في الجسم
بحث الجسم يدخل في الطبيعيات، وهو من بحوث الفيزياء في العلم الحديث، ولكن لمَّا كانت الفلسفة قديمًا هي أم العلوم، وكانت الطبيعيات تُبحث في الفلسفة أدرج هذا البحث في الفلسفة.
وفي هذا الموضوع يُوجَد بُعدان في البحث، الأول يرتبط بالفلسفة؛ أي بالإلهيات بالمعنى الأعم، والآخر يرتبط بالفيزياء، والأول هو ما يتعلق بوجود الأجسام؛ أي وجود عالم الأجسام المادية، أو ما نُعبِّر عنه بعالم المادة، وبالمصطلح الفلسفي هو ما يتألف من مادة وصورة، هذا البحث تتكفَّله الفلسفة؛ لأن بعض الاتجاهات الفلسفية أنكرَت وجود عالم الأجسام.
والبعد الآخر في البحث يتعلق بتحليل حقيقة هذه الأجسام وتأليفها وتركيبها، ويتكفَّل هذا البحث عادةً علم الفيزياء.
فهذا البحث إنما يُذكر لبيان البُعد الفلسفي فيه، وإن كان المصنِّف قد أشار إلى هذا البُعد إشارةً سريعة، ثم دخل في بيان نظريات القدماء فيما يتألف منه الجسم وحقيقة الجسم، وهذه النظريات، كما سنلاحظ، من النظريات المنسوخة علميًّا، بعد أن كشف العلم الحديث أن ما نراه من الأجسام هي مركَّباتٌ مؤلَّفة من عناصر، والعناصر مؤلَّفة من جُزَيئات، والجُزَيئات مؤلَّفة من ذرَّات، والذرَّات مؤلفة من نواة فيها بروتونات ونيترونات ومدار يحتوي على الإلكترونات.
والمقصود بالجسم في عنوان هذا الفصل هو الجسم الطبيعي، كالماء والأرض والحجر والشجر، لا الجسم الصناعي، كالبيت، ولا الاعتباري.
الجسم الطبيعي والجسم التعليمي
في الجسم لديهم مصطلحان:
- الأول: هو الجسم الطبيعي.
- الثاني: هو الجسم التعليمي.
والفرق بين المصطلحَين، هو أن المقصود بالجسم الطبيعي هو الجوهر الذي هو أحد أنواع الجواهر الخمسة المذكورة فيما سبق، والمقصود بالجسم التعليمي هو نفس الامتداد، ولنمثِّل لذلك بمثال، ولنفترضه هذا الحجر الذي أمامك، فالمقصود بالجسم الطبيعي هو هذا الجسم.
أمَّا الجسم التعليمي فهو الامتداد في الجهات الثلاث، أو هو فعلية الامتداد في الجهات الثلاث، الطول والعرض والارتفاع، وهو بالتالي أحد أنواع الكم، والكَم عرض من الأعراض.
وبالنتيجة الجسم التعليمي عرضٌ قائم وموجود في الجسم الطبيعي؛ أي موجود في موضوع، بينما الجسم الطبيعي موجود لا في موضوع مستغنٍ عنه.
والمقصود هنا هو الجسم الطبيعي، الذي هو أحد أنوع الجواهر الخمسة، والجسم الطبيعي يتألف من المادة والصورة.
والمصنِّف يشير هنا إلى أن وجود الجسم مما لا إشكال فيه. وقد يسأل سائل: لماذا أشار المصنِّف إلى ذلك؟ الجواب: هناك بعض الاتجاهات الفلسفية الشاذة التي أنكرَت عالم الطبيعة، وأنكرَت وجود الأجسام أساسًا، بل أنكرَت الواقع مطلقًا.
أما الصورة فهي لا تتجرَّد عن المادة مطلقًا؛ لأن كل ما في عالم الطبيعة قابل للتغيُّر، فلا بد من شيء تطرأ عليه الصورة النوعية الفلانية، ثم الصورة النوعية الفلانية، إلى أن يصل هذا الشيء إلى الصورة الحاضرة، فلا بد أن تُلازِم كلَّ صورة مادةٌ، لتجري هذه التغييرات؛ ولهذا لا تتجرَّد ولا تنفكُّ الصورة عن المادة، والمادة عن الصورة.
