في المقولات النسبية
المقولات النسبية هي: الأيْن والمَتى والجدة والإضافة والوضع والفعل والانفعال، وسمِّيَت بالمقولات النسبية لأنها كلها هيئة ونسبة، فعندما نُعرِّفها نقول: هيئةٌ حاصلة من نسبة كذا إلى كذا؛ فالأيْن هو هيئةٌ حاصلة من نسبة الشيء إلى المكان، والمَتى هو هيئةٌ حاصلة من نسبة الشيء إلى الزمان، وهكذا.
وقد أنكر المصنِّف — كما سيأتي في الفصل ١٠ من المرحلة ١٠ — أن يكون الأينُ مقولةً برأسها، وإنما اعتبره ضربًا من الوضع.
ثم أشار المصنِّف إلى مسألة وهي أن وجود الشيء في الزمان أعمُّ من كونه في الزمان أو في طرف الزمان، والزمان — كما قرأنا سابقًا — هو أحد أنواع الكَم المتصل؛ أي كم متصل غير قارٍّ، بمعنى متصرِّم أو متدرِّج أو غير ساكن؛ ولذلك يُقال في تعريف الزمان: إنه كمٌّ متصلٌ غير قارٍّ عارض على الحركة يتعيَّن به امتداد الحركة؛ لأن امتداد الحركة مبهَم والذي يعيِّنه ويحدِّده هو الزمان، فإذا حرَّكتَ يدك لمدة نصف دقيقة، فإن الحركة مبهَمة ولكن الزمان حدَّدها؛ أي إن هذه الثلاثين ثانية كل ثانية منها تمثِّل جزءًا من أجزاء الحركة؛ أي تنطبق الحركة على أجزاء الزمان، فكون شيء في الزمان أعمُّ من كونه في نفس الزمان مثل الحركات، الحركة التي هي خروج الشيء من القوة للفعل تدريجيًّا، واقعة في نفس الزمان، أو كونه في الزمان، هو كون الشيء في طرف الزمان وهو الآن.
معنى الآن
إن هناك مصطلحَين للآن؛ إذ تارةً يُستعمل الآن ويُراد به المعنى العُرفي المتداوَل، وتارةً يُستعمل ويُراد به المعنى الفلسفي.
والمعنى العرفي يغاير المعنى الفلسفي؛ فعندما نقول: آنٌ من الآنات في الاستعمال العُرفي، نعني بذلك قطعةً من قِطع الزمان، وهذه القطعة لا بد أن تكون زمانًا ما؛ أي ثانيةً ما أو دقيقةً ما مثلًا، أو جزءًا من الثانية.
بينما المقصود بالآن بالمصطلح الفلسفي هو غير ذلك؛ أي هو ما لا ينطبق عليه الزمان، وهو طرف الزمان، وكما أن النقطة طرف الخط وهي خارجةٌ عنه خروج الحد عن المحدود، كذلك الآن هو طرفُ الزمان وهو خارجٌ عن الزمان؛ لأن الزمان يمثِّل أمرًا متدرجًا، بينما الآن لا تدرُّج ولا امتداد فيه، كالخط الذي هو امتدادٌ ذو بعدٍ واحد، بينما النقطة لا امتداد فيها؛ ولذلك هي خارجةٌ عن الخط، كذلك الآن؛ فالآن هو طرف الزمان، وهو خارج عن الزمان لأنه لا تدرُّج فيه.
وبعبارةٍ أخرى إن الموجود هو الزمان، أما طرف الزمان الذي هو الآن، فإنه أمرٌ منتزَع عنه لا وجود له مستقلًّا.
وهنا عندما نقول إن الشيء في الزمان، فإنه أعم من أن يكون الشيء في نفس الزمان، كالحركات التي هي في الزمان، أو أن يكون الشيء في طرف الزمان؛ أي نسبة الشيء إلى الآن؛ فليس مقصودنا عندما نقول «الآن» هو هيئة حاصلة من نسبة الشيء للزمان، ليس المقصود هو أن يكون الشيء في الزمان، وإنما المقصود نسبة الشيء إلى أن يكون في الزمان كالحركات، أو نسبة الشيء إلى الآن الذي هو طرَفُ الزمان.
