الفصل الخامس

في إثبات الصور النوعية

لو لاحظنا الأجسام الموجودة في الخارج، كالنار، والنبات، والماء، للاحظنا أن هذه الأجسام ذات آثارٍ مختلفة؛ فالنار تُحرق، والماء يروي، وهكذا، فلا بد لهذه الآثار المختلفة الصادرة من الأجسام من سبب، لماذا الماء لا يحرق، بل النار هي الحارقة؟ فلا بد لذلك من سبب.

وهذا ما عبَّر عنه المصنِّف بقوله: «الأجسام الموجودة في الخارج تختلف اختلافًا بينًا من حيث الأفعال والآثار، وهذه الأفعال لها مبدأٌ جوهري لا محالة.» والمقصود بالأفعال التأثيرات، وهي نفس الآثار ذاتًا وغيرها اعتبارًا، أما المبدأ الجوهري فهو المؤثِّر والفاعل والعلَّة والمقتضي.

قد يُقال: إن المنشأ لهذه الآثار هي نفس المادة الأولى — الهيولى — لكن هذا غيرُ صحيح، ذلك لأن حيثية المادة الأولى هي حيثية الفقدان، وفاقد الشي‏ء لا يُعطيه؛ لأنه لا فعليه لها، بل تمام فعليَّتها أنها قوةٌ بحتة، فهي فقيرة، فيها استعداد للقبول والأخذ لا للعطاء.

وقد يُقال: إن الصورة الجسمية هي المنشأ والسبب لهذه الآثار المختلفة، فنقول: إن هذه الصورة الجسمية واحدة في الماء والخبز والنبات؛ لأن الصورة الجسمية هي الامتداد الجِرمي الموجود في أجزاء الذرة؛ لأنها أصغرُ مصداقٍ للصورة الجسمية كما أشرنا، ثم بعد ذلك تتنوَّع الأجسام للأنواع المختلفة؛ فالصورة الجسمية مشتركة، بينما هذه الآثار مختلفةٌ وكثيرة، فلا بد أن تكون مناشئها متعدِّدة بتعدُّد الآثار. وإلَّا فلو كان المبدأ هو الجسمية، فيلزم وجودها في جميع الأجسام؛ لأن الجسمية مشتركة بينها.

وقد يُقال: إن المناشي لهذه الآثار هي أعراضٌ لا جواهر. فنقول: لو كانت أعراضًا، فكل ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما بالذات؛ أي إلى جوهرٍ معين.

فإذا لم يكن المنشأ المادة الأولى لأن حيثيتها الفقدان، ولا الصورة الجسمية لأنها مشتركة، ولا الأعراض؛ لأنها منتهية إلى ما بالذات، إذن لا بد من كونها جواهرَ متنوِّعة ومختلفة باختلاف هذه الآثار؛ أي هناك جوهر في النار هو السبب في إحراق النار، وهناك جوهر في الماء هو السبب في الارتواء، وهكذا. وهذا الجوهر هو نفس حقيقة النارية، ونفس حقيقة المائية؛ أي هو الصورة النوعية الجوهرية. هذا هو الدليل على وجود الصورة النوعية.

تتمة

إن القدماء كانوا يعتبرون العناصر أربعة؛ الماء، والتراب، والهواء، والنار، وهذا القول باطل بسبب ما ثبت في العلم الحديث من تعدُّد العناصر وكثرتها. والصحيح أن العناصر المكتشَفة حتى الآن مائة وتسعة عناصر. ومن العجيب أن العالم الشهير «مندليف» قد وضع جدولًا للعناصر، وترك فيه فراغًا لعناصر لم تكن مكتشَفة، وهذا هو الجدول الدوري للعناصر المعروف في علم الكيمياء، ثم اكُتشفَت بقية العناصر من بعده. وهذا أحد الأدلة على وجود الله تعالى الذي خلق العالم في أحسن تقويم، وجعل هذا التنظيم المُدهِش للعالم.

والقدماء كانوا يقولون بأنه أول ما تتنوع الجواهر الماديَّة بعد الجسمية، تتكون صورة العناصر الأربعة، ثم تكون موادَّ لعناصرَ أخرى؛ أي ابتداءً المادة الأولى تقبل الصورة الجسمية، ثم الصورة الجسمية والمادة الأولى تكون مادةً ثانية للماء والهواء والنار والتراب، ثم هذه العناصر الأربعة تكون مادةً ثانية أيضًا لصورٍ نوعية أخرى، كالنبات والحيوان وغيره.

ولكن في ضوء البيان السابق، فإن أجزاء الذرَّة هي ذات الامتداد الجِرمي؛ أي هي التي تحلُّ فيها الصورة الجسمية، أو هي أصغر وحدةٍ وأصغر مصداقٍ للجسم، ثم هي، بما فيها من المادة — الهيولى — والصورة الجسمية التي فيها، تكونان مادةً ثانية لصورة الأوكسجين مثلًا، ثم الأوكسجين والهيدروجين يكونان مادةً ثانية للماء، والماء والتراب يكونان مادة ثانية للنبات، وهكذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