مهمَّة الفلسفة الإلهية الأساسية هي إثبات الواقع؛ لأن الحكمة الإلهية التي ندرُسها، تعني البحث عن أحوال الموجود من حيثُ إنه موجود، أمَّا تفاصيل أوضاع الموجود الطبيعي الخاصة فهذا شأن العلوم الطبيعية لا شأن الفلسفة.
حقيقة الجسم
نلاحظ كل جسم في الحس أنه متصل؛ أي قطعةٌ واحدة، فهل هو حقيقةً جسمٌ واحد متصل وقطعةٌ واحدة كما نراه بالحس؟ فإذا فرضنا أنه غير متصل بل هو مؤلَّف من أجزاء، فهل تُوجَد فواصل بين هذه الأجزاء؟ وعلى هذا الأساس ذُكِرَت في الفلسفة آراءٌ متعددة لبيان حقيقة الجسم، وقد نقل المصنِّف لنا خمسةَ آراءٍ في بيان حقيقة الجسم:
- الأول: الجسم متصلٌ واحد بحسب الحقيقة كما هو عند الحس، لاحظ قطعة الحديد، تُحس بها قطعةً واحدةً متصلة، فهي حقيقةً متصلة كما نراها، ولكن ليس لها أجزاءٌ فعلية بالحقيقة وإنما لها أجزاء بالقوة؛ لأن الاتصال ينافي كون الأجزاء بالفعل، وهذه الأجزاء التي هي بالقوة متناهية، ولها حدٌّ وكمِّية معيَّنة. وهذا رأي أبي الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، المتكلم الفيلسوف الأشعري المعروف، صاحب كتاب المِلَل والنِّحَل. وهو أحد المتكلمين المعروفين.
-
الثاني: الجسم حقيقةً متصل، ولكنه ينقسم انقساماتٍ
غير متناهية، وهذا النحو من عدم التناهي يكون
في العدد من طرف الزيادة، وفي الجسم من طرف
النقيصة. كما نرى قطعة الحديد مثلًا متصلة؛
فهي حقيقة متصلة، ولكنها منقسمةٌ انقساماتٍ
غير متناهية؛ إذ نستطيع تقسيم القطعة بالفعل
خارجيًّا حتى نصل إلى قطعةٍ صغيرةٍ جدًّا
جدًّا، عندها يتعذَّر تقسيمها خارجيًّا
وفعليًّا، لكن نستطيع الاستمرار بقسمتها
بواسطة الوهم، وهو مرتبةٌ معيَّنة في الإدراك
فوق مرتبة الإحساس. والتقسيم بواسطة الوهم هو
بالتصوُّر؛ فهو بالقوة لا بالفعل، فإذا عجزَت
القوة الواهمة من هذه القسمة يمكن لقوة
التعقُّل ذات المرتبة الأعلى أن تقسِّم ذلك
الجسم الصغير جدًّا جدًّا.
والفرق بين تقسيم الوهم وتقسيم العقل، أن الوهم يقسِّم الصورة الشخصية التي تكون عند النفس من الجسم الخارجي، وهو هنا ذلك الجسم الذي تعمل الآلات التي تقطِّعه في تقسيمه، وأما العقل فليس من شأنه التصرف والحكم في الصورة، بل يحكم كليًّا بأن: كل ما له حجم فهو قابل للقسمة، والجسم الخارجي — وكذا الصورة التي تُوجَد منه لدى الذهن — ذو حجم؛ فهو منقسم.
إذن هو يقبل القسمة ولا يقف عند حد؛ فالقسمة غير متناهية، وورود القسمة العقلية لا يعدم حجمه؛ فنحن نبدأ بالقسمة الخارجية، حتى إذا عجزنا قسَّمناه بالقوة الوهمية، حتى إذا عجزنا فبالقوة العقلية إلى ما لا نهاية.
- الثالث: الجسم مؤلَّف من أجزاءٍ صغيرة جدًّا صُلبة، غير قابلة للانقسام الخارجي، ولها حجمٌ معيَّن، وإذا كانت هذه الأجزاء لا تقبل القسمة الخارجية فهي تقبل القسمة الوهمية، فإذا عجزَت الوهمية تبدأ القسمة العقلية، وهذا القول منسوبٌ إلى ديمُقريطس، وهو فيلسوفٌ يوناني عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو مؤسِّس النظرية الذرية المعروفة في الفلسفة القديمة.
