النفس والعقل موجودان
المقصود بالنفس هنا هي النفس الناطقة، والمقصود بالعقل هو العقل في مصطلح الحكماء، وليس عقل الإنسان، بمعنى هو العقل الموجود في العالم العلوي، في الرتبة العليا من عالم الإمكان، كما يرى الحكماء؛ لأنَّهم قالوا بأن عالم الإمكان متدرجٌ يبدأ من عالم الطبيعة — عالَم الناسوت — أو عالم المادة، وتكون أعلى مرتبةٍ فيه هي عالم العقل أو عالم الجبروت، وعالم العقل كما قالوا: هو مجرَّد في ذاته وفي فعله، وخالَف في ذلك المتكلمون فقالوا المجرَّد ذاتًا وفعلًا هو الواجب تعالى.
الدليل على وجود النفس
النفس مجرَّدة في ذاتها وغير مجرَّدة في فعلها؛ لأنها متعلقة في فعلها بالمادة؛ أي إنها جوهرٌ مجرد عن المادة ذاتًا متعلق بها فعلًا، فهنا في التعريف أخذَت ثلاث خصوصيات:
- الأولى: كون النفس جوهرًا لا عرضًا.
- الثانية: كون هذا الجوهر مجردًا بذاته عن المادة.
- الثالثة: كون هذا الجوهر المجرَّد بذاته متعلقًا في فعله بالمادة.
أمَّا كون النفس جوهرًا فلأن الصورة النوعية للجوهر لا يُمكِن أن تكون عرضًا، فما يقوِّم النوع الجوهري لا يمكن أن يكون عرضًا، بل لا بد أن يكون جوهرًا، والنفس هي الصورة النوعية للإنسان، فلا بد أن تكون النفس جوهرًا؛ أي لما كانت النفس هي الصورة النوعية للإنسان، إذن هي الفصل، ولكن باختلاف الاعتبار، والفصل مقوِّم للنوع الجوهري، ولا يمكن أن يكون مقوِّمُ الجوهر عرضًا، وإِنما لا بد أن يكون مقوِّم الجوهر جوهرًا.
تجدر الإشارة إلى أنه قد تقدَّم في الفصل الثاني من هذه المرحلة رأي المصنِّف في أقسام الجوهر؛ حيث أوضح أن النفس داخلة تحت الجوهر بالعرض، بمعنى أنها يصدق عليها مفهوم الجوهر، لكنها ليست مندرجة تحت الجوهر.
أما كون النفس مجردة في ذاتها عن المادة، فبرهنوا على ذلك — كما سيأتي في مرحلة العاقل والمعقول — من أن الصورة العلمية مجردة عن المادة، وإلَّا فلو لم تكن مجردة عن المادة للزم ما أورد من إشكال على الوجود الذهني، وهو انطباع الكبير في الصغير.
وإذا كانت الصورة العلمية مجردة عن المادة وحاضرة في النفس، فلا بد أن يكون هذا المجرد حاضرًا لأمرٍ مجرد؛ لأنه لا يمكن أن يكون الأمر المجرد حاضرًا لدى أمرٍ مادي؛ لأن المادة بذاتها غائبة حتى عن نفسها، وليست حاضرة لنفسها، فأجزاء المادة عادةً غائبٌ بعضها عن بعضها الآخر؛ أي المادة لا حضور لها لذاتها.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن تكون النفس ماديَّة، وإنها لا بد أن تكون مجرَّدة، حتى تكون الصورة العلمية المجرَّدة عن المادة حاضرة عند النفس المجرَّدة عن المادة.
ولهذا يُقال: إن النفس مجردة عن المادة، وإلَّا لو كانت مادية للزم من ذلك أن يكون المجرَّد، وهو الصورة العلمية، حاضرًا لأمرٍ مادي.
ولا يخفى أن الحضور في الاصطلاح — كما سيصرح به المصنف في الفصل ١ من المرحلة ١١ — هو حصول أمرٍ مجرد عن المادة خالٍ عن غواشي القوة، وواضحٌ أنه لو كان العالِم ماديًّا، فيلزم منه كونُ العلمِ الحاصلِ له الحالِّ فيه حالًّا في المادة، فلا يتحقَّق الحضور.
كما أن النفس الإنسانية العاقلة؛ أي المدركة، إنما تحضُر لديها الصور العلمية مجردة؛ لأن الصور العلمية مطلقًا، سواء كانت حسية أو خيالية أو عقلية، هي صورٌ مجردة، على ما يذهب إليه المصنِّف تبعًا لصدر المتألهين. وأما عند المشَّاء فإن الصور العقلية فقط هي المجرَّدة، دون الحسية والخيالية.
من هنا يصبح المراد من النفس العاقلة هي المتعقلة؛ أي المدركة بالإدراك العقلي.
أمَّا كون النفس محتاجة إلى المادة في فعلها فهذا الأمر واضح؛ لأن الإنسان عادةً في فعله، يرى بعينه، يأكل بيده، يسمع بأذنه، يمشي برجله، وهكذا.