وما يكون وجوده وجودًا تدريجيًّا متصرِّمًا يكون له امتداد، فيكون في الزمان، والزمان هو الذي يُعيِّن امتداده، أمَّا الذي يكون وجوده وجودًا دفعيًّا فلا يكون في نفس الزمان، وإنما يُنسب إلى طرَف الزمان، وطرَف الزمان — كما قلنا — لا امتداد له. وهذا الوجود الدفعي الذي يتحقق ليس له امتداد؛ وبالتالي فلا يكون متدرجًا؛ أي لا يكون له زمان، كالاتصال والانفصال والمماسة؛ فإنها لما لم يكن لها امتداد لا تقع في الزمان، وإنما تقع في طرفه؛ فإن كلًّا منهما إنما هو طرفٌ لأمرٍ ممتد، وهي الحركة، والحركة تقع في الزمان، فطرَفها لا يقع إلَّا في طرَف الزمان، وهو الآن.
فأنت عندما تحرِّك يدك، فإنها تتصل بالكتاب مثلًا، وعندما تنفصل يدك عن الكتاب تتحرَّك، فهذا الاتصال والانفصال لا يكون في الزمان وإنما يكون في طرَف الزمان؛ أي في الآن، وهو خارج عن الزمان. بينما الحركة تكون في الزمان، فعندما تحرَّكَت اليد، في هذه الحركة وُجِد امتداد، تدرُّج، تصرُّم، وهذا كما في الخط؛ فكما أنه يمتد إلى «٣٠سم» مثلًا، فعندما ينتهي في طرفه ينتهي بالنقطة، وهي خارجة عن الخط، وهنا أيضًا الزمان يمتد بثلاثين ثانية مثلًا، وينتهي بالآن الذي هو لا تدرُّج فيه، وهو خارج عن الزمان، وفي هذا الآن يحصُل الاتصال ويحصُل الانفصال أو تحصُل المماسة؛ أي الجامد يمسُّ جامدًا. وعلى هذا الأساس عندما يُقال نسبة الشيء إلى الزمان، فإنه بمعنى كونه في الزمان أو في طرَف الزمان.
الحركة القطعية
الحركة هي خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجًا، وهذه الحركة تُلاحَظ بلحاظَين؛ أي باعتبارَين، فمرَّةً نلاحظها (كما إذا تحرك إنسانٌ من مكانٍ إلى مكان، كأن يسافر من البصرة إلى بغداد، فهذا المسافر نلاحظ حركته بلحاظَين) باعتبارها منقسمةً إلى أجزاء، المتر الأول، الثاني، الثالث، الرابع … إلخ. والزمان هو الذي يعيِّن هذا الامتداد؛ فالمتر الأول حصل في الثانية الأولى، والمتر الثاني حصل في الثانية الثانية، وهكذا، فهذه الحركة بهذا اللحاظ — الانقسام إلى أجزاء، وهذه أجزاءٌ افتراضية، يفترضها العقل وليس هي بالفعل، وإلَّا فالموجود هو موجودٌ واحدٌ سيَّال — كل جزء يفترضه العقل للحركة ينطبق على جزءٍ مفروض للزمان؛ لأن الزمان هو الذي يُعيِّن امتداد الحركة. وعلى هذا نقول بأن المتر الأول من الحركة يقع في الثانية الأولى من الزمان، وهكذا، إلى أن نصل إلى نهاية الحركة، وهذا يعني أن كل جزء من أجزاء الحركة ينطبق على جزء من زمان تلك الحركة.
وعلى هذا الأساس يعبَّر عن هذه الحركة بأنها حركةٌ قطعية، وهي تعني انطباق الحركة على أجزاء الزمان؛ لأن الحركة هذه بمثابة قطع، وكل قطعة تنطبق على مقطع وجزء من الزمان. وهذا تقطيعٌ تحليلي، عقلي، افتراضي.
