في أقسام الجوهر
لكل من الجوهر والعرَض أقسام، والبحث هنا عن أقسام الجوهر، ثم عن أقسام العرض بعد ذلك.
في أقسام الجوهر تُوجَد عدة أقوال، نوجزها فيما يلي:
-
(١)
أن الجوهر ماهية أو معقولٌ أولي، ينقسم إلى خمسة أقسام، وهي: المادة، والصورة، والجسم، والنفس، والعقل.
-
(٢)
أن الماهية تنقسم إلى: جوهر وعرض، وكما أن العرض هو عرضٌ عام ينطبق على مقولات العرض التسع، كذلك الجوهر هو عرضٌ عام لمقولات الجوهر الخمس؛ أي إن الجوهر ليس ماهية من الماهيَّات، مثلما أن مفهوم العرض ليس ماهية من الماهيَّات، بمعنى كما أن مفهوم العرض معقولٌ ثانٍ فلسفي كذلك هو مفهوم الجوهر.
-
(٣)
أن الجوهر ماهيَّة من الماهيَّات، وهذه الماهيَّة تندرج تحتها بعض هذه الأقسام الخمسة، ولا يندرج بعضها الآخر، كما أن الحيوان ماهيَّة من الماهيَّات، وهذه الماهية تندرج تحتها أنواعٌ متعددة، كالإنسان مثلًا، كذلك الجوهر ماهيَّة تندرج تحتها بعض الأقسام، كما سيأتي تفصيل ذلك.
والمصنف يرى أن الجوهر معقولٌ أولي، وهو ماهيَّة من الماهيَّات، وهو أحد المقولات العشر، وهذه الماهيَّة تنقسم انقسامًا أوليًّا إلى: المادة، والصورة، والجسم، والنفس، والعقل. وإن كان بعض هذه الأقسام لا يندرج تحت الجوهر بالذات، كالصورة والنفس التي تدخل تحت الجوهر بالعرض.
والدليل على أن أقسام الجوهر هي هذه الأقسام الخمسة هو كالدليل على عدد المقولات — أي انحصار عدد المقولات بعشر — فالاستقراء العقلي أثبت وجود هذه الأقسام الخمسة ولم يُثبت غيرها من الجواهر.
معنى العقل
للعقل معانٍ عديدة، منها عقل الإنسان، ولكن المقصود بالعقل هنا، كما يقول الحكماء. هو الجوهر المجرَّد عن المادة ذاتًا وفعلًا.
ويعرِّفه المصنِّف: بأنه جوهر، لأنه موجود لا في موضوع، وهذا الجوهر مجرَّد عن المادة في ذاته، كما أنه في فعله مجرَّد عن المادة أيضًا، فلا يرتبط بالمادة لا ذاتًا ولا فعلًا.
والقول بوجود العقل يبتني على أن الوجود له مراتب؛ فالمرتبة الأولى هي عالم المادة، عالم الطبيعة، والمرتبة التي تلي هذا العالم هي مرتبة عالم المثال، أو ما يصطلح عليه ﺑ «عالم الملكوت»، وهو العالم المجرَّد عن المادة ولكن تُوجَد فيه آثار المادة، ثم تلي هذه المرتبة في الوجود مرتبة أخرى، أو عالم آخر هو ما يُعبَّر عنه ﺑ «عالَم الجبروت»، وهو عالَم العقول، وهذا العالَم مجرد عن المادة؛ أي إن هذه العقول مجرَّدة عن المادة في ذاتها وفي فعلها أيضًا، ومن وراء ذلك العالم الربوبي، العالم الإلهي، عالم الواجِب تعالى. وهذه العوالم — كما قالوا — كلُّ عالمٍ منها محيط بالآخر وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ؛ وبالتالي هنا تسلسل وطولية بين هذه العوالم؛ فالمقصود بالعقل هو هذا، لا عقل الإنسان.
معنى النفس
النفس هي الجوهر المجرَّد عن المادة ذاتًا المتعلق بها فعلًا؛ فالنفس الإنسانية ليست مادِّية في ذاتها، ولكنها في فعلها ليست مجرَّدة عن المادَّة، بل هي في فعلها مادِّية؛ فأنت تَرى بعينك، وتأكل بيدك، وتسمع بأذُنِك، فالنفس تتصرف بوسائل مادية.
وهناك في علم النفس الفلسفي أكثر من نظرية عند الفلاسفة المسلمين في تفسير حقيقة النفس، أشهرها النظرية التي ترى أن النفس موجودٌ مجرَّد، مادي في الفعل لا في الذات، وهي في قبال البدن الذي هو مادي؛ فالإنسان عندما يُخلق يُخلق ببدنه المادي ونفسه المجرَّدة.