الدليل على وجود العقل
العقل مجرد من المادة بفعله وذاته، وبيان ذلك، كما سيأتي في مرحلة العاقل والمعقول، أن هناك أربع مراتب للعقل؛ ففي المرتبة الأولى يكون فيها العقل بالقوة؛ أي يكون فيه استعداد لكي يتعقل المعقولات والصور العلمية؛ فالطفل في اليوم الأول لولادته، ليس لديه صورٌ علمية؛ أي لا يُوجَد لديه علمٌ حصولي، ولكن لديه استعداد وقابلية ليكون عالِمًا بالأشياء؛ ولذلك لو لاحظناه بعد مدة فسوف نجد لديه الكثير من الصور العلمية، فهذه المرتبة التي تمثل الاستعداد لقبول الصور تُسمَّى بالعقل الهيولاني؛ لأنه يشبه الهيولى، فهي تشتمل على استعداد وقابلية لحلول الصور فيها، كذلك العقل في هذه المرحلة هو خالٍ من الصور، لكن فيه استعداد لقبول الصور العلمية. بمعنى يكون العقل في هذه المرحلة بالقوَّة بالنسبة لقبول الصور.
والعقل الهيولاني في مقابل العقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد، كما سيأتي في الفصل ٥ من المرحلة ١١.
ثم بعد ذلك تنطبع الصور العلمية في العقل بشكلٍ تدريجي؛ فبعد مدة نلاحظ أن عقل الطفل قد حصَّل كثيرًا من الصور، فمَن الذي أفاض هذه الصور؟ أهي حادثة أم موجودة سابقًا؟ أي من الذي أوجد الصور العلمية لدى هذا الطفل بعد بلوغه سنتَين مثلًا؟
الجواب: إنها لم تكن موجودة سابقًا، بل الموجود هو مجرد استعداد؛ فهذه الصور تحتاج إلى علَّة في حدوثها، وهذه العِلَّة تُوجِد فيها عِدة احتمالات:
- الأول: أن الموجد لهذه الصور هو النفس.
- الثاني: أن الموجد لها أمرٌ مادي.
- الثالث: أن الموجد للصور أمرٌ مجرد عن المادة ذاتًا وفعلًا.
أما الاحتمال الأول فواضح البطلان؛ لأن النفس في اليوم الأول كانت فاقدةً للصور، وفاقد الشيء لا يُعطيه. كما أن النفس في هذه المرتبة تكون بالقوة، مجرد استعداد، لا فعلية لها.
وقد يُقال إن المانح للصور أمرٌ مادي، فنقول لا يمكن هذا؛ لأن المادة عادةً لا تُعطي وجود الشيء، بل يُمكن أن تُعطي حركة الشيء، وحركة الشيء غير وجود الشيء.
وعلى هذا الأساس قالوا: إن الفاعل نوعان:
-
(١)
فاعل طبيعي: وهو الذي يُعطي الحركة.
-
(٢)
فاعل إلهي: وهو الذي يُعطي الوجود.
المادة هي الفاعل الطبيعي، الذي يعطي الحركة لا الوجود؛ فلو لاحظنا البرتقالة، عندما يتغير لونها وطعمها، فإن الذي يُعطي البرتقالة هذا التغيُّر هو المادة؛ لأنها تُعطي الحركة.
أمَّا المُوجِد فهو الفاعل الإلهي. ولما كانت الصور العلمية مجرَّدة، والمجرَّد أقوى من المادي، فكيف تكون المادة الضعيفة علَّة للمجرد الذي هو أقوى منها، والضعيف لا يُمكن أن يكون علَّةً لِمَن هو أقوى منه.
وعلى هذا الأساس إذا بطل احتمال كون النفس هي المُفيضة للصور العلمية، وإذا بطل الاحتمال الآخر، وهو كون المادة هي المُفيضة للصور العلمية، انحصر الأمر في أن الموجد للصور العملية أو مفيضها هو أمرٌ مجرد من المادة ومنزَّه عن القوة والإمكان؛ أي الاستعداد في ذاته وفعله، وأعلى من النفس، وهذا هو المصطلح عليه بالعقل، كما قال الحكماء.
هذا هو البرهان الأول لديهم لإثبات الموجود في ذاته وفي فعله وهو العقل.
البرهان الثاني
هذا البرهان الذي ذكره المصنِّف، هو ما مرَّ في الفصل السابع، من أن المادة محتاجة إلى الصورة، والصورة محتاجة للمادة. والمادة محتاجة إلى الصورة في تحصُّلها ووجودها، والصورة ليست هي العلة التامة أو العلَّة الفاعلية، وإِنما هي شرط وجود المادة، والعلة الفاعلية للمادة ليست هي النفس بل هو العقل. وهذا برهانٌ آخر لديهم على وجود العقل.
خاتمة
إن من خواصِّ الجوهر؛ أي من أحكام الجوهر، أنه لا تضاد بين جوهر وجوهر؛ لأن التضاد يُفترض فيه أن يكون هناك موضوع، والموضوع يجري عليه الضدَّان؛ فمثلًا يتوارد الضدان على الورقة، فهي تارةً تكون سوداء وأخرى تكون بيضاء، بينما الجوهر موجود لا في موضوع.
من هنا قال المصنف: «لأن من شرط التضاد تحقُّق موضوع يعتوره الضدان، ولا موضوع للجوهر». والمقصود بالموضوع هو المحل المستغني، كما سيأتي منه في الفصل السابع من المرحلة الثامنة.