- الرابع: الجسم مؤلَّف من أجزاء لا تقبل القسمة؛ أي لا يمكن تقسيم الجسم، لا خارجًا، ولا وهمًا، ولا عقلًا؛ أي إن هذه القطعة الحديدية مثلًا، مؤلفة من أجزاء غير متصلة، غير ممكنة التقسيم خارجًا، أو وهمًا، أو عقلًا، وهذه الأجزاء متناهية، وتوجد فواصل بين هذه الأجزاء؛ ولذلك عندما نقطع قطعة خشب مثلًا بمنشار فإنه لا يقطع الأجزاء، بل يمُر بين الفواصل التي هي بين هذه الأجزاء، وهذا ما قاله جمهور المتكلمين.
- الخامس: الجسم يتألف من الأجزاء غير القابلة للتجزئة، وتوجد بينها فواصل كما في القول الرابع، لكن الرأي الرابع كان يقول بأن هذه الأجزاء متناهية ومحدودة، بينما هذا الرأي يقول إنها غير متناهية.
وهذا مذهب النظَّام المتوفَّى سنة ٢٣١ﻫ، وهو من أعلام المعتزلة.
مناقشة الآراء
وهذه الآراء قد عفا عليها الزمن، وهي من التراث العلمي الذي أثبت العلم الحديث بطلانه.
والمصنِّف ناقش هذه الآراء؛ فهو يقول في الرأي الرابع والخامس، وهما يتفقان على أن الجسم مؤلف من أجزاء لا تتجزَّأ، يقول المصنف: لكن هل لهذه الأجزاء حجم؟ إذا لم يكن لها حجم؛ أي يكون حجم كل جزء منها صفرًا، فالصفر إذا أضفت إليه صفرًا يبقى صفرًا، مهما كان قدْر الأصفار المضافة، وبالنتيجة لا يمكن أن يتألف من اجتماعها جسم له حجم.
وإذا كان لهذه الأجزاء حجم مهما كان صغيرًا؛ بحيث لا يقبل القسمة الخارجية لصغره، لكنه يقبل القسمة الوهمية، وإذا توقفت القِسمة الوهمية يقبل القسمة العقلية، فهذا الحجم الصغير جدًّا جدًّا، يمكن أن يكون له أعلى وأسفل، والأعلى له يمين ويسار، واليمين يمكن أن يكون له يمين ويسار.
إذن الرأي الرابع والخامس غير صحيح؛ إذ إنها إن كان لها حجم فإنها تتجزأ، وإن لم يكن لها حجم فلم يتكوَّن منها جسم.
كما أن الرأي الخامس يقول بأن هذه الأجزاء غير متناهية، إذن فالجسم الذي يتكون من أجزاء لا متناهية لا بد أن يكون لا متناهيًا كذلك، بينما نجد الأجسام محدودة ومتناهية في الحجم، كما أن الحكماء أثبتوا بالبراهين الكثيرة بأن الجزء الذي لا يتجزأ باطل، فالقولان الرابع والخامس باطلان.
أمَّا القول الثاني، الذي يقول بأن الجسم كما نراه بالحس متصلًا كذلك هو بالحقيقة، ولا وجود للفواصل في الجسم. فإنَّ هذا القول غير صحيح؛ لأن علماء الطبيعة أثبتوا أن الجسم مؤلَّف من أجزاءٍ صغيرة، وهي بدَورها مؤلَّفة من ذرات، والذرَّة مؤلَّفة من نواة وإلكترونات، والنواة مؤلَّفة من بروتونات ونيترونات.
أمَّا القول الأوَّل، فيرد على القول الأوَّل ما ذكرنا في مناقشة الأقوال الثاني والرابع والخامس؛ لأن القول الأوَّل يذهب إلى أن الجسم متصل بالفعل، بينما الجسم غير متصل بالفعل، كما أنه يقول بأن الجسم يُمكِن قسمته بالقوة لأقسامٍ متناهية، ونحن أثبتنا بأن أقسام الجسم قابلة للقسمة بالقوة إلى أقسامٍ غير متناهية. وهكذا يرد على القول الثالث ما أوردنا على الأول.
والمصنِّف يرى أن الجسم جوهرٌ موجود، أما مصداقه فهي أجزاء الذرة التي يحدث فيها الامتداد الجِرمي، فهو يقبل بقول ديمُقريطس مع تعديل وإصلاح، فإنه كان ينكر اتصال الجسم، والمصنِّف يقبل قوله، لكنه يعتقد بوجود الجسم بمعنى الجوهر المتصل الذي مصداقه أجزاء الذرة.