وتعريف النفس بأنها «الجوهر المجرد عن المادة ذاتًا المتعلق بها فعلًا» إنما يصح على مبنى ابن سينا في النفس، من أنها روحانية الحدوث والبقاء، أو على مبنى أفلاطون، من أنها روحانيةٌ قديمة، وأمَّا على مبنى صدر المتألهين، من كونها جسمانية الحدوث روحانية البقاء، فلا يصح هذا التعريف؛ حيث ذهب صدر المتألهين إلى أن النفس تبدأ بدايةً مادِّية، فالإنسان عندما يُخلق ابتداءً هو مخلوقٌ مادِّي بحت، ثم بعد ذلك تبدأ نفسه تتجرد من المادة، طبقًا لقانون الحركة الجوهرية، فتبدأ النفس بالتحرُّر والتجرُّد من المادة، حتى تتجرد تجردًا تامًّا عن المادة في مراحل تكاملها، وحينئذٍ تكون غير مادية، لكن تبقى مادية في فعلها، ولكن بفعل الحركة الجوهرية — كما تقول نظرية صدر المتألهين بناء على الحركة الجوهرية — ربما تتجرَّد النفس في مراحلها النهائية حتى عن المادَّة في فعلها.
معنى المادة
هي الجوهر الحامل للقوَّة؛ أي هي الجوهر الذي يحمل استعداد الأشياء وقوَّتها. خُذ هذا الكتاب، أو الحجر، أو النبات، أو أي شيءٍ ماديٍّ آخر، فستلاحظ فيه حيثيتَين:
- الأولى: حيثية الفعلية.
- الثانية: حيثية القوة.
فهذا بالفعل هو كتاب، لكن حيثية القوة والاستعداد، أن هذا الكتاب فيه استعداد ليكون رمادًا بعد أن يحترق. لاحظ النطفة هي بالفعل نطفة، لكن هذه النطفة فيها حيثية واستعدادٌ لتكون علقة.
ولا إشكال في أن حيثية الفعل هي غير حيثية القوة والاستعداد؛ فما يحمل القوة والاستعداد هو المادة، والعلاقة بين الإمكان الاستعدادي وبين المادة كالعلاقة بين الجسم التعليمي والجسم الطبيعي؛ فالجسم الطبيعي جسمٌ مبهَم غير معيَّن، فمتى تعين هذا الجسم فكان أسطوانيًّا، أو هرميًّا، أو مكعبًا، فالذي يُعيِّن هذه الأبعاد هو الجسم التعليمي؛ إذن الجسم التعليمي عرض يُعيِّن أبعاد الجسم الطبيعي؛ أي يُخرج أبعاده من الإبهام إلى التحدُّد والتعيُّن. الجسم التعليمي يعني الامتداد في الأبعاد الثلاثة.
وهنا الشيء نفسه يُقال؛ فالمادة جوهر، والعلاقة بين المادة وبين الإمكان الاستعدادي الموجود فيها هي كالعلاقة بين الجسم التعليمي والطبيعي، فالجسم الطبيعي جوهر والجسم التعليمي عرض، فالاستعداد الموجود في المادة هو الذي يعيِّن ما تئول إليه المادة؛ أي المادة الموجودة في النطفة تكون علقة، وهكذا، وسيأتي بيان هذه المسألة في فصلٍ قادم.
معنى الصورة
الصورة الجسمية، هي الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيثُ الامتداداتُ الثلاثة، الطول والعرض والعمق؛ فالمادة حاملة للاستعداد، والصورة هي التي تمنحها الفعلية، فالصورة تُعطي الفعلية للمادة، والصورة تُمثِّل حيثية الفعلية للمادة، بينما المادة تُمثِّل حيثية القوة، فالذي يُعطي للمادة حيثية الفعلية في الامتداد بالجهات الثلاث هو الصورة. وهنا نُنبِّه على نكتة وهي أن الصورة التي تفيد فعلية المادة من حيثُ الطولُ والعرضُ والعمقُ لا تفيد الفعلية مطلقًا، فالمصنف قيَّد ذلك قائلًا: من حيثُ الامتداداتُ الثلاثة، ولم يقلُ مطلقًا؛ فلو أن هذه المادة أصبحت عنصرًا ما، كالهيدروجين، والأوكسجين مثلًا، فإنها تحتاج إلى الصورة العنصرية، إضافة للصورة الجسمية، فالصورة الجسمية، وظيفتها أن تمنح المادة الأبعاد الثلاثة، أما الذي يجعل المادة أوكسجينًا أو زئبقًا مثلًا، فهو الصورة العنصرية لعنصر الأوكسجين أو لعنصر الزئبق، فليس الصورة الجسمية وحدها تفيد فعلية المادة من حيثُ العنصر الفلاني، أو الشيء المعيَّن كالماء، بل لا بد، بالإضافة إلى الصورة الجسمية، من الصورة العنصرية للماء مثلًا؛ ولهذا قال المصنف بأن الصورة الجسمية هي الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاثة، لا من حيثُ الفعليةُ مطلقًا، وإلَّا فالمادة تحتاج إلى صورةٍ أخرى لتكون شيئًا معينًا؛ فلكي تكون المادة ماءً مثلًا، تحتاج بالإضافة إلى الصورة الجسمية، إلى الصورة العنصرية أو إلى الصورة المائية.