الحركة التوسطية
هي كون المتحرك بين المبدأ والمنتهى؛ فعندما نقول: هل تحرك فلان؟ نجيب: نعم هو في الطريق؛ أي هو يتحرك في الطريق، فحركته حركةٌ توسطية؛ أي عندما قطع كيلومترًا هو في الطريق، وعندما قطع عشرة كيلومترات فهو في الطريق أيضًا، وعندما كان في الكيلومتر الأخير فهو ما زال بين المبدأ والمنتهى، وعند وصوله إلى المنتهى تنتهي الحركة التوسطية؛ فهذه الحركة تتوسَّط بين المبدأ والمنتهى.
وعلى هذا الأساس يقولون، إن الحركة التوسطية ذات مفهومٍ بسيط؛ أي لا تدرُّج ولا تصرُّم ولا انقضاء فيه؛ فهو مفهومٌ واحدٌ ينطبق على كل جزءٍ من الأجزاء.
وبعبارةٍ أخرى إن المتحرك في وقتٍ ما، يكون في هذا الزمان المفروض متوسطًا بين المبدأ والمنتهى، ولكن التوسُّط — وهي الحركة التوسُّطية — ليس له امتدادٌ تدريجي، تكون نسبته إلى أجزائه المفروضة نسبة الكل إلى الأجزاء، بل تكون نسبته إلى كل حد من حدود الحركة القطعية نسبة الكلي إلى أفراده؛ فإن المتحرك في كل حدٍّ من حدود المسافة يكون متصفًا بأنه متوسط بين المبدأ والمنتهى، فله في كل حدٍّ فرد من التوسُّط.
الفرق بين الحركة التوسطية والقطعية
وإذا أردنا التمييز بين الحركة التوسطية والقطعية، فالحركة هي حركةٌ واحدة في الخارج، ولكننا نلاحظها من زاويتَين، فإن الحركة القطعية هي من قبيل الكل والأجزاء، بينما الحركة التوسطية هي من قبيل الكلي والجزئي، ففي الحركة القطعية تُوجَد أجزاء وقطع للحركة، ولكن هل الحركة القطعية ينطبق فيها الكلي على الأجزاء؛ أي هي تنطبق على المتر الأول وعلى المتر الثاني وهكذا، أو أن الكل يساوي مجموع الأجزاء، كالإنسان يساوي الحيوان والناطق، فالإنسان لا ينطبق على الحيوان وحده أو الناطق وحده؛ أي الكل لا يصدق على جزءٍ جزءٍ، بل على مجموع الأجزاء؟
الجواب: إن الحركة القطعية تمثل الكل بالنسبة إلى أجزائه، أما الحركة التوسطية فهي ليست كذلك، بل تمثِّل الكُلي إلى جزئياته أو أفراده ومصاديقه، فإذا لاحظنا الحركة التوسطية فإن نسبتها إلى المتر الأول والمتر الثاني والمتر الأخير واحدة؛ كلٌّ من هذه الأجزاء والمقاطع ينطبق عليه حركة توسطية؛ لأن نسبتها نسبة الإنسان الكلي إلى زيد الجزئي.
هذا كله في التحليل العقلي للحركة، وإلَّا ففي الخارج تُوجَد حركةٌ واحدة لا حركتان، ولكن العقل إذا لاحظها بلحاظ معيَّن يعبِّر عنها بالحركة القطعية، وإذا لاحظها بلحاظٍ آخر يعبِّر عنها بالحركة التوسطية؛ أي إذا لاحظها على وجه الانطباق على الزمان يعبِّر عنها بالحركة القطعية، مقاطع وأجزاء للحركة تنطبق على مقاطع وأجزاء الزمان، وإذا لاحظها بين المبدأ والمنتهى؛ أي في الطريق، يعبِّر عنها بالحركة التوسطية.
والمصنِّف يقول: إذا كان شيء في الزمان، فإنه أعَم من كونه في الزمان، كالحركة، أو في طرف الزمان، كالاتصال والانفصال والمماسة، وكذلك أعم من كونه على وجه الانطباق؛ أي حركة قطعية، أو ليس على وجه الانطباق؛ أي حركة توسطية.
