث، منذ الاكتشافات العلمية، شكَّكوا بوجود هذه الكيفيات المحسوسة، فقالوا: إنها ليست موجودةً في الخارج كما هي عند الحواس، فأنت مثلًا إذا لمستَ شيئًا خشنًا وكانت يدك خشنة، فخشونة هذا الشيء لا تُحس بأنها شديدة، لكن لو كانت يدك ناعمة فسوف تُحس بأنها شديدة الخشونة.
ولو كانت يدُك مرتفعة الحرارة، إثر إصابة الحمَّى، ثم وضعتَها في ماءٍ حار لدرجة «٣٨°م» فسوف تشعر بأن هذا الماء بارد، بينما لو كانت درجة حرارة يدك «٣٦°م» ووضعتَها في ماء درجة حرارته «٣٨°م» فسوف تشعُر بأن هذا الماء حارٌّ.
فالإحساس نفسه يتأثَّر بوضع الإنسان وتفاعُله مع تلك الأشياء المحسوسة، بل الفيزياء الحديثة تقول في تفسير الألوان إن الطيف الشمسي فيه سبعة ألوان، وعندما يسقط على جسمٍ معيَّن كالورقة، يمتص الجسم بقية الألوان ويعكس اللون الأبيض مثلًا. وإذن فهذا الجسم ليس في ذاته وحقيقته أبيض أو أسود، ولهذا قالوا: بأن هذه الكيفيات المحسوسة وجودها في الخارج غير وجودها في حواسِّنا. فالموجود في الخارج هو الموجود ولكنه يظهر في الحس كما نراه.