معنى الجسم
هو الجوهر الممتد في جهاته الثلاث، هذا هو القسم الثالث للجوهر، وهو ما يتألف من المادة الأولى والصورة الجسمية.
والتركيب هنا هو تركيبٌ اتحادي لا تركيبٌ انضمامي، وإلَّا لو كان التركيب انضماميًّا فلا يُوجَد لدينا جوهرٌ جديد كالجسم، الذي يكون مؤلَّفًا من هذَين الجوهرَين، وهما الصورة والمادة، فلا بد أن يكون التركيب اتحاديًّا.
رأي المصنِّف في أقسام الجوهر
وهذا التقسيم للجوهر إلى أقسامه الخمسة لا يرتضيه المصنِّف؛ أي إنه يقول: إن بعض هذه الأقسام الخمسة مندرجٌ تحت الجوهر، وبعضها الآخر غير مندرج. والمندرج تحت الجوهر هو: الجسم والمادة، أما الصورة والنفس فهما داخلان تحت الجوهر بالعرض؛ لأننا عندما نلاحظ الصورة والنفس، نرى أن الصورة والفصل متحدان ذاتًا مختلفان اعتبارًا، كما أن الجنس والمادة متحدان ذاتًا مختلفان اعتبارًا؛ حيثُ قلنا فيما سبق إن المادة إذا أُخذَت لا بشرط كانت جنسًا، والجنس إذا أُخذ بشرط لا كان مادةً، والشيء نفسه يُقال في الفصل والصورة فهما كالمادة والجنس، فالصورة والفصل متحدان ذاتًا مختلفان اعتبارًا، وعلاقة هذا بكلامنا هو أنه لو كانت الصورة مندرجة تحت الجوهر، لكان الجوهر جنسًا للصورة، وللزِم من ذلك التسلسل، وهو مُحال.
أما كيف يلزم المُحال؟ فإنه لمَّا كانت الصورة هي الفصل لا بشرط، والفصل هو الصورة بشرط لا، والفصل غير مندرج تحت جنسه، فالناطق غير مندرج تحت الحيوان — كما قرأنا سابقًا — لأنه لو كان الفصل مندرجًا تحت جنسه لاحتاج إلى فصلٍ يقوِّمه، وننقل الكلام إلى هذا الفصل، ثم ننقل الكلام إلى ذلك الثالث، وهكذا، فيتسلسل إلى ما لا نهاية، والتسلسل مُحال.
فالفصل غير مندرج تحت جنسه، وإذا كانت الصورة هي الفصل؛ لأنهما متحدان ذاتًا مختلفان اعتبارًا، فهل تندرج الصورة تحت الجوهر؟ أي هل يكون الجوهر جنسًا لها؟
الجواب: إذا كانت الصورة هي الفصل، فمُحال أن يندرج الفصل تحت جنسه؛ لأنه يلزم التسلسل بترتُّب فصول لا متناهية، وهو مُحال؛ فالصورة الجسمية ليست مندرجة تحت الجوهر؛ أي ليست هي جوهرًا بالحمل الشائع، بمعنى أنها ليست مصداقًا للجوهر، وإن كان ينطبق عليها مفهوم الجوهر وعنوانه بالعرض، فليس لها من الجوهر إلَّا المفهوم؛ فهي جوهر بالحمل الأولي.
وكذلك الكلام يجري في النفس أيضًا، فلا يبقى مندرجًا تحت الجوهر إلَّا المادة والجسم؛ فالنفس لا تندرج تحت الجوهر؛ لأنه تقدم سابقًا أن الفصل الحقيقي للإنسان هو النفس الناطقة؛ فالنفس هي الفصل، والفصل لا يندرج تحت جنسه، فالنفس لا تندرج تحت الجوهر، وإن صدق عليها مفهوم الجوهر.
وكما أن دخول الصورة الجسمية والنفس في التقسيم اعتباري، كذلك دخول العقل في التقسيم اعتباري لا حقيقي؛ إذ إن العقل كالنفس لا مادة ولا صورة لهما حقيقة؛ وبالتالي لا جنس ولا فصل لهما، فالجنس والفصل بينهما اعتباريان.