الوضع
هو هيئةٌ حاصلة من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعضها الآخر، ونسبة المجموع إلى الخارج؛ فلو كنت في حالة جلوس مثلًا، فإن جسمك فيه أجزاء، فإذا لاحظنا نسبة هذه الأجزاء بعضها إلى بعضها الآخر، كنسبة رجلَيك أو يدَيك إلى رأسك، ثم نسبة هذا المجموع، اليدَين والرجلَين والرأس إلى الخارج، فهذا نُسمِّيه وضعًا، هذه هي ماهيَّة الوضع؛ فالوضع، هو هيئتك الآن بوضعٍ معيَّن، جلوسك أو قيامك مثلًا، ثم نسبة وضعك هذا إلى الخارج.
الجدة
ويعبَّر عنها بالمِلك، وهي هيئةٌ حاصلة من إحاطة شيء بشيء، كإحاطة العباءة بالإنسان، أو لبس الجورب؛ فهو محيط برجلك، فهذه الهيئة الحاصلة من إحاطة المحيط بالمحاط، يُقال لها الجدة.
الإضافة
هيئةٌ حاصلة من تكرُّر النسبة بين شيئَين، فإذا كان هناك أبٌ أو ابن، فإن الأب إنما يكون أبًا بالنسبة للابن، والابن كذلك بالنسبة للأب؛ لأنه لا أب بدون ابن، ولا ابن بدون أب، فالنسبة هنا متكرِّرة بين الأب والابن، فهذه الهيئة الحاصلة من تكرار النسبة بين الأب والابن أو بين الزوج والزوجة أو بين الفوق والتحت هي الإضافة.
والفرق بين الإضافة وغيرها، هو أن النسبة هنا وحدها وبنفسها لا تحقِّق الإضافة المقولية، بل لا بد أن تتكرر النسبة من طرف الابن للأب ومن طرف الأب للابن، أمَّا إذا لم تتكرَّر النسبة وكانت ذات طرفٍ واحد، فحينئذٍ لا تكون هذه الإضافة مقولية، وإنما هي إضافةٌ إشراقية، كإضافة المعلول إلى علته؛ أي إنه في الإضافة الإشراقية يُوجَد طرفٌ واحد لا طرفان، والإضافة الإشراقية ليست من المقولات النسبية؛ لأنها وجود وليست ماهية، بينما الإضافة المقولية من المقولات النسبية؛ لأن فيها طرفَين، وفيها نسبة، كما هي بين الزوج والزوجة وبين الفوق والتحت.
وهذه الإضافة تنقسم إلى قسمَين:
-
(١)
متشابهة الاطراف ومختلفة الأطراف، والمتشابهة الأطراف هي التي تكون على صعيدٍ واحد؛ أي في درجةٍ واحدة وبمستوًى واحد، كزيد وبكر الأخوَين مثلًا، زيد أخٌ لبكر وبكر أخٌ لزيد.
-
(٢)
الإضافة غير المتشابهة الأطراف؛ أي المختلفة الأطراف، فهي التي لا يكون فيها المضافان برتبةٍ واحدة، مثل أب وابن، فالأب رتبتُه متقدِّمة على الابن، أو الفوق والتحت، فالفوق غير التحت، وليسا في رتبةٍ وصعيدٍ واحد، بينما الأخ والأخ برتبةٍ واحدة في الأخوَّة.
ومن خواصِّ الإضافة، أن المتضايفَين متكافئان وجودًا وعدمًا؛ أي إذا وُجِد أحدُهما فالآخر موجود، وإذا عُدِم أحدهما فالآخر كذلك، فإذا كان الأب موجودًا فالابن كذلك، ومتكافئان قوةً وفعلًا، فإذا كنتَ أبًا بالقوة، يمكن أن تتزوَّج وتنجب الابن، فالابن بالنسبة لك كذلك بالقوة.
وإن المضاف تارةً يُطلق على الإضافة نفسها، كالتحتية، الفوقية، الزوجية، الأبوة، البنوة، وهذا يُسمَّى المضاف الحقيقي، وهذه هي الإضافة المقولية. وأخرى يُطلق المضاف على ما تعرَّض عليه الإضافة؛ أي تُطلَق على الزوج والزوجة، أو الابن أو الأب، وهذا ليس مضافًا حقيقيًّا بل هو مضافٌ مشهوري، بمعنى هو المتعارَف لدى الناس.
