في إثبات العليَّة والمعلولية وأنهما في الوجود
البحث في الفصل الأول من هذه المرحلة حول إثبات العليَّة والمعلوليَّة، وأنهما في الوجود. والمصنف في هذا الفصل يقرِّر مسألتَين:
- المسألة الأولى: في إثبات نظام العلِّية في هذا العالم.
- المسألة الثانية: في أن نظام العلِّية حاكم على الموجودات، وأن العليَّة والمعلولية إنما هي في الوجود لا في الماهية؛ أي إن الموجود يكون علَّة لموجودٍ آخر، والموجود يكون معلولًا لموجودٍ آخر، ولا تكون الماهيَّة علَّة لماهيَّةٍ أخرى، ولا معلولةً لماهيَّةٍ أخرى.
المسألة الأولى: في إثبات العليَّة
إن نظام هذا العالم قائم على العلِّية والمعلولية، وقد أشار المصنِّف إلى هذه المسألة فيما سبق.
فإذا لاحظنا الماهية فإن عالم الإمكان فيه تلازم بين الإمكان والماهيَّة، فكل ممكِن له ماهيَّة وكل ماهيَّة ممكِنة، وهذه الماهيَّة إذا لاحظناها بذاتها وبقطع النظر عن سواها، فهي من حيثُ هي لا موجودة ولا معدومة؛ أي إن نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية، ولكي يترجَّح أحد الجانبَين وتخرج الماهيَّة من حدِّ الاستواء إلى الوجود أو إلى العدم، فلا بد من علَّة لها تُخرِجها إلى الوجود، أو لا بد أن تنتفي هذه العلَّة لكي تنتفي الماهيَّة.
كما أن نظام العلِّية حاكم في هذا العالم، فإن عالم الإمكان بتمامه صادر من الواجب، وإن نظام العليَّة حاكم في عالم الإمكان، كما نلاحظ ذلك في حياتنا الاعتيادية، بل حتى الذي يستدل على نفي نظام العليَّة، فهو في استدلاله ومن حيثُ لا يشعر يثبت العليَّة ويبرهن عليها؛ لأن هذا الاستدلال يبتغي منه أن يكون علَّة لنفي العليَّة، وحينئذٍ لا بد له أن يقبل في مرتبةٍ سابقة بمبدأ السببية والعليَّة، حتى يكون برهانه ودليله علَّة لإبطال مبدأ العليَّة.
إذن لو لم نقل بمبدأ العليَّة لما أمكن أن نصدِّق بأي قضية؛ لأن الحكم الناشئ من البرهان في القضايا النظرية هو سبب التصديق في القضايا النظرية.
إذن وجود نظام العليَّة وكونه حاكمًا على العالم من الأمور البديهيَّة، التي يصدِّق بها الإنسان بأدنى تأمُّل، وأن الممكنات في هذا العالم محتاجة إلى العلة، وحاجتها إلى العلة من الضروريات الأولية، التي مجرَّد تصوُّر موضوعها ومحمولها كافٍ في التصديق بها.
فعندما نقول: الممكِن محتاج إلى العلَّة، فهذه قضية يكفي لقبولها تصوُّر الموضوع، وهو الممكِن، وتصوُّر المحمول، وهو الاحتياج إلى العلة، مجرد التصوُّر الصحيح يكفي للتصديق بهذه القضية من دون حاجة إلى برهان.
المسألة الثانية: العليَّة والمعلوليَّة في الوجود
إن العليَّة والمعلولية إنما يكونان في الوجود؛ أي إن العلة موجود، والمعلول موجود، وليست العلة ماهيَّة والمعلول ماهيَّة.
قد يُقال: ما الذي يعطي العلية الوجود، أم الماهية، أم النسبة بين الوجود والماهيَّة؛ أي الصيرورة، صيرورة الماهيَّة موجودة؟ وبكلمةٍ أخرى ما هو المجعول الذي تجعله وتوجده العلَّة؟ مع العلم أن هذه المسألة تُعنون في كتبٍ أخرى بعنوان: مسألة الجعل، كما في منظومة السبزواري، وتُبحث هناك بحثًا تفصيليًّا، لكن المصنِّف أشار إليها إشارةً مقتضبة.