وبعبارةٍ أخرى إننا مرَّة نطلق الإضافة على الزوجية؛ أي على عنوان الزوجية الذي هو عنوانٌ انتزاعي، ماهيَّة من الماهيَّات العرضية، وهو إضافةٌ مقولية، ومرَّة أخرى نُطلِق المضاف على نفس الزوج أو الزوجة، ونفس الزوج ليس عرضًا بل الزوج جوهر، أمَّا عنوان الزوجية المنتزع فهو عنوانٌ عرضي، وهذا العنوان العرضي هو إضافةٌ مقولية.
إذن المضاف قد يطلَق ويُراد به المضاف الحقيقي، وقد يُطلَق ويُراد به المضاف المشهوري.
الفعل
هو الهيئة الحاصلة من تأثير المؤثِّر ما دام يؤثِّر؛ فعندما تلاحظ ماءً على النار يغلي، فهذا المعنى والمفهوم الذي ينتزعه ذهنك من تسخين النار للماء، ما دام هذا الماء يسخن بشكلٍ تدريجي، يُعبَّر عنه بالفعل، فالفعل ماهيَّة عرضية نسبية.
الانفعال
هو الهيئة الحاصلة من تأثُّر المتأثِّر ما دام يتأثر؛ أي إذا لاحظتَ العنوان والمفهوم الذي ينتزعه ذهنك من تأثُّر المتأثر — الماء ما دام يغلي — فهذه الهيئة الحاصلة هي الانفعال، فالانفعال إذن هو ماهيَّة عرضية تُعَبِّر عن المنتزع من انفعال الماء وتأثُّره عندما يغلي ويسخن بسبب النار مثلًا.
وهنا في الفعل والانفعال أخذنا في التعريف قيد (ما دام)، ما دام يؤثِّر في الفعل، وما دام يتأثَّر في الانفعال، فهذا القيد — ما دام — يعني التدرُّج في تعريف الفعل والانفعال، فإن «ما» في قولنا «ما دام» ظرفيةٌ زمانية، والزمان تدريجي.
وإنما أُخِذ هذا القيد لكي نُخرِج أفعال الواجب تعالى، وانفعال الجوهر المجرَّد في ذاته وفي فعله، وهو العقل كما قالوا.
فإن فعل الواجب تعالى لا تنطبق عليه مقولة الفعل المذكورة هنا؛ لأن فعله عندما خلق العقل، الذي يعتقد به الفلاسفة — العقل المجرد — خلقه خلقًا إبداعيًّا وليس تدريجيًّا؛ ولذلك فإن حد الفعل لا ينطبق عليه؛ لأن المأخوذ في الفعل هو التدريج.
كما أن انفعال العقل المجرد؛ أي تحقُّقه وخروجه من العدم إلى الوجود، لم يُؤخذ فيه التدريج، فلا ينطبق عليه مقولة الانفعال؛ لأنه بمجرد إمكانه الذاتي يتحقَّق ويُوجد.
وهنا قد يُقال: لماذا أخرجنا العقل من قضية التدُّرج، واعتُبر فعل المولى للعقل إبداعيًّا؟
الجواب: إن التدرج إنما يكون في المادة؛ لأن التدرج يحتاج إلى مادة، والمادة هي موضوع التغيُّرات، والتدرُّج هو التغيُّر، أمَّا العقل فهو مجرَّد في ذاته وفي فعله، فلا يمكن أن يكون متدرجًا.
وبكلمةٍ بديلة إن الفعل والانفعال الإبداعيَّين ليسا من الماهية في شيء، بل من صفات الوجود، فإن وجود المعلول إذا قيس إلى ذاته (القابل) كان انفعالًا، وإذا قيس إلى العلة (الفاعل) كان فعلًا؛ أي إن الفعل والانفعال الإبداعيَّين هما الإيجاد والوجود، والإيجاد هو الوجود، والاختلاف بالاعتبار، والوجود، ليس ماهية.