وهنا نشير إلى نكتة، وهي أنه قد يحصُل توهُّم، وهو أن العلَّة شيء والمعلول شيءٌ آخر، والعلَّة تعطي شيئًا للمعلول. كما إذا فرضنا أن زيدًا وجودُه مستقلٍّ عن وجود بكر، وزيد يمنح مالًا لبكر، فعندما نقول: العلة ماذا تعطي للمعلول، قد يتوهَّم أحد فيجيب أن العلة موجود والمعلول موجود، ثم العلة تقدِّم شيئًا للمعلول، بينما الأمر ليس كذلك، فإننا عندما نقول «تعطي العلة للمعلول»، فإن هذا من باب ضيق التعبير، وإلا ففي الواقع المعلول غير موجود قبل علَّته، والعلَّة لا تعطي شيئًا للمعلول، وإنما العلَّة تعطي ذات المعلول، فتوجده؛ إذْ لا وجود لطرفَين، لكي تقوم العلَّة بإعطاء المعلول شيئًا ما؛ لأن الإضافة هنا إشراقية وليست إضافةً مقولية، ومن المعروف أنه في الإضافة الإشراقية يُوجد طرفٌ واحد وهو العلَّة، وهي تُفيض المعلول؛ فالمعلول ليس هو إلا المفاض من قبل العلَّة.
ينبغي التنبيه إلى أن ما تعطيه العلة للمعلول، أو افاضة العلة للمعلول، أو إيجاد العلة للمعلول، هذا الأثر الذي تُفيضه العلة الذي هو المعلول، لا بد أن يكون أمرًا واحدًا لا أكثر، فالعلة إنما تُفيض الوجود أو تُفيض الماهيَّة أو شيئًا آخر.
ولكي تتضح هذه المسألة، نقول: عندما نعلِّل أي موجود من الموجودات الممكنة نجد أن لهذا الموجود ثلاثة عناوين — بحسب التحليل العقلي وإلا فالموجود في الخارج واحد — فهو من جهةٍ موجود، ومن جهةٍ ثانية ينتزع منه الذهن عنوان ماهيَّة؛ لأن كل ممكِن زوج تركيبي مؤلَّف من وجود وماهية، ومن جهةٍ ثالثة هناك ارتباط ونسبة بين الوجود والماهيَّة، وهي صيرورة الماهيَّة موجودة.
إذن هناك مفهوم الوجود، ومفهوم الماهيَّة، كما أن هناك مفهومًا أو معنًى حرفيًّا وهو النسبة والعلاقة بين الوجود والماهيَّة؛ أي صيرورة الماهيَّة موجودة. وهنا قد يُقال: ما الذي تعطيه العلَّة؟
الجواب: إن العلَّة عادةً تعطي شيئًا واحدًا، والصحيح أنها إنما تُعطي الوجود، ولا تعطي الماهيَّة، ولا الصيرورة؛ لأنه من المحال أن يكون المجعول هو الماهيَّة؛ لأن الماهيَّة أمر اعتباري، كما تقدَّم في بحث أصالة الوجود، والمجعول من جهة العلة أمرٌ أصيل وليس أمرًا اعتباريًّا.
وقد يشكل: كنا نقول فيما مضى بأن الماهيَّة محتاجة إلى العلة، وحاجتها إلى العلة من الضروريات، فما هو المحتاج إلى العلة؟ أهو ذات الماهيَّة أم وجود الماهيَّة؟
إن الماهية المعلولة، إنما تحتاج إلى العلة وترتبط بالعلة من حيثُ هي موجودة لا من حيثُ هي ماهيَّة؛ لأن الماهيَّة من حيثُ هي ليست إلَّا هي، فحاجة الماهيَّة المعلولة إلى العلة إنما هي من حيثُ وجودُها لا من حيثُ هي.
كما أن المجعول من جهة العلة ليس الصيرورة؛ أي ليس صيرورة الماهيَّة موجودة؛ لأن الصيرورة معنًى حرفي، معنًى نسبي، والمعاني النسبية لا تكون قائمة بذاتها وإنما تكون قائمة بطرفَيها؛ أي إن وجودها وجودٌ رابط وليس مستقلًّا، والوجود الرابط لا يقوم بذاته بل بغيره، ومن المحال أن يقوم أمرٌ أصيل بأمرَين اعتباريَّين غير أصيلَين؛ لأنه إذا اعتبرنا الصيرورة التي هي معنًى حرفي نسبي هي المجعولة للعلة، فلا بد أن تكون الصيرورة أمرًا أصيلًا، وهو قائمٌ بطرفَين هما الوجود والماهيَّة، فيكون الطرفان اعتباريَّين، ومحالٌ أن يقوم أمرٌ أصيل بطرفَين اعتباريَّين.
إذن المجعول للعلة؛ أي الذي تُفيضه وتُوجده هو وجود المعلول، لا ماهيَّته، ولا صيرورة الماهيَّة موجودة.